زائر وُجدة .. زاوية رؤيه للمجتمع المغربى بقلم : ياسر رافع
تاريخ النشر : 2019-09-17
زائر وُجدة .. زاوية رؤيه للمجتمع المغربى
بقلم : ياسر رافع
" الزمن عدو الإنسان .. والماضى بلد ما عدت أسكنه .. إنما أتعايش ذكرى هذا الماضى المنتهى كخيبة إذ يستحيل إيجاده ثانية وإستعادته ، ومن هنا الشعور بالألم ... ولكن لحسن الحظ إلى جانب ألم الخسارة هذه ، هناك فسحة مضيئة ، أى التعويض بالقدرة على التذكر . نعم ، الحنين شعور حلو ومر فى آن " !
هذا هو ملخص رواية " زائر وُجدة " للكاتب اللبنانى " محمد طعان " ورد على لسان إحدى بطلات الروايه إذا أردت أن لا تتعمق فى الروايه بالشكل الصحيح ، وهى روايه وصفيه تشبه العوالم الوصفيه للكاتب الروائى المصرى " خيرى شلبى " ولكن تختلف عوالم الطعان بحدود التماس التى لا تتجاوزها ربما خوفا من النقد أو لعدم إنتماء الكاتب لنفس البلد التى يكتب عنها ، فالروايه تأخذك بسحرها الوصفى وإيقاعها السريع إلى روح مملكة المغرب التى غاب عنها مجتمع التعايش إلى حدود أصبحت غير مقبوله وسط عالم متسارع .
كاتب الروايه هو نفسه بطل الروايه فهو الجراح فى الواقع المهنى وكذلك بطل الروايه وإن إختلفت التفاصيل ولكن بقيت روح الجراح الذى إستخدم مشرطه فيما مضى داخل غرف العمليات ولما كبر أمسك بمشرط إجتماعى حاد يفصل به بين حدود إجتماعيه لم يعد ينفع فيها مشرط جراح ماهر .
الروايه تطوف بنا بداية من نقطة إرتكاز لها وهى مدينة وُجدة ، تلك المدينه التى مضى فيها الطبيب الفرنسى العائد إليها بعد خمسة وعشرون عاما غيابا كجراح يبتغى فى سنوات عمره المتقدمه ومرضه الذى لن يشفى منه والذى أبعده عن عمله كجراح أن يعيد ذكريات الماضى لعله وهو الذى لم يتزوج ولم ينجب أن يجد ما يعوضه عما مضى من عمره ، ولكن ما أن تطا قدمه المدينه ودخوله الفندق لا يستطيع مقاومة الحنين والشوق للماضى فيسرع بالخروج للقاء أيامه الماضيه ، ولكنه يصطدم مع تقدم الروايه وطريقة الوصف الدقيقه للأماكن والطرقات وحتى جدران المنازل والحشائش التى نمت بفعل التقادم على الجدران والطرقات القديمه ، بأن الزمن قد غير كل شئ فكل من رآهم فى الماضى قد هرموا ومات من مات منهم ، حتى حبيبته الممرضه قد تزوجت وفعل بها الزمن فعلته .
ومع بدايات الإصطدام الأولى بحقائق الزمن يدرك الطبيب الجراح أن مكوثه فى وُجدة لم يعد له فائدة ويقرر أن يرحل عنها ، حتى تلعب الصدفه البحته لعبتها ويقابل رجل يهودى أعمى وإبنته بالتنبى وبدأ التعارف بينهما ويقرر البقاء ملازما لذلك اليهودى الأعمى ودليلا له طوال إقامته فى المدينه خصوصا وأن إبنته بالتبنى ستغيب لمدة أسبوعين خارج المدينه لقيامها بدراسه عن الوجود اليهودى فى المغرب .
