حوار التناظر مع الأديب خليل السواحري - المتفرجون بقلم: مازن حمدونه
تاريخ النشر : 2019-09-18
حوار التناظر مع الأديب خليل السواحري
الكاتب : مازن حمدونه                                               أغسطس 2019

لم يتوانى الأدب الفلسطيني عن توثيق المشهد والمعاناة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني على مر العقود وتلك الآثار التي ترتبت عن النكبات ، والهزائم ، والنكسات وما آلت إليه مؤامرات الخيانة على الشعب الفلسطيني ودور الاستعمار في تفتيت البنية الاجتماعية ، والاقتصادية ، والمعاناة النفسية ، والإنسانية لتلك الجرائم والمؤامرات، والقرارات المجرمة من دول باغية استعمارية كبريطانيا ، وأمريكا ..فإذا كانت بريطانيا قد قدمت فلسطين على طبق من ذهب للصهاينة ،فلن يهنأ لنا بال حتى نرى بريطانيا مقطعة كقطع البيتزا ، وأطفالهم في الملاجئ بلا مأوى ، وأمهاتهم أرامل .. هذا على الله ليس بكثير وعزيز .

وثق السواحري في قصته "المتفرجون " صورة من صور المعاناة ومدى بطش الصهاينة بشعب أعزل ، ومجتمع مسالم يعيش حياته بعفوية . شكلت قصة "المتفرجون " حالة السلبية بعد هزيمة ونكسة 1967م للمواطنين في مواجهة الاحتلال بعد أن صدمتهم الهزيمة العربية أمام جيش الاحتلال الإسرائيلي . هذه الهزيمة لجيوش عربية في شتى محاور القتال وانتصار العدو عليهم انتصارا ساحقا وطاردهم حتى عقر ديارهم في مصر، والجولان ، وسقوط القدس حطم معنويات الشعب الفلسطيني دون أدنى شك وشعروا بالعجز فيما بعد الهزيمة . كان الناس تنتابهم في سنوات ما بعد الهزيمة شعورا بالرعب لحد الهلع كلما شاهدوا إحدى دوريات الصهاينة الجائلة في المدينة وفي الأحياء وفي أطراف مخيمات اللجوء كان صوت جهاز إرسال اللاسلكي المحمول على ظهر احد الجنود حين يخرخش بالصوت تجد العجائز قد خارت قواهم ويصيبهم شعوراً رهيباً خاصة بعد المجازر التي تعرض لها المدنيين من قبل عصابات جيش الاحتلال بعد النكسة في رفح ، وخانيونس وغيرها كمسلسل دموي متواصل ممتد منذ عام 1948 م حتى ما بعد عام 1967م ..

في قصة المتفرجون ..

جسد المشهد ذاك الشاب ابن القرية القريبة من مدينة القدس ، والذي حصل على عمل له كسفرجي في إحدى المطاعم في مدينة القدس بعد عدة شهور ما بعد النكسة، والتي احتلت عام 1967م ..كان عمله يتطلب منه جهداً كبيراً فهو يبدأ رحلة عمله منذ الصباح الباكر ذاهبا من القرية لعمله في مدينة القدس ويبقى في عمله مطحوناً حتى وقت متأخر من الليل . في مثل حالته كغيره من الناس تحت الاحتلال يتعرضون لبطش جيش الصهاينة، والاستجواب لمن يلتقون به خاصة في وقت المساء ، ويبقى تحت الاستجواب وقتاً طويلا ً، ويبقى تحت رحمتهم إلى أن يطلقوا سراحه ليمضي . هذا الشاب السفرجي كان يتسم بالوسامة ، وطلة جميلة ، علاوة على ذلك كان من أنماط الشخصية المتملقة ، التي تتودد للزبائن ، ولصاحب المطعم لدرجة الخنوع .حتى راتبه رغم انه كان متدني كان راضياً عنه على مضض .وكل ما كان يشعره بالرضا توفر وجبات الطعام له .

