هــامَــان Haman بقلم:محمد عبد الشافي القُوصِي
تاريخ النشر : 2019-08-22
هــامَــان Haman بقلم:محمد عبد الشافي القُوصِي


قصـــــــــــة قصـــــــيرة؛

هــامَــان Haman
    
   محمّــــَد عبد الشَّافي القُوصِــــــــــي؛

  انطلقَ مسرعاً نحو "الميدان" الذي كان الهدوءُ يسوده في ذلك الوقت، وهناك اختار ركناً بعيداً في إحدى الخيام الدافئة، واستسلم للنوم الذي كان يلاحقه من كل مكان!

    بعد قليل؛ استيقظَ فزِعاً من جرس الهاتف، فإذا بِخطيبتهِ تطلب مقابلته بلا أدنى تأخير، فقال لها بصوتٍ خفيض: مستحيل أترك "الخيمــــة" في هذه الليلة بالذات.

  سألته –وفي صوتها حشرجة-: ماذا تصنعون الآن؟ قال: نجحنا في إذلال "الطاغيـــة" وإجبارهِ على التنحِّي، ونُطالب بمحاكمة عصابتهِ ... ولا وقتَ عندي للثرثرة.

   قالت: ماذا أفهم مِن كلامك هذا؟ فأجابها بنبرةٍ حادَّة: كما قلتُ لكِ بالأمس؛ الأفضل لكِ ألاَّ ترتبطي بثائرٍ أوْ فدائي، فإنه سينساكِ ويُفكِّر في الخيام، والملاجئ، والاعتصامات. وفي ليالي الرومانسية لن يتحدَّث معكِ إلاَّ عن آلام الجرحى، وأعداد الشهداء!

    بمجرد انتهاء المكالمة؛ تسلَّلَ نحو أصدقائه المجانين بِعشق الوطن، فرأى "طلبة كلية الآثار" يُصرُّون على أن تكون المحاضرة الأخيرة في "ميدان الثورة"! وقد كانت محاضرة شيّقة وغاية في الأهمية؛ إذْ ألمح "العميد" إلى محاور أسئلة الامتحان، ومنها: الكشوف الأثرية الحديثة التي أثبتت أنَّ "هامان" كان رفيق الصبا لفرعون، ووزيراً للبناء زمن تولِّيهِ المُلْك، وقد طلب منه أن يبني له صرحاً من الطين الموقود "الآجِر". وأنَّ الكتابات الهيروغليفيَّة المنقوشة على "حجر رشيد"؛ أثبتت أنَّ "هامان" ترقَّى إلى أنْ أصبح قائد المَركَبات المَلَكية وناظر الخيل، كما صار رسول المَلِك إلى البلاد الأجنبية. 

   بمجرد انتهاء المحاضرة؛ صاح أحد الطلبة قائلاً: ألمْ أقل لكم بالأمس؛ بأنَّ "هامان" كان له قوات خاصة به، وأنه كان يَسجن، ويَقتِل، ويذبح! عِلْماً بأنَّ "هامان" موجود في كل زمان ومكان، وهو يستمد قوته مِن ضعفنا وخوفنا ... فاحذروا مِن سرقة ثورتكم، كما سُرِقتْ ثورات كثيرة من قبل، ولا تسمعوا لأبواق "الثورة المضادَّة" الذي يريدون نفخ الروح في جثَّة النظام المنهار، وترشيح أحد أصنامهم للرئاسة ... فما معنى ترشيح فلان أوْ فلان؛ مِن الذين كانوا أذرع الطاغية وأعوانه؟ ما فائدة أن يرحل "فرعون" ويحلّ محلَّه وزيره "هامان"؟

    بمجرد أن فرغ ذلك الطالبُ مِن كلامه، وتوجَّه نحو منزلهِ الذي لا يبعد كثيراً عن الميدان؛ حتى أصابته رصاصةٌ غادرة في الرقبة!

   الغريب، أنه في ذات المكان، وبنفس الطريقة؛ اغتيلَ خمسة مِن الثوَّار خلال أسبوعٍ واحد ... ولمْ يستطِع أحدٌ أن يكتشِف مَن وراء تلك الحوادث المريبة، وإنْ ظلَّ البعضُ يُردِّد مقولة أبواق النظام المنهار: بوجود "طرف ثالث" وراء تلك الاغتيالات! بلْ زعمتْ صحافة الفرعون؛ بأنَّه توجد مكائد شخصية، وأجنحة متناحرة بين المعتصمين في الميادين! 

    *   *   *

   في تلك الأجواء المملوءة بالتوجُّس؛ دعا الثوَّارُ إلى اجتماع عاجل للوقوف على لُغْز الاغتيالات المتكررة، وقد رفضوا بالإجماع وجوهـ العصر البائد، واتفقوا على ألاَّ يستمعوا لوساوس شياطين الفرعون وزبانيته، وقالوا: لا نريد تغيير أسماء، ولكن نريد اقتلاع الفساد ذاته ... أليسَ "هامان" هو الآلة المُنفِّذة لأوامر سيّده؟ أوَليس "هامان" هو الذي كان يبطش بالشعب، ويفعل الأفاعيل؟ فمتى جاز لعاقلٍ أن يرضى بحُكم سجَّانه وقاتله؟! 

