اقتربتُ من حافةِ المبنى .. نظرتُ للأسفل .. الإرتفاع عالٍ جداً .. أغمضتُ عينيّ.. شعرت بقشعريرة تسري في جسدي .. رجعتُ خطوة للوراء .. تسارعت أنفاسي ..
ترددت ..جلست على الأرض .. بكيت .. بكيت كثيراً.. لم أعرف ماذا علي أن أفعل .. لقد خسرتُ كل ما أملك .. عائلتي ..عملي .. لا أستحق العيش يجب أن أموت.. عاودت الوقوف والإقتراب مجدداً .. صعدت على الحافة .. أغمضت عينيّ .. لم يتوقف جسدي عن الإرتعاش .. اقتربت بخطوات صغيرة ..بكيت واقتربت بخطوات أكثر .. تسارعت أنفاسي أكثر .. رأيت أُُمي تركض قادمة إلي .. ابتسمت والدموع تغرق وجهي ..
أردت الذهاب إليها بأسرع ما يمكن .. لكن صوتها أوقفني .. "توقفي" سمعت صوتها .. اقسم أنّي سمعته .. كانت تمنعني من الاقتراب .. أحسست أن قدماي قد التصقتا بالحافة .. وما زال صوتها يرن في اذني أعلى فأعلى .. توقفي .. توقفي .. توقفي
...
استيقظت أرتعش ..العرقُ يملأُ وجهي.. نظرتُ للساعة .. كانت السادسةَ صباحاً ..
تماماً مثل كل يوم منذ ثلاثة أشهر .. لقد سئمت من الذي يحدث الي .. نفسُ الحلم منذ ثلاثة أشهر.. أستيقظ في نفس الساعة !.. أعددت قهوتي وقررت أن أخرج لاستنشاق بعض الهواء .. استمريت أمشي وأنا أناظر الناس والمباني إلا أن لمحتُ
مبنى قديم من طابقين تعلوه لافتة لطبيبٍ نفسي .. بقيتُ أُناظر اللافتة إلى ما يقاربُ الخمس دقائق وكان حارس المبنى يناظرني مستغرباً .. فقررت الدخول ورؤية هذا الطبيب .. ابتسمت للحارس وصعدت الى عيادة الطبيب .. دخلت إلى العيادة
مترددة لقد كانت غريبة .. كأنها مهجورة .. وجدتُ رجلاً بأواخر الأربعين يجلس على المكتب يطالعُ جريدة .. طرقتُ الباب وأنا أنظر إليه .. فنظر إلي ثم ابتسم لي كأنه يعرفني ..
=اهلا بكِ .. تفضلي بالجلوس
-شكراً لك
جلست وبدأت أنظر الى الغرفة .. الصور يملؤها الغبار! .. الأزهار ذابلة .. ما هذه العيادة .. قلت لنفسي
=كيف يمكنني أن أساعدك
- أنا.. أنا يراودني حلم منذ ثلاثة أشهر.. أي يتكرر كل ليلة
=هل يمكنك سرده ؟
- اجل ..
وبدأت بسرد الحلم وحين انتهيت ابتسم لي ثم طلب مني العودة بعد يومين ..
عدت إليه كما طلب مني .. ودخلت للمبنى الغريب بنظرات الحارس الأكثر استغراباً .. الطبيب لم يبدل ملابسه وكان يمسك الجريدة نفسها .. الأزهار الذابلة لم تتغير والغبار لم يتم مسحه .. راودني خوف .. وكان الطبيب المبتسم يستمتع بإعادة روايتي للحلم مراراً وتكراراً له .. مر اسبوع وأنا أذهب لهذا الطبيب
الغريب ولا أدري لما أذهبُ له لقد كان هناك شئٌ في داخلي يخبرني أنه عليّ الذهاب .. أذهب له وأنا أواجه نظرات الحارس وهمسه لأصدقائه..عيادتُه الغريبة التي لم يتغير فيها شئ منذ أن دخلتها .. جلسته الغريبة والجريدة الذي يقرأُها كل جلسة .. ترتيب الاوراق و المجلات الذي لم يتغير كذلك .. الصور التي تملؤها
الغبار ولم يتم مسحها حتى الأن !! اتخذت قرار مع نفسي أني لن أعود إليه ..فنظر الي فجأة ثم قال
= منذ متى يراودك هذا الحلم
_ يراودني منذ ثلاثة اشهر .. أي منذ الحادثة التي حدثت لعائلتي
=أترين نفس الاحداث كل يوم أم انها متقاربة؟
_ لا نفسها كل يوم
=حسنا أنت تحتاجين الى علاج
_أعرف لهذا أنا هنا!
=أجل صحيح .. هل ترين والدتك فقط .. أعني أن جميع عائلتك قد توف..
_أجل .. فقط أمي
=هل تمانعين باخباري كيف توفيت عائلتك
_ ... أخبرتك كانوا متجهين لزيارة أحد اقربائي خارج المدينة فانقلبت بهم الحافلة من أعلى الجبل .
=أنا أسف لسماع هذا .. لقد كنت هناك أيضاً .. لقد كان حادثاً مأساوياً ..حسنا سوف أكتب لك هذه الحبوب المهدئة سوف تساعدك على النوم..
كانت هذه المحادثة الأطول التي تمر بيني وبينه ..بدأ بكتابة الأدوية ولم أعطي بالاً للكلام الذي قاله بما يخص تواجده في الحادثة فقد كنت أعتقد انه من يحتاج الى طبيب نفسي وليس انا إلا أن جلست على أريكة قريبة من المكتب ونظرت إلى
المجلات الموجودة على الطاولة .. فلفت نظري الجريدة التي كان يقرؤها الطبيب كل يوم وكان تاريخها يعود لنفس تاريخ وفاة عائلتي .. فأخدتها وبدأت بقراءتها ..
حادثة فاجعة لحافلة تنزلق عن الجبل تودي بحياة ثلاث واربعون شخصا من بينهم الطبيب الشهير أ.م .. شعرت بثلج سكب على رأسي ..هذا اسم الطبيب الذي أنا داخل عيادته حالياً ..يجلس على مكتبه و يصف لي العلاج .. وقفت لا إراديا نظرت اإيه
. فابتسم وقال لم يتبقى إلا واحد وأربعين.. هربت أركض المنزل..وصوته عالق في ذهني حتى الأن.
نور ياسر العجرمي
اقتربتُ من حافةِ المبنى بقلم: نور ياسر العجرمي
تاريخ النشر : 2019-08-25