بحث السفرجي عن مكان سكن يقطن فيه في محيط مدينة القدس في إحدى الأحياء المحافظة بعيدا عن سكن في حي مشبوه ، فالاحتلال بأجهزته الأمنية كان ينشر فيه كل أشكال الانحراف من خلال عملاء خونه مدسوسين من أردأ أنواع البشر تلك الثلة الساقطة من متعاطي المخدرات والقوادين والشواذ جنسياً ولاعبي الميسر .إلا إن حظه العاثر لم ينال سكناً في حي الشيخ جراح "المصرارة "، وسكن بحي" الواد". نال غرفة فوق احد أسطح المباني المكون من طابقين قديمين من البنايات التي أنشأت بشكل عشوائي متكدسة كعلب الصفيح .من الطبيعي ان لا يلام المقدسيون كغيرهم من أبناء الشعب الفلسطيني الذين تمترسوا في بيوتهم بعد النكبة ولم يهاجروا منها وهم فلسطيني الداخل كالناصرة وحيفا ، واللد ، والرملة وقرى عديدة .فهم يمنعوا من تأهيل أماكن سكناهم أو حتى بناء سكن جديد ..كان حظ هذا الشاب في غرفة هشة فوق سطح تلك البناية التي تقطن فيها مجموعة من الأسر الفقيرة .. ولكن ما كان مثيراً لانتباهه امرأة تعيش لوحدها في مدخل البيوت .. كانت النسوة القاطنات من تلك الأسر تعيش حياتها بشكل عفوي غير مباليات في حوش البناية وكان إثناء مروره يضطر أن يتنحنح كي يشعر النساء بمروره حتى يحتشمن ، وما أثار انتباهه والجدل تلك المرأة التي تسكن وحيدة ، فكانت كل النساء يتحاشونها ولا يختلطون بها وينظرون لها بازدراء ، واحتقار، رغم كل هذا النفور منها إلا ان السفرجي كان ينتابه إحساسا أخر مختلف تجاهها فهي تشبه في ملامح وجهها خالته التي قضت موتا من مرض السل .ربما هذا التشابه حرك داخله تعاطفا معها ودارت في خلده تساؤلات عديدة وشعر بألفة تجاهها يوما بعد يوم .سنحت له فرصة أن يكشف اللثام عنها أكثر من خلال "أبو العبد" صاحب البيت الذي أجره الغرفة ، حين حضر ليأخذ إيجار الغرفة منه .سأله عن حقيقة تلك المرأة وأجابه المؤجر "أبو العبد" في البداية بعد ان غمز بعينه له وبرم شفته إجابة تعفيه من التفاصيل ففيها من الإيحاء ما يفضح المستور قائلا : مالك ومال الناس يا بني ؟! ربنا يستر على الولايا !! وهم أبو العبد بعد أن اخذ بدل إيجار الغرفة للخروج إلا أن السفرجي النازل لديه أصر أن يعرف منه أكثر التفاصيل ، فمسك بطرف كمه مدعيا أن يعزمه على كوب من الشاي رفض أبو العبد وهم بالخروج شاكرا إياه وأمام إصرار السفرجي أفصح له عنها فقال له تكنى "أم احمد " ممن هاجروا من حيفا ، وهي من بنات الهوا .. يتردد عليها الرجال بعد الساعة العاشرة ليلاً ، زوجها مات في حيفا 1948م على أيدي عصابات الصهاينة ولها ابن يقيم في الكويت منذ عشرين عاما ولم نراه مرة واحدة ..واستطرد "أبو العبد " قائلاً : لربما الأيام القادمة لن تجد لها عملاً خاصة بعد انتشار بنات الهوا الصبايا من الإسرائيليات بكثرة في الطرقات ..أصاب السفرجي حالة من الإحباط والحيرة .. أسدل ستائر غرفته وتمدد على فراشه محاولاً  النوم إلا أن حوارا داخليا بدأ يراوده تحول لكابوس يؤرقه .أصبح يراقب بيتها من شباك غرفته التي تطل نحوها بشكل لاإرادي . مساء اليوم التالي تقابل معها عند مدخل الحوش وهي تغلق باب بيتها وتهم بالخروج ، نظرت إليه بنظرة انكسار ومضت في طريقها  .كانت تراود السفرجي فكرة متابعة خطواتها ليعرف وجهتها والى أي مكان تقصد ليثبت أو ينفي ما اخبره به أبو العبد صاحب البيت .إلا انه شعر بالخجل من نفسه لو مضى خلفها وهي متابعة امرأة ساقطة أو خجلا من ملاحقة وكشف أعراض الناس فأعرض وامتنع ..عادت تلك المرأة "أم أحمد" عند الساعة الحادية عشرة ليلاً تحمل بعض الأغراض وحين دخلت غرفتها اخذ يراقبها من نافذته فكانت  تتناول وجبة العشاء .ومن شدة التطفل والحوار الداخلي لديه راودته فكرة زيارتها والجلوس معها ومحاورتها ليعرف حقيقة أمرها وما دفعها لعالم الرذيلة .. فبين إقدام متطفل وإحجام متعثر خشية من يفضح أمره أمام الجيران ناعتين إياه بأنه سقط في شباك " أم احمد" أعرض عن ذلك .