طاقية الوهم بقلم : رحمن خضير عباس
تاريخ النشر : 2019-09-09
طاقية الوهم بقلم : رحمن خضير عباس


طاقية الوهم
بين الوهم والتوهم.
رحمن خضير عباس
عن دار لارسا للطباعة والنشر، صدرت مجموعة قصصية للكاتب العراقي المغترب عبد جعفر، تحت عنوان ( طاقية الوهم) . وهي المجموعة الرابعة في مساره القصصي .وقد تضمنت أيضا بعض القصص القصيرة جدا ، إضافة إلى مسرحية من فصل واحد .
يبدو أنّ أغلب قصص المجموعة تلعب على حبال الوهم ، في محاولتها للبحث عن بعض الحقائق التي تشظت وتشوهت ، في عملية تشبه ألعاب السيرك ، حيث يظل ابطال قصصه معلقين على حبال الخطر والمجازفة والوهم. وكأنهم يعيشون أحلام اليقظة ، فالأحداث تسير في نسق متشابه ، مابين الأفعال الحقيقية التي يمارسها هؤلاء البشر ، وما بين الوهم المُتَخيْل الذي يكتنف هذه الأفعال والأحداث ، حتى يكتشف القارئ أنه أمام صور فنتازية ، يمتزج فيها الواقع بالمُتَخيل ، والحقيقة بالوهم . هذا ما ظهر في قصة متحف الحياة ، التي تجعل السياق السردي يسير على مستويين :
المُمكن وغير الممكن ،مما يجعل هذه المجموعة ، وكأنها تسعى للبحث عن أجوبة مناسبة لأسئلة حادة . إنّها الحيرة التي تجعل الأسئلة ترفرف في الفراغ :
أين كنعان ؟ كيف انتهى أبو الصفو ؟ ماذا يبحث المسافر ؟ لماذا لجأ الحامد إلى المشاكسة ؟
وغيرها من الأسئلة التي تتقافز بين ثنايا النصوص. غير أن المغترب يحتل البطولة في أغلب القصص. المغترب الذي يحمل أزماته أو فشله أو ثقافته أو جنونه. ذلك الإنسان الذي قذفته ظروف قاهرة، في مجتمع جديد كان – ربما - يحلم به ، ولكنه حينما عاش فيه لم يستطع أن يهضمه، فبقي معلقا في وهمه.
المغترب الذي فشل في أنْ يندمج أو يتأقلم مع معطيات الحياة في المهجر ، فلبس طاقية وهمه ، وظل أسيرا لماضيه ،وكأنه يطارد خارطة الذاكرة ، فلا يجد فيها سوى الصور المضببة للعنف والقهر. ورغم ذلك فقد بقي متمسكا بهذه الخارطة التي جعلته في حالة انفصام الشخصية .
قصة ( الغريق ) تتحدث عن مغترب اسمه (شوقي) يعود إلى مدينته البصرة. ولكنه يغرق في شط العرب. ورغم أن القصة لم تكترث للحادث ولم تتناول سبب الغرق. ولكنها تحدثت عن حياة شوقي في طفولته وصباه ، ومدى القحط والفاقة التي تعرض لها من خلال تخلي والده عن العائلة.
ثم يتناول الاعتقال والتعسف الذي تعرض له شوقي الذي أراد أن يحقق كينونته ، من خلال الحرية في التعبير والحرية في الموقف. كما تحدثت القصة عن منفاه حيث كان يتلظى من الغربة. وحالما أتيحت له فرصة العودة إلى الوطن ، حتى غرق في مياهه. وكأن القصة تريد أن تعبّر عن ذلك الاتحاد الأبدي بين المهاجر وبين الوطن ، من خلال ذوبان جسده في قاع النهر .
لقد كانت قصة الغريق ذات تقنية قصصية جميلة ، حيث تبدأ من ذروة الحدث ، ثم تحاول الكشف عن مقدماته.