وهنا تبدأ رؤية الكاتب الجراح عن الواقع الإجتماعى المغربى من خلال بطل الرواية الطبيب الجراح واليهودى الورع التقى المتصوف اللذان طافا المغرب شرقا وغربا ، وجعلا من الحدود كما أرادها الكاتب دليلا حيا على الأزمه الوجوديه التى يعانيها المجتمع المغربى والتى لم توجد فى الماضى ، فوصلا إلى حدود المغرب والجزائر ليلامس أزمة حدوديه بين شعبين عبر قصة حب بين اليهودى الأعمى وزوجته المتوفيه قديما سطراها على الخط الفاصل بين الحدود ولم يتبقى من تلك القصه إلا شواهد الكتابات على الصخر وبقيت الحدود كفواصل . ووصل لمنازل وشواهد قبور ما تبقى من يهود المغرب الذين رحلوا عنها إختيار أم قسرا وهى حدود التكفير والتزمت التى بدأت تنتشر فى المغرب ضد اليهود والمسيحيين وتحول الجراح بطل الروايه فى زوايا الروايه إلى نصرانى وليس مواطنا .
ومع طواف بطلى الروايه الجراح والأعمى نصل إلى حدود الخصوصيه المغربيه والتى أشار لها الكاتب ولكنه لم يرد التعمق فيها ، وهى خصوصيه التدين وتلاشى الحدود ما بين الصواب والخطأ فى بعض الأحيان ، فهذا هو اليهودى الورع التقى يطوف بمقامات الأولياء اليهود ويبتهل متضرعا لها فى جو صوفى لا تخطأه العين تزداد مع الرؤى التى يراها فى مناماته وهو ما يزعزع كيان الطبيب الجراح ، هذا فى الوقت الذى تختلط فيها تلك المقامات ليس باليهود فقط ولكن بالمسلمين أيضا فى تلاشى لحدود المنطق الدينى . ثم نصل لقمه تلاشى الحدود مع وصولهم لبيت الدعارة الذى تديره حبيبة قلب الطبيب الجراح الممرضه السابقه والتى يدخلون عليها فيجدونها تصلى بينما غرف البيت مليئة بكل الموبيقات وهو ما ذكر الجراح بوالدة حبيبته قديما عندما سألها عن صلاتها وهى تدير بيتا للدعارة فأجابته بأنها تريد المال الكافى لتذهب لتحج البيت الحرام .
ويتذكر اليهودى الورع كيف وهو فى إسرائيل كيف أن جارته العلمانيه كانت ترفض طقوسه الدينيه لأنها تزعجه فيتذكر المغرب وكيف كان المسلمين يتقبلون إزعاجه فى الصلاة ليلة السبت دون الإتصال بالشرطه وهو ما جعله ضمن أسباب أخرى يهاجر إلى كندا . ويتوفى اليهودى الورع المتصوف ويظهر الخلاف الحاد بين ما تبقى من يهود المغرب لحد التزمت على جثته حتى يتم الدفن .
ومع تجوال الجراح مع اليهودى الورع حيا ، ومع تجواله مع جثته فى آخر الروايه ، تصبح الطبيعه الخلابه للمغرب حاضرة وبقوة فى الريف وفى المدن وفى بقايا مناجم الفحم ، وفى جبال الأطلسى وبالجو اللطيف والبرودة التى تصل الصقيع وإنتشار الثلوج فى الشتاء
الروايه ليست روايه وصفيه فقط إنها رؤية كاتب متمرس أضافت له مهنته كطبيب جراح بعدا كبيرا لفهم الشخصيه خارج حدود وطنه الأم ، رواية تستحق القراءة اكثر من مرة ، تثير أسئله كثيرة عن المكان والزمان داخل مملكة المغرب ولكن إجاباتها لا تتسع لها الروايه وإنما يجب أن يتسع لها صدر المغاربه ليجيبوا عن أسباب ما آل له المجتمع المغربى الذى كان يسع الجميع دون تفرقه .
الروايه تحمل دلالات كثيره عن أزمة المجتمع المغربى والعربى بعامه ، أزمه التعايش التى ترفض الآخر الدينى ! وأزمة الخلاف الواحد بين أتباع الدين الواحد ! وأزمة الحدود الجغرافيه بين الدول العربيه ! وأزمة التدين الشعبى الذى تختلط فيه المفاهيم الدينيه وتضيع بين زواياه ملامح الدين نفسه !
إقرأوها !!