سيادة الصبّاط بقلم:جهاد الدين رمضان
تاريخ النشر : 2019-09-09
سيادة الصبّاط بقلم:جهاد الدين رمضان


سيادة الصبّاط 
    اندهش الصبّاط * اليافع عندما سمع مدرب الفتوة و موجه المدرسة الإعدادية و مدير ثانوية عامة ما، يقولون :

(يا سادات و يا واطي، تاعى امسح لي صبّاطي) .

فهدرت جموع التلاميذ و الطلاب و صغار الكسبة و نسوة الاتحاد النسائي العام و رفيقات و رفاق اتحاد شبيبة الثورة و طلائع البعث بصوت واحد :

(يا سادات و يا واطي تاعى امسح لي صبّاطي) .
أمعقول ما أسمع، سادات القوم تمسحني و تلمعني؟.. ضحك في سره و قال لقد ضحك لي الدهر إذا كان ما سمعته صحيحاً .

بعدها قال الرفاق :

(يا سادات و يا قيقة ، و يا صرماية عتيقة).

فهدرت الجموع بصوت واحد مرفوع :

(يا سادات و يا قيقة ، و يا صرماية عتيقة).

حينها عرف الحذاء اليافع بأن "السادات" هو شخص معين واحد خان القضية، و ليس مجموع سادة القوم الكرام ، و مع هذا اعتبر هذا الكلام مدحاً و تقديراً له و إعلاء لمكانته بالمقارنة مع مكانة زميلته "الصرماية" التي أجهشت في البكاء.

لم يكن الحذاء الصغير (الصبّاط) ذا شأن و اعتبار قبل تلك المظاهرة الكبيرة في ساحة "سعد الله الجابري" وسط مدينة حلب أواخر السبعينات من القرن العشرين، فقد اشتهر جده العائد للتاجر البخيل "أبو القاسم الطنبوري" في كتب الحكايات الشعبية ، و ربما ورد ذكر غيره أيضاً، لكن لم يسبق لأحد من سلالته أن دخل المجد من أوسع أبوابه كما حصل معه فيما بعد، عندما صار الحذاء يشرف شخص منتعله و صار أغلى منه قيمة و مقدارا... 
…………………………………………………. 
ففي الثكنات العسكرية وجد الصبّاط نفسه محل اهتمام الضباط و الجنود، إذ يجب على العسكري أن يحلق ذقنه و يلمّع "بوطه" صباح كل يوم، و في الشوارع يدفع الناس للبويجي المال لكي يقوم بمهمة تنظيف و تلميع الحذاء المدني، و في حالات معينة تم تقبيل الصبّاط الكبير و وضعه على الرأس، و في آخر الأمر نُصبت التماثيل للحذاء العسكري "بوط العسكر" في ساحات المدن، و قيل مات الكثير من شباب الوطن فداء صرماية قائد الوطن، و قال أحد المشاهير في التمثيل و هو يمثل دور البكاء :

(عندما يكون وطني حافياً سأكون صرمايته).

حينذاك ضحكت الصرماية و فرحت كثيراً. 
................................................ ....................................................... 
   في بلد عربي قريب، سقط تمثال الطاغية في ساحات المدن، و ضُربَ وجهه بالنعال و الصرامي، و داست صوره مختلف أنواع الأحذية علناً أمام الكاميرات ، و عندما ضرب أحدهم رئيس دولة عظمى بصبّاطه في مؤتمر صحفي، دخل حذاؤه التاريخ و دخل صاحبه السجن .

   و في تلك الدولة العظمى صاحبة الفتوحات الكونية، بيع حذاء يشبه حذاء أول إنسان يطأ القمر بحوالي نصف مليون دولار، ليس لأنه حذاء أي إنسان، و ليس لأنه حذاء سيد تلك البلاد، فقط لأن نعله يشبه الأثر الذي تركه حذاء أول إنسان يدوس على سطح القمر. 

  .. و في بلدي يأتي المصورون من كل مكان في هذا الزمان، زمن سيادة الصبّاط ، يلتقطون صور أبناء المخيمات الحفاة، يبكي العالم على صورهم في المزادات الإنسانية ، يذرفون دموع النفاق، و يدعمون سيادة الصبّاط القاتل. 

لكن يا سادة سيأتي يوم يتشرف فيه الحذاء أن ينتعله أحد هؤلاء الحفاة من وطني، و ذلك اليوم قريب لا ريب ، حينها أقول مع الشاعر بفخر :

أتحدى أحد منكم أن يرفع وجهه في حذاء "فدائي" يا قردة **
......................... ...................................................... ..........................

*الصبّاط كل الأحذية الرجالية الجلدية على سبيل الإطلاق ، و الصرماية حذاء شعبي رخيص من الجلد البلدي المتين الملون، ثم صارت تطلق على عموم الأحذية الرخيصة .

**الشعر من قصيدة معروفة للشاعر العراقي مظفر النواب ، و الصورة المرفقة من أعمال الفنان السوري موفق قات المتوفرة على النت .

جهاد الدين رمضان

       فيينا في ٤ آب / أغسطس ٢٠١٩