أمّا قصة (القطار الهابط) فتحكي عن قطار العمر ، الذي يذهب نازلا حتى النهايات الوشيكة أو المتوقعة. وهو يعلن عن مغادرة محطاته في عتمة الليل. هل هي محطات القطار أم محطات العمر؟
فهذا المغتربٌ القادم من أوربا الذي يزور بلدا عربيا ، ويلتقي بالمسافرة الجميلة التي شاركته ذات المقصورة ، كانت تحسده على عيشه في أوروبا ، لأنها تعتقد أنّ أوربا واحة للثراء والسعادة ، ولكنه كان يسخر من اعتقادها ، فيحدثها عن حجم المعاناة التي يكابدها المهاجر في العمل المضني ، من أجل لقمة العيش . وكيف أنّ طبيعة الحياة في الغرب ، اجبرته على فناء شبابه في العمل اليومي ، الذي لا يلائم كفاءاته . وهاهوَ يعود سائحا ،يحمل حقائب الحنين ، ويراقب محطات القطار المتسارع.
كل من المغترب والمسافرة يتمنيان أنْ يتبادلا المواقع. هي تحلم بالغرب وحيويته ، وهو يحلم بالشرق وسكونيته. وحينما يتجاذبان أطراف الحديث ، يشعر بإعجاب خفي بجمالها وحيويتها. ولكنها تبادله إعجابا مختلفا :
" أنت تذكرني بأبي ، صوته وهدوئه وملامحه "
وها هو يسقط ما بين سحر الجمال وبين حاجز السن. لذلك يهرب إلى خيالاته في لحظة متوترة مابين النوم واليقظة :
" الهواء يرفعه ويدفعه ،استقبلته لطيفة بقميص ابيض شفاف ،احتضن جسدها وغرق في تقبيل تموّجاته"
ولكن فتاة المقصورة تقطع عليه أحلامه ،محتجة على أن شخيره قد أزعجها.
تهبط المسافرة وتضيع في الزحام ، أما هو فيبقى في شرنقة همومه ، يحسب صفير القطار في محطات مجهولة.
في (رحلة البحث عن كنعان). غياب كنعان وعدم تواصله يقلق صديقيه. فيحاولان البحث عنه في شقته الكائنة في الضواحي القصية لمدينة لندن. وبعد أنْ يبذلا جهدا كبيرا في الوصول هناك . كانت شقته مغلقة والعمارة شبه خاوية. متى المرأة الشقراء التي فتحت باب العمارة ،قد ذابت في العتمة وكأنّها شبح. وحينما تسللا إلى الطابق الذي يسكن فيه كنعان وجدا الشقة مُقفلة، ولا حياة فيها. مما جعل هادي يشك في وجود كنعان، ويوجه إلى صديقه سؤالا ينطوي على تهمة الوهم :
" هل أنت متأكد أنّ لديك صديقا اسمه كنعان ؟"
لقد حاول الكاتب أن يضخ في قصته شيئا من الغموض والرمزية. فكنعان حكاية ملفّقة ، لا وجود لها. إنه الإنسان المهاجر الذي يتوحد وينطوي عن حركة الحياة ، ليتحول إلى حضور وهمي . ولعل الكاتب أراد أن يؤكد مسألة الغياب الذي يطرأ على المغتربين ،ويجعلهم معتكفين على هموم الوطن الذي أضحى بعيدا ، والواقع الذي لم يقدّم لهم البديل .
في قصة( صورة داعش) يحاول الكاتب أن يصور الأهوال التي تعرض لها الايزيديون العراقيون من قبل قطعان داعش. وما حلّ ببطل القصة أبو الصفو الذي تعرض إلى الموت ذبحا. ولكنه بقي يؤكد خلوده حيث أنهم تمكنوا من جسده الهرم. ولكن روحه انتصرت على وقسوتهم ووحشيتهم.
