حماس بين الترابي والسلفية والقرضاوي بقلم:سري سمور
تاريخ النشر : 2019-09-18
حماس بين الترابي والسلفية والقرضاوي بقلم:سري سمور


في مقال الأسبوع الماضي (فشل الثوار الأفغان أحرج وأضعف التيار السلفي في حماس)  تحدثنا عن  تقهقر وتراجع ملحوظ للتيار السلفي بفتاويه التي تأخذ بالتشدد (لنقل بالعزيمة دون الرخصة) داخل الحركة، وهو التيار الذي سوّق وبالغ في المراهنة الساذجة على أفغانستان ومجاهديها. وفي هذا المقال سأناقش محاور أخرى ونقاط جديرة بتسليط الضوء عليها؛ ولا بد من التذكير أنني أهدف إلى استعراض تطور المنهج الفقهي أو الآراء والفتاوى التي أخذت بها حماس عبر مراحل مختلفة.

الترابي والسودان وأسطورة جديدة

في زمن لم تكن فيه وسائل الإعلام في العالم وفي فلسطين قد دخلت مرحلة التطور والانتشار، وقع انقلاب عسكري نفذه الفريق عمر البشير في السودان؛ ولاحقا تحالف البشير مع المفكر الإسلامي د. حسن الترابي وشكلا ثنائيا (استمر لسنوات قبل الافتراق) لحكم هذا البلد شاسع المساحة، وافر الخيرات، الذي يعاني حربا أهلية في جنوبه وأزمات اقتصادية تسبب بمجاعات. ماكنة الإخوان وحماس الإعلامية ومنابرها ضخمت وبالغت في تصوير أوضاع السودان في ظل الانقلاب العسكري؛ وجرى بث أساطير حول كيفية تنفيذ الانقلاب، وتم رسم صورة للسودان وكأنه في ظل حكومة (الإنقاذ) يعيش أهله في رغد يفوق ما يعيشه أهل الدول العربية النفطية! طبعا ساعد على اختلاط الحقيقة بالواقع عوامل وتغيرات عدة حقيقية في السودان؛ منها تمكنه من تحقيق انتصارات على جماعة (جون جارانج) المدعوم علنا من إسرائيل في الجنوب، لدرجة استشهاد وزير أو أكثر في المعارك، وتصاعد نشاط السودان الخارجي، وتسليط الإعلام الأمريكي الضوء على أوضاعها، ووسمها -كالمعتاد- بالإرهاب.

ومن ضمن النشاطات التي اجتهد فيها السودان ود. حسن الترابي -رحمه الله- محاولة إبرام اتفاق بين فتح وحماس في ظل تصاعد التوتر بين الحركتين في الداخل بعد مؤتمر مدريد. وقد تبين لاحقا أن الترابي وفريق الحكم في الخرطوم كانوا يضغطون على حماس لتقديم مواقف وتنازلات لفتح و م.ت.ف لم تطلبها الأخيرة نفسها! طبعا هذا لم ينشر ولم يعرفه أحد من غير قيادة حماس إلا بعد سنوات... على كل قد أعود إلى موضوع السودان من الناحية السياسية فيما يخص القضية الفلسطينية وحماس لاحقا.

ما يهمنا هنا هو أن الترابي بثقافته الواسعة وجمعه بين البساطة والفكاهة والكاريزما صار من أهم المرجعيات الحركية الإسلامية داخل وخارج السودان. ولكن وإن تقبلت حماس الترابي كمفكر ولكنها لم تتقبل آراءه وفتاويه الفقهية التي شنّ السلفيون عليها حربا شعواء، وهي (متحررة) إذا صح الوصف أكثر بكثير من فتاوى القرضاوي. ولكن هناك جوانب أخرى في ظل تسويق حماس للحالة السودانية الإنقاذية؛ مثل ظهور الفريق عمر البشير يرقص رقصة شعبية دوما في لقائه مع جماهير شعبه، وبث التلفزيون السوداني أغاني شعبية مع موسيقا بلا حرج. كما أن مطبوعات وصحف مقربة أو محسوبة على حماس ذكرت موضوع بث الأغاني باحتفاء كون الأغاني شعبية وحماسية (من الحماسة) وغير ذلك، طبعا لم يكن الفلسطينيون في الضفة والقطاع يلتقطون بث تلفزيون جمهورية السودان ولكن ما كان يبثه مثلا تلفزيون إسرائيل من تقارير عن البلد يعطي صورة على أن الأهازيج والأغاني الشعبية أمر عادي عند حكومة الإنقاذ وإعلامها وجماهيرها.

ومع كل الترويج والأسطرة حول السودان الذي مارسه إعلام حماس وخطباؤها، لم تتحرر حماس من موضوع الأخذ بحرمة الأغاني والآلات الموسيقية، وظل النشيد الخاص بها وبالمقربين منها يستخدم الدفوف وما شابه (لاحقا جهاز إلكتروني مبرمج) ولم يكن أي حمساوي يجرؤ على سماع الأغاني حتى غير العاطفية أمام قادته. بقي الأمر كذلك حتى سمح أو أفتى القرضاوي بعدم الحرمة؛ وصرح في مقابلة صحفية أنه يستمع أحيانا إلى أم كلثوم وفايزة أحمد.. وعليه يمكن القول إن تأثير السودان ظل في إطار فكري حركي على جمهور حماس، والذي وصل به الحال في وصف وضع السودان وكأن دولة الخلفاء الراشدين بعثت في الخرطوم استنساخا من سيرتها الأولى في المدينة المنورة!

