جارة القمر بقلم:فرج الجطيلاوي
تاريخ النشر : 2019-09-04
قصيرة قصيرة جارة القمر
(1)
تناقلت وكالات الإنباء في هذا اليوم خبر انبعاث بركان أيسلندا في أقصى شمال الكرة ألأرضية، تتصاعد أدخنة الحمم فارضة حظرا علي ارتياد الطائرات الأجواء. ألغت معظم مطارات الاتحاد الأوربي الإقلاع منها واليها.
كنت جالسا بجانب أمي المقعدة في البيت مشاهدا ومنصتا عبر إحدى الفضائيات لهذا الحدث الغير مألوف فيما كانت أمي تلح علي في معرفة ما يدور إذ أن سمعها يخذلها في معرفة تفاصيل ما أشرحه لها حتى وان كان بصرها أكثر حدة من بصري، أحاول تارة إفهامها أن الأمر يتعلق بمعجزة كونية، فتهز رأسها موافقة ،وأقول لها في أن أخر أن ألأرض تلفظ ما في جوفها غاضبة، يرتد إلي بصرها معاتبا، تحرك عينيها في محجريهما مشيرة إلي أنها غيرمقتنعة بأن ما أقوله لها يتعلق بما نشاهد علي الشاشة.
تطرق، تقطب حاجبيها، تردد في همهمة كلاما يشبه الغناء يجد صداه في خاطري.
أحاول جاهدا احتضان استيائها وتبرم وجهها، رغبة في نزع فتيل غضبها وإحساسها بالاغتراب، إقناعها بأن ما أقوله لها هو ما يحدث فعلا . أجدها غير مقتنعة بأن المسألة عبارة عن "تحرك بركان من أعماق الأرض"، يا أمي ألأرض تصطخب، تتجاهل تعبيراتي هذه وهي تردد بصوت متكسر:
كنا شرف للعين صرنا ملاهي للعول
استغرق في ضحك مبهج، أمطرها بوابل من القبلات علي خديها، هزت أعماقي هذه الغنوة، ترتسم على وجه أمي ابتسامة من يبدو عليه شيء من الكدر ، ما تلبث أن تلاحقني وعلى الفور بنص قصير آخر قالت لي فيما بعد هذه أغنية رحاة :
يا قلب خيرك أتخمم وخيرك امدورد* عليا
حتى الباشا تحول وجت في مكانه الرعية
حركت أغنية العتاب ومواويل الرحاة في داخلي أشياء كنت أظنها نامت نوما طويلا إلا أنني اعتبرت أن ما اسمعه هو إنعتاق لذاكرة أمي، إنعتاق جاء مصاحبا لإء نفجار بركان أيسلندا في أقصي شمال أوروبا، انفجار لم يكن في الحسبان هكذا تقول الإخبار وأنا لم يكن في حسباني اشتعال الذاكرة ، أنا الذي يبحث فؤادي عن لحظة يهتز فيها طربا ، نصوص صغيرة تجيد بها قريحة أمي تحرك لواعجي وأشجاني.
"يا أمي تقول الأخبار إن هذا البركان بقي ساكنا مئتي عام وها هو ينفلت، تلتهب حممه كما اشتعال ذاكراتك
با لأشعار العذ بة حتى وأنت تطوين الثمانين حولا ، هذه الذاكرة الطيبة التي يتضوع منها عبق تاريخك الحافل في الصبا وريعان ألأونوثة وتحت تراكمات الدهر ".

(2)
لم استطيع مقاومة أشياء أحبها واحن إليها ويفيض خاطري بها، انتقلت حمى الاشتعال إلي أنا الآخر، نظرت في وجنتي أمي الرامضتين وقد غادرهما بريق الغضة منذ زمن، اقتحم تفكيري وتسلق لساني كتيار الكهرباء سؤال لم أكن لأجرؤ على طرحه كما بدا لي لولا انفجار هذا البركان من قاع البقاع المتجمدة، تلفظ البقاع الغائرة شيئا من احتباسها، دنوت من أمي أكثر، وفي أذنها اليمنى همست ممازحا:
"احك لي قصة حبك لوالدي بالله عليك يا أمي!" بالرغم من أن همس الممازحة هذا لم أر فيه غضاضة، إلا انني ايقنت أنني اقتحم منطقة صعبة، إذ أن الأمر يتعلق بالأشياء المدفونة، إن تلك مسالة في غاية الخطورة، أن تحاول فلق صخور صلبة، أن تفتت جبلا.