هذه القصة تروي بشكل فني الكارثة التي طالت شرائح كبيرة من المجتمع العراقي ، من قبل الفكر الإرهابي السلفي والممثل بداعش ، والذي اكتسح الحياة واراد أن يغتالها. لقد كان الضحية الممثلة ب أبو الصفو ينتصر رغم موته ، حيث يبتسم ساخرا من ضعف اعدائه الذين لا يحتملون من يختلف معهم في الرأي والمذهب والسلوك. ورغم أنهم اغتالوا جسده بصورة مرعبة ووحشية ، ولكن روحه بقيت حية طليقة ، تعلن انتصارها على أعداء الإنسانية :
" ومد جسده باسترخاء ، واضعا رأسه تجاه جبل سنجار ،موقنا أنّ الأشباح السوداء لن تقوى على دخولها "
وفي الوقت الذي تدين هذه القصة التطرف السلفي ، فانه في قصة أخرى يدين التسلط الذي يمارسه بعض رجال الدين ، والذين يقومون بابتزاز الضحايا واستغلالهم . فالأم وابنتها الشابة تستجيران برجل دين لأرجاع طفلتهما المختطفة. ولكنه يستغل سذاجة المرأتين واعتقادهما بموقعه الديني ، من أجل إشباع رغباته الجنسية ، واستغلالهما جنسيا.
القصتان تنتصران للطبقات المستضعفة والمهمشة. تلك الطبقات التي وجدت نفسها تحت رحمة إرهاب واستغلال وقتل وخطف. ورغم أن الكاتب قد انتزع بعض قصصه من الواقع العراقي البائس ، ومن بعض الوقائع التي تفشت. ولكنه أعاد صياغتها بشكلها الفني ، فقدمها إلى القارئ وهي تتماهى مع الوقائع وتنأى عنها ، مما أسبغ عليها الكثير من التأثيرات الفنية حتى تكون أعمق في دلالاتها ورمزيتها .
يتجلى الوهم بشكل واضح في سلوكيات ( الحامد )وهو مغترب أيضا ، ومشاكساته لمدينة لندن التي يعيش فيها ، وذلك من خلال ارتدائه الملابس الشتوية الثقيلة في أوج حرارة الصيف. حيث يصعد الحافلة متأبطا مظلته ،والثقيل من ملابسه. بحجة استفزاز المدينة وأهلها. ولكن الشابة اللندنية الجميلة التي ترتدي البكيني تسخر من شذوذ ملابسه بوضع عجزها في حضنه :
"هل تشعر بالدفئ أيها الخنزير "
مما أثار سخرية جميع ركاب الحافلة. وحينما ينزل من الحافلة وسط استغراب الآخرين ،يحاول استفزاز شرطي المرور الذي يقف في الشمس الحارقة ،ويشكو إليه أيضا من شدة البرد .مما يوهم الشرطي بأنه مجرد مجنون ، ويستمر الحامد حتى يدخل الكنيسة ، ويدخل في حوار عن البرد مع راعي الكنيسة الذي يعامله بذات الاستغراب ، ليقنعه بالإيمان والتقوى ، لعلهما يشيعان الدفئ المفقود في جسده !.
هل كان الحامد مشاكسا للمدينة كما يظهر من خلال عنوان القصة بسبب الجنون ؟ أم أنّ الحامد في كامل قوته العقلية، ولكنه يعبر عن احتجاجه على مدينة لندن ؟
لم نستطع أن نلتقط من سياق القصة إجابة شافية. ولكن سياق النص وسلوك الحامد يعبر عن حالة اللا اندماج الذي يميّز بعض المغتربين ، والذين يعتكفون على مزاجية مخالفة لما هو سائد ومقبول في هذه المدينة .
انها الغربة المسوّرة بالاعتكاف على النفس ، ورفض التغيير الطارئ حتى وإنْ كان على مستوى الانسجام مع روح الطقس. فهذا الرجل وسلوكه الشاذ ، ما هو الا كناية عن بعض المغتربين ،الذين يعيشون في الغرب ولكنهم لا ينتمون إليه.
وهكذا يدخلنا الكاتب عبد جعفر في أجواء المهجر ، من خلال هذه العيّنات التي اختارها بعناية لمهاجرين لفظتهم بلدانُهم ،فعاشوا في الغرب ولكنهم لم يتأقلموا ، وتحولوا إلى شرائح اجتماعية على هامش الحياة. ورغم شراسة المغزى العام التي تحاول قصص عبد جعفر الوصول اليه. ولكنها كُتبت بإسلوب كوميدي ساخر .