ذاكرة ضيقة على الفرح 11
تاريخ النشر : 2019-09-16
ذاكرة ضيقة على الفرح 11


سليم النفار

ذاكرة ضيقة على الفرح 11

11

قد يُخيلَ للبعض الذي لم يرَ مخيم اليرموك ، أنَّهُ خيامٌ مبعثرة ، أو حيٌّ من أحياء الصفيح ، تلك التي تكون على هوامش المدن ، غير أن الأمر يختلف تماماً عما في أذهان البعض، فاليرموك الذي يَبْعُدُ قرابة – 8 – كيلو عن قلب العاصمة دمشق ، والذي أُنشئ في العام 1957 ، هو داخل حدود المدينة ويتمتع بمكانة عالية ، على كافة الصُّعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، ففيه البناء الشامخ الحضري ، وفيه الشوارع الكبيرة – اليرموك وفلسطين بخلاف الشوارع الفرعية : صفد ولوبية والثلاثين – اضافة الى وجود مكاتب العمل السياسي الفلسطيني ، والمراكز الثقافية ودور السينما ... لقد كان اليرموك يضجُّ بالحياة على اختلاف ألوانها الماتعة ، وفي أيام العُطل الدراسية كثيراً ما كنتُ أنزل اليه ، حيث كان بيت الصديق بسام العاصي في شارع لوبيا ... بسام العاصي أحد الشباب الذين أخذوا دورة أعالي بحار ، في الباكستان أواسط السبعينات ، وكان يداوم في بحرية حركة فتح في اللاذقية ، هو وصديق آخر ناصر العسلي الذي كان يسكن دمشق في الشاغور ، أقضي عطلتي برفقتهم نذهب الى سينما النجوم في المخيم ، أو نذهب الى الشاغور يعرفونني على أحياء دمشق القديمة ، التي تعبق برائحة التاريخ العريق ، وكثيراً ما تنتهي جولاتنا في الشاغور، بتناول بعض المأكولات الدمشقية " روس و مآدم ولسانات " ، أو في بباب توما حيث الغناء والحفلات الجميلة ، تلك دمشق التي لا تبرح مخيال شبابي ،  تُحزنني الآن صور الدمار المريع للمخيم ، الذي كان على الدوام خلية نحل ، لا تكفُّ عن العمل ، في كل الاتجاهات التي 

تستلزمها الحياة ، في أبهى صورها ، التي لا تعرف الملل واليأس ، فكثيراً ما كان الفلسطينيون هناك ينهون فناجين قهوتهم ، بالكلمة المُحببة اليهم :" بالعودة "

فهلْ مازال ذلك الأمل يسكن ضلوعهم هناك ، بل ربما السؤال الأكثر ألماً : هل مازالت لهم ضلوعٌ في تلك الديار ؟؟

منذ خمسة أعوامٍ مضتْ كنتُ أتابع ما يجري هناك في اليرموك ، والقلب ينفطر حزناً على ما يُحاك ضدَّ تلك الحاضرة وأهلها ، وأستمع الى التبريرات المختلفة من كافة الجهات ، والتي جميعها تُبرر العدوان الهمجي والاستهداف ، الذي لم يبقِ شيئاً هناك قابلاً للحياة ، غصَّتْ الدموع في عيني وأنا أكتبُ مطلع قصيدتي :

 على اليرموك في اليرموك قفْ واخشعْ

هنا وطنٌ بنار الخوفِ لا يُرمى

هنا ماضٍ بنا يسطعْ 

كنتُ حاضراً بالمعنى الفيزيائي أشاهد ما يحدث ، وذهبت لغرفتي أدلق ما طفح من أحاسيسي على الورق ، غير أنني خيالاً وذاكرة ، كنتُ أحيا في تلك السنين البعيدة ، التي كان فيها 

اليرموك شامخاً ، اتحسسُ صور الخيال وهي تُحلقُ في ذهني ، أطمئنُّ عليها : هل سال دم ذاك الماضي الجميل ... ؟

هل مازال الحجر الأسود كما هو ، هل مازال الأصحاب هناك : نضال وبسام وآخرون يتنفسون يوماً اضافياً في ركب الحياة ، هل مازال ذلك الركن البعيد ، في المزّة جبل حيث كنتُ وبعضاً من الأصحاب ، نأتيهِ من المعهد لنشربَ شايهُ اللذيذ كلّ عصر ... هناك حيث الهواء العليل. 

قريباً من غيمةٍ تُلامسُ رأسنا ، أو نُلامسُ شهقتها العالية ، نرسم شكل خطوتنا القادمة ، ونَدُسُّ في جيبها صعقة البرقِ ، كي تُنيخَ حملها على خُطى الحالمين ، بغدٍ أجملَ ، بوطنٍ يستريحون على كتفيه ، ويستريحُ في ضفاف قلوبهم .

الأزبكية هناكَ على احدى نواصيها مقر الاتحاد العام للكتاب ، ذاك المقر الذي كنتُ أقطع المسافات الطويلة اليه ، لنلتقي بأبي خالد الشاعر الرائع والفارس الجميل ، وصالح هواري ويوسف طافش الذي يأتي من حلب أيضاً ، مُجَمّع الخالصة في قلب اليرموك ،والذي شهد العديد من الأماسي الشعرية ، أنا وبيسان أبو خالد وآخرون ، هل كل تلك المطارح ، باقيةٌ على دفء حلمنا القديم ، وهل تتذكرنا وتعرف صورنا الآن ، أم تُراها تعبت وشاخت مثلنا ؟؟

وهل حقاً نحن شخنا ، أم تراه الحاضرُ البائسُ ، الذي يسدُّ منافذ الفرح والأمل ؟