إخراج أمي من دائرة إحساسها بالعجز ، شحذ ذاكرتها، حثها علي محاورة التاريخ ، رفع همتها ، قضايا دفعتني صوبها حادثة انفجار البركان الذي ووصف تاريخا وجغرافيا ضمن البراكين الساكنة غير أنه على حين غرة أعلن عن حضوره الفاعل، ثمة بون بين ذاكرة الأرض التي تنفث حمما وبراكين وأدخنة، وذاكرة أمي المفعمة باغنايات الشوق والأ وجاع ، المثقلة بتراكم عذابات الحنين واستحضار تألقها وهي تشاهد الغزلان الراتعة في السهول الخصبة. ذاكرة تغذت بحليب الأبل،وبازين الشعير،وتمر التاغيات، والتاسفرت، والخضراي. ترفض الأستسلام لقسوة حصار العجز.
بركان أيسلندا ينفث دخانا شديد القتامة، وسحبا حالكة السواد. تمنع البشر وسبل اتصالاتهم من التواصل ، تفرض حظرا على ممارسة الحياة إلى اجل غير مسمي.
شعرت في أعماقي وأنا أشاهد البركان أن ذاكرة ألإنسان إذا ما أنعتقت فاءنها تطلق حمما من نوع أخر،لا أدري لماذا راودني هذا ألإحساس وأنا أملأ ناظري من تقاسيم وجه أمي وسبر أغوار حركات أصابع يديها المكبلتين بجبروت الزمن .
نصوص أمي القصيرة التي ساقتها من أغاني العتاب والرحاة تدعوني لأن أحرر الأشياء المحبوسة أو المخبأة بداخلي، الأشياء التي ردمتها في أعماقي وتلا فيف مخي كما طمرت الأرض مكونات براكينها.
" دع ذاكرتك يا خمسني العمر تبوح بشجونها وأشواقها".
الحظ ملامح أمي تتحفز، مثلما تستعد السحب الحبلى للأنهمار، ملامح تجثم فوقها معالم السنين الثمانين. تريد ألإفضاء متحدية الهرم الذي يدعون انه قد أصابها بالخرف، إنها لا تتفوه خبلا بل تردد حديثا يروي تجارب العمر كله، حديثا مصحوبا بأشياء تغمرها أحزان ،طلت علي سنين عمرها عاما بعد عام، رافقته أشياء طالما عبقت بروائح الحنين والشوق والتلاقي إذ على نحو مفاجيء تنطلق قريحتها في سرد حكايات الحب التي استحلفتها بالله أن تقصها علي. استسلمت لها بكل حواسي تركت بركان أيسلندا وحاله يلتهب على الشاشات.
اشرأبت نفسي إلي الجذوة التي تتوقد من تاريخ أمي، جذوة خلتها سراجا وهاجا .
"كنت أراه من بعيد وهو يتبختر وسط رفاقه، أطلق عيني ناحيته"، تحاول فتح عينيها وتستمر في الحديث:" كان يتظاهر بإهمالي عندما تعلق عيني بعينيه، التفت الى الجهة الأخرى؛....". تـنقطع عن ألاستطراد كأنها تغالب حيائها أو تستدعي الصورة كما هي .
أكملت أنا بقية النص بأسلوبي الخاص وأنا أطيل النظر إليها واستحضرت الموقف وقد أشفقت عليها من التوعك الذي أنتابها "وقد ترك حرائقه في جوانحي".
شعرت في حضرتها بالخجل الشديد وأنا أغرس لساني في كبريائها،استردت أنفاسها . لم تستطيع التغلب علي ابتسامة شجن قادمة من ذلك الزمن، أعترى نبرة صوتها ما يشبه الأسى. طوق الكلمات التي تعثرت عندما التفتت نحو الجهة ألأخرى حياء من طلة والدي في زمن بعيد بعيد، غير آن ذلك لم يعيقها في ان تكمل حكايتها بمشهد على نحو مغاير "نحن البنات كنا نجد الراحة في شقاء التحطيب, نخر ج لجمع الحطب من الوادي وعندما يجيء الرجال من بعيد نسارع في وضع حزم الحطب فوق رؤوسنا ونهرب عائدات الي البيوت".
امسكت عن الكلام وقد يبس حلقها، ناولتها قليلا من الماء، كنت وددت أن لا تتوقف أبدا.