في اليوم التالي عاد السفرجي مبكرا من عمله ، ولكنه لم يجد "أم احمد" التي كانت موثقة باب بيتها فهي كعادتها تخرج ليلاً تبحث عن صيد ثمين تقضى معه بعض الوقت لتنال منه بعض المال بدل نزوته معها .وحقا عادت وبصحبتها رجلا انتظرها لحين فتحت الباب ودخل وأسدلت ستائر غرفتها وبعد ساعة من الزمن أطفأت أنوار البيت وخرج فجأة ذاك الرجل من بيت أم احمد تحت جنح الظلام .لولا شرع الله لقلنا خرج الزاني من بيت الزانية ولكنا لا نستطيع جزم ذلك .في اليوم التالي لم تغادر "أم احمد" البيت مساء ذلك اليوم كعادتها وتبين أن لديها امرأة تزورها ، اعتقد السفرجي قد تكون من بنات الهوا ، وكانتا منهمكتان في الحديث معا لربما تناولتا سرا ما وعند الحادية عشرة ليلا غادرت تلك الضيفة وودعتها أم احمد بحرارة عند صوب الباب الخارجي ودخلت أم احمد بيتها بهدوء وصمت وكانت تجلس على الكرسي وذهنها شارد وتفكير عميق ولم يلفت انتباهها ان نوافذ بيتها كانت مشرعة .اعتقد السفرجي أن هذا النمط من الصمت والهدوء يوحى ربما لكبر سنها وهرمها أو رزانة عقل . يقول السفرجي كان يتعرض لمثل تلك الحالة عندما يشاهد فيلما في السينما يتناول قصة درامية يبقى في حالة من الحزن ساعات وتتلاشى ..باستثناء حالة أم احمد التي ولى زمانها والتي صاحبت مخيلته في معظم الأوقات والأماكن .يقول السفرجي : كلما كنت أقدم إطباق الطعام والشراب للفتيان والفتيات  الإسرائيليات ينتابني شعورا بالمرارة والحقد إذ تحضرني صورة أم احمد البائسة التي ولى زمانها كما يولي زمن السفرجيه حين يهرمون وتصبح أياديهم ترتعش عندما يقدمون أطباق الطعام للزبائن .استيقظ السفرجي مبكرا في يوم إجازته ليراقب ام احمد ، كانت المرأة تتحرك بنشاط غير عادي وتهم للخروج من بيتها عند الساعة الحادية عشرة صباحا ، اخذ السفرجي يتبعها بهدوء وخلسة وراقب  طريقها إذ اتجهت صوب المسجد الأقصى من يوم الجمعة مما أثار حفيظتي وحيرتي ! كيف لامرأة مثلها تتجه لمكان مقدس كهذا ؟ هل تحولت لقديسة في ليلة وضحاها ؟ أصابتني بالصدمة والصداع حين دخلت باحة المسجد الأقصى ، فليس من المعقول ان تتواعد مع رجل ساقط في المسجد المقدس ، ودعاني لأتذكر كلام أبو العبد الذي استأجر منه الغرفة هل كان يتجنى عليها حين اتهمها بالفسق ؟عصف ذهني ، حوار داخلي عميق ، صور ذهنية تتنافر مع بعضها ، عواطف متصارعة وعيون أنهكها التعب من شدة المراقبة ...دخل السفرجي باحة المسجد الأقصى وتوضأ وصلى في باحة المسجد الأقصى الخارجية ، وكانت صلاته ما بين العبادة وما بين الرغبة في متابعة ام احمد كان خلطا بين الإيمان والدنيا يجله شك أنها من عالم الرذيلة .يقول الشاب السفرجي بعد انتهاء صلاة الجمعة انتعل حذائه بسرعة ،وبقيت انتظر تحت أشجار الصنوبر في الباحة الخارجية في الطريق المؤدى لمسجد الحريم ، تفاجأ بتكدس النساء وهن يتكدسن حول بعضهن البعض وكن يحملن أكاليل من الزهور ويافطات مكتوب عليها عبارات المجد والخلود لشهدائنا الأبرار .انسحبوا من القدس أيها الغزاة .وتعالت الصيحات والأصوات تهتف بحماسة .كان الرجال في الجانب الشرقي يتدفقون كالسيل خارجين من المسجد وهم مندهشين مما يحدث أمام أعينهم ، وقع لغط وهرج فلاذ الرجال بالهرب صوب قبة الصخرة تجاه المداخل الشرقية يراقبون مسيرة النساء وهم في حالة ذهول ويقول السفرجي انه كان واقفا أسوة بغيره من الرجال وفاغر فاه ومحدقا بعينتاه وهو يترقب أن يرى أم احمد ، وفجأة  ظهرت أم احمد تحمل إكليلا من الزهور وتهتف بحماسة القدس عربية ويسقط الاحتلال !وهنا وقع السفرجى في حيرة وارتباك مجددا . راوده سؤال هل هذا الحشد الهائل من النسوة مثل أم احمد ؟ فقدن مصدر قوتهن بسبب الاحتلال ؟أم أنها هي الوحيدة العاهرة من بين النساء؟ولماذا يتظاهرن معها ؟

