فى كل جارحة فم! بقلم:محمد أبوالفضل
تاريخ النشر : 2019-09-17
فى كل جارحة فم! بقلم:محمد أبوالفضل


فى كل جارحة فم!       بقلم الكاتب محمد أبوالفضل

نكرر دوما پمناسبة او بغير مناسبة أننا أمة أقرأ التى لا تقرأ أفيش لأعلان فيلم على لوحات الأعلانات فى شوارعنا نكاد نراها لا يمر يوم او لقاء بمثقفين وإلا ونسمع الموعظة نفسها عن كوننا أمة اقرأ التي لا تقرأ مع أن الآية الكريمة التي بدأ بها الوحي القرآني لم تقدم أمرا مباشرا حتميا للنبي صل الله عليه وسلم  ولا لأتباعه والتابعين بالقراءة وإلا كان النبي صلى الله عليه وسلم سيحرص فورا على تعلم القراءة ولكن لا أذكر أن أحدا وصفنا بأننا أمة {وأغضض من صوتك} التي لم تعرف الهدوء فى يوم من الأيام  مع أن هذه الوصية أيضا من الوصايا اللقمانية الحكيمة التى لم تكتف بالحث على غض الصوت فحسب  بل اقترنت دون أخواتها من الوصايا بتشنيع القبيح فمن لا يمتثل لآداب الغض من الصوت وفقا للآية الكريمة { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } أى ليس سوى متشبه بالحمير! 

 لقد كان العرب قديما كغيرهم مضطرين للصراخ في ناديهم وتجمعاتهم فى المناسبات العامة فالشاعر والخطيب والمطرب والمنشد لن يجدوا لصوتهم صدى ما لم يكن صوتا جهوريا بما يكفي لبلوغ الآذان الصاغيه وربما تثنت وصية لقمان الحكيم القديمة في أمة القرآن لتنبيههم إلى قبح هذه العادة الذميمه في غير حاجة لها ولكن ثقافة سوق عكاظ ما زالت حاضرة بقوة في أواصر الحياة اليومية فى مجتمعاتنا العرلية فلا يكاد حوار بين طرفين يخلو من صراخ والزعيق والصوات وهو أمر لا يختلف في ذلك جدل بين أميين جهال في مقهى عن مناقشة رسالة علمية او أدبية و أكاديمية بين أساتذة في قاعة محاضرات أو عن مناقشة لقانون بين أعضاء في مجلس للنواب او شيوخ فالكل لديه قناعة راسخه مفادها أن الغلبه والحق حليف الأعلى صوتا والأكثر صخبا حتى لو كان أقربهم سلوكا للحمير بحسب تعبير الوحي نفسه.

أذكر شكوى صديق وجار مسن قضى عمره مغتربا في فرنسا ثم عاد متقاعدا إلى الوطن كان يشغله البحث عن خطيب جمعة يعظ دون صراخ على المنبر والطريف أنه لم يجد ضالته إلا عند شيخ يهمس همسا ليس لشيء إلا لأنه مصاب بمرض ما بالحنجرة!

مما لا شك فيه وأمر قد لا يختلف أثنان عليه ألا وهو أننا أمة مستورِدة ومقلده للغرب بطريقة عمياء وتلك صفة تضاف إلى ما سبق دون نقاش إلا أن استيرادنا أنتقائي مذموم للأسف الشديد فمع أننا أستوردنا أحدث أجهزة الصوتيات وتوابعها إلا أننا لم نتخلص بعد من ثقافة أسواق الجاهلية، بل نطبقها بكل حذافيرها يوميا في مظاهر حايتنا المستوردة

 فخذ مثلا المقاهي العصرية "الكوفى شوب" التي نقلناها عن الغرب هناك تعد الملاذ الأول للهاربين من صخب المدن إلى فضاء السكينة والقراءة والفنون والإبداع  بينما تحولت لدينا إلى نواد للتحرش وللسمر التافه فى أمور غاية فى التفاهه ومتابعة المباريات والتشجيع المحموم الذى ربما يصل لحد التشابك بالأيدى بين المشجعين وتبادل الأحاديث الصاخبة وقارن أيضا ما بين وسائل النقل والمواصلات العامه لديهم التي يتابع فيها الموظف أعماله والطالب دراسته وبين وسائل مواصلاتنا العامه التي تعجز فيها غالبا عن أى شئ حتى القراءة أو النوم بسبب الصخب والضجيج.

 وتأمل أنماط المكاتب الجماعية المفتوحة التي أستوردناها من السوق الرأسمالي الغربى مجردة عن لوازمها إذ هناك إستحاله العمل في بيئة يتشارك فيها عشرات بل مئات الموظفين دون تطبيق تلك القاعدة الهامه  "واغضض من صوتك" فتحولت للأسف مؤسساتنا إلى سوق عكاظ كلما تحاور رفيقين للتخفف من ضغوط العمل أو خاضت زميلة حوارا نسائيا فى شئون المطبخ على الهاتف 

قد لا تكون مقارنتنا بالغرب دوما عادلة فثمة صخب أيضا في مجالسهم وحواراتهم  ولكن أن "أمة واغضض من صوتك" هى الأولى بالألتزام بهذه الأدب العامه بل هي مأمورين بتربية أبنائنا على وصايا لقمان الحكيم  لأبنه.

وربما سجل فلاسفة وأدباء ومثقفين بالغرب معاناتهم مع مجالسهم وبخاصة أولئك الفئه الانطوائيه المدفوعة بقوة الأستبطان إلى العزلة

 أما شيخ الأدباء الرائع علي الطنطاوي فأورثنا شيئا من معاناته وآلامه النفسيه مع الصخب وأهله حيث أفرد صفحات عده من مذكراته لوصف الثقلاء فى مجالسه ولتوثيق العذابات التى قضت مضجعه كلما أصر أحد جيرانه الثقلاء على مشاركة الحي بأمسيات الطرب مع غناء كوكب الشرق أم كلثوم ... فماذا كان سيكتب رحمه الله عليه  إن قدر  له خوض غمار تجارب الحياة العامة فى وقتنا الحالى ومن خلال مظاهر حياتنا الحديثة المستوردة من الغرب ؟