ذاكرة ضيقة على الفرح 8
تاريخ النشر : 2019-08-26
ذاكرة ضيقة على الفرح 8


سليم النفار

8

لا أنتِ أنتِ ولا الديارُ ديارُ      خفَّ الهوى وتولَّتِ الأوطارُ
                                                                        "أبو تمام "
لاشكَ بأنَّ شيخ الشعراءِ العرب " المتنبي " كان ومازال على مشيخته تلك ، اجماعاً كبيراً بين جموع الشعراء في مختلف العصور ، والمشتغلين أيضاً في قضايا الشعر ، ونقدهِ وجمالياتهِ غيرَ أنيَ مبكراً كنتُ خارج تلك الجموع ، وكان شاعريَ المُفضل هو حبيب بن أوس الطائي " أبو تمام " فقد سحرني بقوة مفرداته تلك ، التي تشيع تحدّياً عالياً في قصيدته التي تقول :
ونفسٌ تعافُ العارَ حتى كأنَّهُ        هو الكفرُ يوم الرَّوعِ أو دونهُ الكفرُ
فأثبتَ في مستنقعِ الموتِ رجلهُ     وقالَ لها من تحت أخمُصِكِ الحشرُ
اضافةً الى شعره الآخر المتعدد الغايات ، و لا شك أيضاً بأن شعره الوجداني قد حقق حضوره الجميل في نفسي ، وكذلك حكمته وتعبيراته العالية عن روح العصر ، الذي عاش بل تمتد تلك الرؤيا الى البعيد الأبعد ، ولبيته الذي أفتتح فيه هذا الجزء من الذاكرة حكايةٌ ، مازالت حاضرة في ذهني منذ أواخر سبعينيات القرن المنصرم ، ستعرفونها عما قليل من سياق الحكاية .
إنَّ حرق المراحل في نمو الأمم وتطورها ، قد يكون مُجدياً اذا ما استطاعت الى ذلك سبيلاً ولكن : لا أعتقد بجدوى ذلك في سياق نمو الفرد الانسان ، فلكل مرحلةٍ عمرية صفاتها وخواصها ، والتي لا تستطيع أن تعيشها في مرحلة أخرى ، لأن ذلك قد يتعارض مع المُعطى الفيزيائي لقدرة الجسد ، وإنْ حاولتَ فإنَّها ستكون محاولات مشوبةٌ بالحذر ، وقد تكون مشوَّهة لأنها خارج المُعطى الزمني ، والنفسي أيضاً ، فكيف لابن العشرين أن يعيش أحاسيس ابن الرابعة عشر ؟
ما يقودني لهذا التوصيف هو أنني ، وبحكم ما أصابني منذ الطفولة الأولى ، قد أصبحتُ صاحب مسؤولية مبكراً ، فالأم تتعاطى على هذا المستوى ، وكذلك رجالات الحي ،والمدرسين في المدرسة أيضاً ، وليس مسموحاً لهذه النظرة أن تنكسر ، خصوصاً وأنها قد تلبستني تماماً ، ولم أعترض عليها ، فكيف لي أن أفعل والناس تُكبِرُني وأمي كذلك ، غير أن هذا الذي كان يفرحني حيناً ، كان يُزعجني أحياناً كثيرة ، وربما هذه المرة الأولى التي أبوح لكم فيها على الملأ ، فمهما بلغتَ من الوعي ، فإنكَ بحاجةٍ للتعبير عن عمركَ ، لأن الوعي الذي يكبر العمر يُشقي صاحبهُ ... وهذا ما حصل لي ، فقد كنتُ ذلك الفتى الذي أحب فتاةً من الحيّ ، ولأنيَّ كنتُ مسحوراً بجمالها وخفّةِ دمها ، كنتُ كثيراً ما أصطنع المشاوير من جوار منزلها ، على الدراجة الهوائية التي كانت مقتنيات ، غالبية أبناء جيلنا هناك ، ولكن ما كان يُغيظني وربما يُغيظها ، أنني لم أمتلك جرأة الحديث اليها ، وأنا الذي يوصف بجرأته وشجاعته ، ولكن ليس في هذا السياق ، فكل مرةٍ كنتُ أنوي فيها المحاولة في ذلك ، تراني سرعان ما أتراجع وأنا أحدث نفسي : ماذا سيقولون عنك في المدرسة ، وفي الحارة وتحت وطأة تلك الأسئلة ، بقيتُ سنين على تلك الحال ، مكتفياً بتبادل الابتسامات وكأنها تواطؤ متفق عليه ، غير أن ذلك 

التواطؤ أرهقني ، ووقف حاجزاً أمام التعبير عن رغبات الفتى ، المشروعة والتي تفتح نافذةً للفرح ، وعندما جاءت فيما بعد في المرحلة الجامعية ، كانت بشكلٍ آخر ولونٍ آخر وطعمٍ آخر ، سأحدثكم عنها فيما بعد ، لأنَّ الهموم والمسؤوليات المبكرة تجعل منكَ انساناً آخر ، وهنا يصحُّ قول أبي تمام – مع تغير لغة التخاطب - لا أنتَ أنتَ ولا الديار ديار ، فلا بدَّ للأشياء أن تأتي في مواعيدها ، وغير ذلك فلا ، وهذا ما ذكرني به حمزة ، ذات شتاءٍ لا ذقانيٍّ عاصف وأنا ابن عشرين ونيّف ، حينما رآني بمحض الصدفة على كورنيش البطرني ، أنا وصديقتي نمشي تحت وابلٍ من المطر ، كأطفالٍ فرحين فعبّرَ عن استغرابه واستهجانهِ لتلك الحالة بقولهِ : لم تكن أنتَ الذي عرفتُ ، كنتما كطفلين يلهوان غير عابئينَ بمن حولكما ، وبذاك المطر الذي يأكلُ الأرض ويأكلكما ، لولا أنها عيني التي رأت ، لقلتُ لست أنت ... ضحكتُ يومها وقلت : يا حمزة الجوع الى الأشياء يجعلك تبدو، كأنك لم تعرفها قبلاً ، نعم يا صديقي أنا لم أكن أنا ، ومن قال لك : بأننا لا نفقد ذواتنا في لحظة الفرح المُشتهى ، السعادةُ يا حمزة لحظات تمرُّ ، فإنْ لم تقبض عليها تفرُّ منكَ ، وتفرُّ أنتَ الى حيث لا تعلم من سواد اللحظةِ ، الذي يُحاصرنا من كلِّ حدبٍ وصوب ، فأنتَ محقٌّ صديقي :أنا لستُ أنا  ... وإن تجلّتْ لك صورتي بالعين الفيزيائية ، فيا ليتنا نستطيع ذلك كلَّ حين ، ولكن هيهات
زمانٌ مضى بكلِّ ما لهُ و ما عليهِ ، غير أن استحضارهُ يثيرُ لواعج الأسى حيناً ، على حياةٍ لم نُحسن حفظها بما تحمله من قيم ، وأحياناً أخرى يثيرُ مكامن الفخر : كيف أننا استطعنا أن نشكل ذواتنا في خضمٍّ متلاطم الأمواج ، وأحياناً أخرى يثيرُ مكامن الفرح لأننا استطعنا أن نغني ونرسم ونكتب ، في سحابٍ مكتظٍ بالسواد ، ودربٍ ملؤه الشوك ، فهل نستطيعُ أن نواصل ذلك في تالي الأيام ؟