اردفت فيما بعد قائلة : إيه يا ولدي"الموال طويل والحكاية أطول".
انهمرت في بكاء صامت , غابت الصور التي كانت تعرضها عبر شاشة الذاكرة المثقلة كما يحدث عندما يطرأ تشويش في البث الفضائي غير انها عوضت الصور التي كانت تظهر نقية في حكاية ودها لأبي بصور لجوانب أخري من تلك الحياة. تستطرد " امك يا ولدي التي كانت تصعد الجبال كالغازلة الشاردة، وتملأ الماء من البئر، تذرع الوديان لجلب الحطب, تخبز الخبز في التنور، بيتنا لا ينقطع عنه الضيوف، صارت مقعدة لا تقدر حتي علي حك جلدها وتصلي بأصبعها. اضافت وقد ارتعشت الكلمات " وسوالفها طويلة كالليل". أمك كانوا يسمونها "جارة القمر".
لم اتمالك نفسي وأنا أغوص في معاناتها ، نظرت إلي عينيها الغائرتين في تجاعيد السنين وهي تسرد حكايات صباها وعنفوان شبابها الحافل بالذكريات بينما صبر شيخوختها يتكيء علي عصا التاريخ.
تصمت طويلا فيما لازلت أنا مشدوها في حضرة صحو ذاكرتها الذي يبدو صافيا أحيانا ويعتريه ضباب في أحيان أخري غير أنني فرحت لأن هذا البث الذي ترسله ذاكرتها محاولة منها للتحرر من عبودية الإعاقة.
إعاقة لازمتها منذ أكثر من ثلاثين عاما، اكتسح كل جغرافية جسمها ولم يترك إلا حاستي البصر والنطق. فيما بقت ذاكرتها وذ كرياتها عصيتين .
لم يتوقف فضولي ولا ممازحتي لها، اندفعت أحرض ذاكرتها فيما البث الحي لبركان إيسلندا لازال متواصلا ، طرقت محطة أخري من محطات عمرها وكنت أدرك ان عصب هذه المحطة لا يتحمل الضغط عليه كثيرا.
تأكدت من ان صوتي سوف يصلها سهلا، طرحت السؤال الصعب وانا في غاية الهدوء.
يا أمي احك لي عن الموجعة!
أطرقت وهي تثبت عينيها نحوي مرسلة نصا من نصوصها وقد اندفع الكلام سريعا
يا طوير يا لو نشاكيك علي موجعة في الضمائر
عامين ما ينبتك ريش وعامين في الجو طائر
وأشارت إلي بأحدي يديها أن كفى.
(3)
هذا السيل الجارف الذي تدفق من أودية الماضي عبرالذاكرة ألحنونة, أجبرني علي التصدي لسيل عارم من أحاسيس ألالتياع بدأت للتو تجتاحني بعنف، تهب علي كالرياح العاتية.
الأشياء الحنونة التي بدأ منذ حين يفيض بها الخاطر تحولت الي عواصف، الى "تساوناي" عات لا تقدر المحيطات ولا البحار علي مقاومة عناده إذ انني وجدت نفسي مفلوت الزمام،الخيول المتمردة التي تمتطيها أشواقي الجامحة لاترعوي.
لم اتمالك هذه النفس وهي تحاكي حرائق البركان وكذا الانعتاق الغير مسبوق لحنين ذاكرة أمي، تتلاشى الأزمنة والأمكنة عندما تعربد هذه المضغة،توجهت إلي أمي بكل جوارحي وقد اعتليت صهوة جواد لا يقدر حدود مضماره؛
"يا أمي أنا يمزقني جرح غائر, مدية حادة, قطعت نياط قلبي".
وضربت بعنف بيدي اليمني علي الناحية اليسري من صدري: "أنا يا أمي أحببت في حياتي غزالة واحدة".
تحفزت أمي وقد شغلها انفعالي، عقدت حاجبيها وأنتابها شجن وأنا أتمادى في كسر حواجز لم أعهد على ألاقتراب منها.
غزالة ! أين مسكتها! في الوادي !
تعثر الجواد غير انه لم يسقط، يبدو ان ذلك كان حدثا غير عادي، سرعان ما أمسكت زمامه، نبش الماضي عند الشيخوخة، إيقاظ للحنين الغابر، تحفيز على التشبث بالحياة بالنسبة إليها،يعينها على مواجهة كآبة ألإعاقة وسجن الشيخوخة، إلا انه تمزيق لجراحاتي التي ألتئمت.