زيادة الفرقة بين حماس والسلفيين

كان التيار السلفي يواصل التقوقع ومحدودية التأثير لأسباب عدة منها على سبيل المثال لا الحصر؛ الفتاوى بجواز الاستعانة بجيوش أجنبية ضد صدام حسين الذي اجتاح الكويت. ناهيك عن فتوى تنسب إلى ناصر الدين الألباني بأن يهاجر أهل فلسطين منها، وذلك ردا على سؤال وجه له... وهذا يقودنا إلى مسألة لا تقتصر على السلفية بل على أن كل من لا يعيش وضع فلسطين حتى ولو كان فلسطينيا وليس ألبانيا-سوريا فقط لا يمكن أن يفتي وفق معطيات واضحة، فالظاهر أن الألباني قد فهم أن أهل فلسطين يفتنون في أمور دينهم الشعائرية أو ما شابه، ناهيك عن عدم إدراكه للعامل الديموغرافي في الصراع وغير ذلك...على كل هذا أنزل أسهم السلفية.

كما أنه ظهر تيار سلفي بعد أوسلو يدعو إلى ترك السياسة واتخذ في البداية جانب الحياد في الصراع السياسي والإعلامي بين حماس والجهاد وبقية المعارضين للاتفاق من جهة والسلطة وفتح ومناصرو الاتفاقيات من جهة أخرى؛ بدعوى شعار اشتهروا به (من السياسة/الكياسة ترك السياسة) وانشغلوا وحاولوا إشغال غيرهم بمجادلات انتهت منذ قرون؛ فتارة يشنون حربا على الأشاعرة وتارة على الصوفية، وبالتأكيد حربهم التي لا تنتهي على الشيعة وإيران...ولكنهم(جزء فعال منهم) لاحقا انحازوا إلى السلطة كنوع من تقليد التيار القائل بإطاعة ولي الأمر في الدول العربية الأخرى، وكان هذا في إطار التمايز عن حماس والجهاد الإسلامي وأيضا للتمايز عن تيار السلفية الجهادية الذي كان نجمه يلمع.

وفي خضم الحالة الفلسطينية التي كان من أبرز ملامحها العمليات الاستشهادية (التي أجازها القرضاوي كما ذكرنا) لم يكن الشارع الفلسطيني مستعدا للانشغال بقضايا وخلافات يفترض أنها انتهت فعليا منذ قرون، ولم يكن المزاج الشعبي يتقبل عموما ترك الشأن السياسي، في ظل حالة الاستقطاب الثنائي الحاد. ولكن التيار السلفي داخل حماس أظهر افتراقا ومفاصلة فكرية عن التيار السلفي العام الذي تبلور وصارت له مطبوعاته ومؤسساته ومنابره؛ فأخذ سلفيو حماس يروّجون أنهم هم من يمثل السلفية الحقيقية، وظل الاحتفاء بابن تيمية وتبجيله سائدا في أوساط حماس، وإن افترقت فعليا عن التيار السلفي التقليدي الذي تبلور.

رحيل رموز وعلماء السلفية أخلى الساحة للقرضاوي

وإضافة إلى ما سلف فإن التيار السلفي ازداد انسحابا وأخلى موقعه للقرضاوي في أوساط الإخوان وحماس نظرا لعوامل وظروف ربانية فقد توفي رموز وعلماء التيار البارزون تباعا وشاء الله أن يظل القرضاوي على قيد الحياة بنشاط وحيوية دون أن يحل محل من رحل من رموز علماء السلفية من يملأ الفراغ الذي تركوه. فقد توفي (1999) الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- والذي حرصت حماس على تبجيله أو مجاملته لمكانته المميزة حتى وفاته وحرصت (مع بقية الإخوان) على إظهار حسن العلاقة بينه وبين القرضاوي؛ وهي فعلا علاقة سادها أدب الاختلاف الراقي.

وتبعه المحدث ناصر الدين الألباني -رحمه الله- صاحب المدرسة السلفية الموازية لمدرسة ابن باز في بعض الشؤون والفتاوى بعد شهور. وتوفي بعدها (2001) الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله- والذي يشاع أنه كان له موقف حادّ من القرضاوي على عكس موقف ابن باز، مع ما ذكرته في مقال سابق أن العثيمين عاد إلى المذهب الحنبلي في أواخر سنوات عمره، ولكنه كان وما زال رمزا مهما بارزا مؤثرا من رموز المدرسة السلفية. وهناك عوامل أخرى مهدت للقرضاوي الهيمنة على ساحة الفتوى في أوساط الإخوان وحماس سأناقشها في المقال القادم بمشيئة الله.