التيه الشوكي بقلم:محمد نصار
تاريخ النشر : 2019-09-11
التيه الشوكي  بقلم:محمد نصار


التيه الشوكي....ق.ق

صديقي الذي بُعث فجأة، أثار في الحي لغطا وصخبا لا حد له، تراوح ما بين الدعابة والتندر المشوب بالكثير من الحزن والأسى، فهو الدمث .. الخلوق، ذو الطبع الهادئ ، الساعي دوما لاكتساب المعرفة والنهل من مشاربها المتعددة، وجدناه ذات جمعة وقد شذ فجأة، فصاح بالخطيب مزمجرا: اهبط أيها الزنديق المارق.. اهبط.

ارتبك الخطيب للحظة، ثم نظر إليه بأعين يطير منها الشرر ورد غاضبا: أخرجوا هذا الملعون التافه  من المسجد.. أخرجوه.

ساد لغط كبير واندفع عدد من الفتية صوبه، فهب متحفزا وقال بنبرة فيها الكثير من الوعيد والتحدي: إياكم أن تدنوا مني، فأنا كلمة الرب وروحه.. أنا المسيح ابن مريم، بعثني لكي أنشر العدل والمحبة بينكم وأحارب الظلم والجور، الذي فشا فيكم، أنا موكل من الرب، من تبعني نجا ومن عصاني هلك، فلتكونوا حواريي وعوني على هذه المهمة ولا تكونوا تبعا للدجال وشيعته.، ثم أشار بيده جهة الإمام.

نظر الشبان إلى بعضهم .. دارت العيون في المآقي.. علت الهمهمات  وبعض الضحكات، فيما حوقل أناس ونهض آخرون من أقاربه، دنا أكبرهم منه، كان في سن أبيه، وضع يده على كتفه، همس بأشياء لم أسمعها، ثم أخذه وخرج. 

عند المساء فوجئت به يطرق الباب، كان مبتسما كما أعرفه دوما، هادئا.. وادعا وكأنه شخص آخر، غير ذاك الذي شاهدته في المسجد منذ ساعات قليلة، أخذتني الصدمة حتى قال معاتبا: ما بك يا رجل.. ألا تدعوني إلى الدخول.

- آسف.، قلت مداريا حرجي وأشرت له أن يتبعني، جلسنا في غرفة الضيوف والدهشة لم تغادرني بعد، رغم حرصي الشديد على مداراتها، حتى لا أثير بداخله شكوكا لا احتملها .

- لقد خذلتني يا صديق .

- أنا !

- نعم.. كنت أحسبك من حواريي، لكنك خيبت ظني .

- من قال ذلك؟

- لم تهب لنجدتي أمام أولئك الرعاع، الذين كادوا أن يفتكوا بي.

- لم تكن بحاجة إلى ذلك، فلقد أرعبتهم وأفحمتهم وأذهبت حجتهم.

ابتسم وأطرق قليلا، ثم سألني بما يشبه الهمس، إن كنت صادقا في زعمي هذا، تملكني الحرج حينها، لكني قررت أن أواجهه بالحقيقة، رغم ما قد تسببه من ألم.

- طالما قبلت أن أكون من حوارييك، فأعتقد أنه بات من حقي الاطلاع على حقيقة زعمك هذا.

- وهل تشك بي؟

- مجرد سؤال فقط.

- لا .. بل تشك بي .. أنت منهم ..أنت من أتباع يهوذا، لص.. قاتل.. مجرم مثلهم، عليك اللعنة.

ثم اندفع كرصاصة أفلتت من قناص، صفق الباب خلفه بقوة، جلبت من في البيت  على إثرها للاطمئنان والسؤال، غاب بعدها واختفت آثاره، فزعم البعض أنه هاجر وآخرون قالوا قد جرى اعتقاله وربما أودع إحدى المصحات، بينما تندر آخرون زاعمين أنه رُفع إلى السماء، فيما ظل غيابه هو الثابت الوحيد المثير للجدل، مما شجع الخطيب للحديث عن البدع والزندقة.. عن الدعوات المشبوهة والخارجين عن الصف.. عن أشياء لا حصر لها وفي كل مرة تبدر منه التفاتة شاردة، ناحية  صاحبي الغائب، حتى تمنيت لو يبعث ألف مرة.