إضاءة من كاتب حوار التناظر ...

وقع السفرجي مجددا في أخطاء الخلط والشطط وكان له ان يتساءل :

هل يكون هذا الحشد الهائل من النسوة قد فقدن أزواجهن عام 1948م عام النكبة وما تلاها من حقب زمنية مرورا بعام النكسة عام 1967م   مثل أم احمد ؟ أم منهن من فقدن أبناء أعزاء عليهن أيضا ؟ إذا كانت أم احمد هي العاهرة الوحيدة في صفوف المتظاهرات ، ليس بالضرورة أنهن يتظاهرن معها ، ولكن انضمت هي لهن تشارك في تلك المسيرة خاصة بعد أن زارتها إحدى النساء ليلة الأمس لتعزز عزمها بالمشاركة معهن .هل هذه المرأة الدونية التي مارست الرذيلة والعهر دافعها وطني ؟أم دافع نفسي لتتظاهر ضد الاحتلال الذي سبب لها سقوطا مدويا في عالم الرذيلة بعد أن دمر الاحتلال نسيجها الاجتماعي ، وقتلوا زوجها وهجروا ابنها واستولوا على بيتها في حيفا ؟ إن حالة الصمت التي خيمت عليها في الليلة التي سبقت المسيرة بعد ان زارتها إحدى النسوة ، ربما شد من عزيمتها لتشارك بحماسة بعدما قلبت في ذاكرتها أم عينها نكبات الماضي .

تساؤلات السفرجي كانت معظمها مهووسة ضبابية  ما بين الإذلال ، والتقديس تارة تبرئها وأخرى تتهما بالسقوط المدوي في عالم الانحطاط ، والرذيلة .جل اعتقاده إنها تشارك النسوة في تلك التظاهرة الحاشدة كما يعتقد كي يتم طرد العاهرات الإسرائيليات من شوارع القدس اللواتي كانوا سببا في قلة عملها الدنيء ؟ كيف هذا وتلك الإسرائيليات أجمل منها وهن في سن الصبا ؟ ويعشن حياة مطمئنة تحت حماية دولة الاحتلال ؟!

 كان هو وبقية الرجال الآخرين جل عزمهم متفرجون هالكون خائفون يتسحبون بجانب الجدران كحرابي وسحالي مرعوبة كانوا رجالا من ورق هلافيت سلبيون .

مضت المسيرة الحاشدة وازداد صخبها وكانت المواجهة على أشدها عند باب الساهرة" ، بينما الرجال كانوا يتسحبون على مقربة منهن بخوف ، وحذر وتارة يتخلفون عنهن جاهزون للانسحاب والهرب ..ظهر رجال الشرطة الذين يمتطون الخيول ليهاجموا جموع النساء بخيولهم يدوسون  بخيولهم على النساء تسمع حمحمة الخيول الهائجة وصدورها ترتفع لأعلى وأياديها تعجن من يقع تحتها وأرجلها تدوس بحوافرها رؤوس النساء وظهورهن . في تلك الأثناء كان السفرجي كغيره من بقية الرجال يراقب المشهد عن بعد ، وشاهدوا كيف حصل الهرج والتدافع والعويل والصراخ والهتافات والفر حقا كان مشهدا مروعا عندما هوت امرأة على الأرض والخيول تدوس عليها بلا رحمة وسقطت أكاليل الزهور وخطت الدماء الأرض ودوت سيارة الشرطة تطارد النساء الهاربات والرجال في حالة ذهول ! تجمهر الناس على وقع الحدث الدامي ولم تتوانى الشرطة في تفريق جموع الناس .

أخذت عيون السفرجى تراقب المكان باحثا عن تلك المرأة أم احمد فلم يجدها ومضى عائدا لغرفته ونظر صوب باب بيت أم احمد في مدخل الحوش وكان محكم الإغلاق ومعتم من داخله يشير بعدم عودتها طوال الليل . في اليوم التالي وهو في مكان عمله سمع عمال الفندق يتبادلون أطراف الحديث بأسى عن امرأة تكنى أم احمد داستها الخيول عند باب الساهرة في المسيرة التي كانت تتجه صوب قبور الشهداء ، علق احد العمال أن زوجها مات زمن النكبة عام 1948م . التزم السفرجي الصمت ولم يتجرأ أن يعلق بكلمة واحدة تمجيدا وتبجيلاً ، أو فضح سر من أسرارها  كما وصمها أبو العبد عندما حضر في أول لقاء معه وهنا قرر السفرجي أن يغير مكان سكناه في الحال .. قد يكون قراره صائبا