البوح بما في المكنون ينظف القلب من الوحشة، عملية حرق لمخزونات الماضي ،وتخلص من منغصات الدهر كما تفعل البراكين الساكنة لحظة عربدتها وخروجها من جوف الأرض محذرة "أنا ألأرض لا أتحمل تراكم الوهج في جوفي فما بالك أيها ألآدمي تقمع ألأشياء التي سجنتها في غياهب الفؤاد , دعها ... دعها....!".
أمي جزء مني وانا جزء منها أن يصحو بداخلنا بركان واحد وفي أ ن معا ترافقنا البراكين الشمالية فذلك يبعث على الدهشة وقد يكون باعثا على بث السعادة في شتاء عمرها وخريف عمري فاءذا كانت الآلام تعصف بعظامها والخضوع التام لحكم الدهروقسوة العجز قد أطبقا عليها فاءن خريف عمري على نحو مفاجئ تدك حصونه بقية من عواطف جياشة, فما أصغر عود الثقاب غيران الحرائق الكبيرة تستعر اكراما له، عود الثقاب أو الجمرة الصغيرة هي الذكرى الرائعة أو الكلمة العاشقة التي تشعبت في سويداء المكنون تنتفض فجأة كالجينة المتوحشة.
الجمرة الصغيرة التي يلفحها الهواء فيتطاير شررها هي جزء من نص صغير لجواب عتاب ودود لازلت احتفظ به، مكث بداخلي كصخر بركاني هامد، جمرة صغيرة لازلت تنوس وتحدث اضطرابات وحرائق دائمة الاشتعال في اعماقي العطشى .
جواب الود القديم النقي ، اشراقة ذاكرة أمي، انبعاث البراكين من تحت قمم الثلوج، كونت ثلاثية للتوهج. (4)
"يا أمي الغزالة التي أحببتها هي أمرآة" ولم أتوقف هذة المرة بل لم أبال هل ستفهمني أم ينتابها ما انتابها عندما حدثتها عن بركان أيسلندا.
"بقي لي منها عطش الحنين،عود الثقاب عبارة عن أ خر مرسول بعثت به إمرأة لي أحببتها واحبتني مضى عليه أكثر من ثلاثين عاما عندما كانت هي طالبة في أداب جامعة قاريونس وأنا طالب في هندسة جامعة الفاتح".
مرسول يا أمي يشبه غناوة العلم التي تغنيتي بها، ابتسمت أمي، ابتهجت أنا لهذه الابتسامة وقد سيطرت حيرة علي تجاعيد وجهها، عرقلت تلك التجاعيد دمعات تحاول التدحرج على وجنتيها، دميعات أفرزتها عيناها من شدة الفرك فيما تبذل أقصي جهدها في سبر أغواري بيد انني لم اراع فهمها لعباراتي المنمقة وكأنني أخاطب أمراة من زمن الخنساء أو رابعة العدوية، أعتراها اندهاش وهي تنظر بلهفة، تحرك عينيها في محجريهما باحثة عن الغزالة وأعواد الثقاب.
(5)
مسكت كل أعواد الثقاب دفعة واحدة أو هكذا يبدو من انتشار اللهب ونيرانه وظمأ الشوق وحرقته وسط عقلي وعواطفي . اقتربت منها أكثر بل كدت أن التصق بها، شممت أنفاسها العطرة ورائحتها الطيبة الفواحة، وشوشت في أذنها اليمني :"هموم تؤرقني يا أمي. بركان عشق يصهد جأشي". لحظت دقات قلب أمي تتسارع . مما استدعاني للتوقف عن سرد لواعجي للأطمئنان على سياق النبضات لفترة وجيزة. ثم اردفت " أحتفظت بقصاصة من رسائلها المعاتبة المرشوشة بالود": "كنت أنتظر رسا لتك بشوق لكنها أبكتني كثيرا". حبيبتي هذه يا امي كانوا يسمونها" جارة القمر". رغم دهشتها إيقنت إنها لم تعر اهتماما للنص القصير الذي بلا قافية، إلا أن صورة جلية أرتسمت في مساحات عقلها "لجارة القمر".
امدورد* :هذا الفعل يعني في اللهجة الليبية إ عادة الشئ وتكراره
فرج الجطيلاوي طرابلس ليبيا
أبريل 2008