    قال أحد الشباب المتحمِّسين: إذا فشلت الثورة؛ فإنَّ الوطن سيتحول إلى مقبرة للجميع! ولوْ أنكم قرأتُم الوصيَّة الرابعة بقصَّـــة (عصـــا مُوسى)؛ لأدركتم أنَّ مكر الطغاة بالجماهير يأتي عن طريق الخداع والأكاذيب تارة، وعن طريق الوعود والأُمنيات تارة ثانية، وعن طريق التخويف والترهيب تارة ثالثة ... فبهذه الوسائل الثلاث نجح الجبابرةُ في الاستخفاف بالجهلة والمُغفَّلين، وقادوهم كما تُقاد الحمير والأغنام!

  في ذلك الاجتماع الذي استمر إلى ما بعد منتصف الليل؛ تعهَّدوا على إكمال مطالب الثورة، وعلى رأسها: تغيير النظام بأكمله، وليس "رأس النظام" فقط، كما يُريد جوقة المنتفعين؛ بزعم الحفاظ على الاستقرار، و... و ... وما شابه ذلك من ألاعيبهم المكشوفة! 

*   *   *

    في تلك الأثناء؛ لم تكن مراكز القُوى، وفلول النظام المنهار بمنأى عمَّا يدور في الميادين الملتهبة، ولم يكونوا غافلين عمَّا يتردَّد في مؤتمرات الثوَّار ... فقد بذلوا جهوداً جبَّارة لإخماد الثورة؛ فوصفوها بأنها مؤامرة خارجية، واتهموا الثوَّار بأنهم جماعات تخريبية من خارج الوطن، وغير ذلك من أساليب الحرب النفسية التي استخدمتها كتائب النظام الاليكترونية المدعومة بقوى إقليمية مستبدَّة!

    وقد نجحوا بالفعل في إجهاض أفكار الثوَّار، واختراق صفوفهم، وتنصيب زعامات مصطنعة؛ ولاؤها للفرعون أكثر مِن ولائها لمبادئ الثورة ... فاقترحوا تعيين أحد ربائب الديكتاتور المخلوع رئيساً للبلاد! وظلوا يقترحون واحداً بعد الآخَر مِن الوالغين في الدماء!  

  وهنالك اختلط الحابلُ بالنابل، وتبادلت الاتهامات، وبلغ الإحباطُ مبلغه، وخيَّمتْ على الناس حالة من اليأس الشديد ... حتى ترحَّم البعضُ على أيام "الفرعون"، بلْ تمنّوا عودته مرةً أخرى!! 

    في شهور معدودة؛ نجح جنود الفرعون في تحقيق مأربهم، والالتفاف على مطالب الثورة، بعد ترويضهم للثوَّار؛ بإغراء البعض بوعودٍ كاذبة، وتيئيس البعض، وشراء ذِمَم البعض ... وتمَّ تنصيب أخبث جنرالات الديكتاتور رئيساً للبلاد!!

*   *   *

     منذ ذلك التاريخ؛ والسؤال يتردَّد على شفاهـ الملايين: كيفَ، كيفَ نجا (هامــــانُ) يوم الزِّينة؟ كيفَ بقيَ بعد هلاك فرعون وملائه؟ بلْ كيف اعتلى العرش؟ وأصبح أعتى مِن فرعونه، وأبشع  ضراوةً، وأشدّ منه بطشاً ... ؟؟!

   في تلك الأجواء المُريبة؛ خرجت الأفاعي مِن جحورها مرةً أخرى، وعلا ضجيج السفهاء؛ الذين فرشوا لهُ الورود، وشربوا  الخمور، ودقُّوا الطبول، وعزفوا لهُ الأناشيد ... وما أكثر الأوطان البائسة التي يبدأ فيها سجن المواطنين بالنشيد الوطني!!

    منذ تلك اللحظة؛ لا يدري أحدٌ ماذا حدث؟ لا أحدٌ يدري مَن سرِقَ الثورة؟ وكيف تبخَّرت آمال الملايين؟ وكيف عاد الوطن إلى بيت الطاعة الصهيوني؟ وكيف تحولت البلادُ إلى مقبرةٍ جماعية، وسجنٍ كبير لا يُسمَع منه سوى صرخات المعذَّبين، وأنين الجائعين؛ الذين لم يجدوا سبيلاً يفرغون فيهِ مشاعر الغضب؛ سوى تسويد الحوائط والأرصفة بالشعارات الثورية، مثل: 

  الثورة مستمرة .. ونحن نتعبَّد للهِ بالثورة!
 الفجر قادم؛ وإنْ طال ليلُ الظالمين!
مقاومة الطغاة مِن طاعة الله!
موتوا وقوفاً .. ولا تمُوتوا تحت أقدام الطُغاة!