ذاكرة ضيقة على الفرح 7
تاريخ النشر : 2019-08-19
ذاكرة ضيقة على الفرح 7


7

لا أعرف أحداً ، ولم أسمع بأحدٍ قط ، أنَّهُ قد ينسى تفاصيلَ أُسرتهِ ، لصالح أشياء أخرى ولكن  أبي ، الذي كان قد نسي تسجيليَ في المدرسة ، لسنتين متتاليتين  لم يكن ذلك ، لصالح أيِّ أشياء قد تجوس خاطر القارئ ، إنّها فلسطين ... أيعقلُ ذلك ، وما علاقة الفلسطين بكل ذلك ؟

بعد الإبعاد من غزة الى الاردن ، ومن ثمَّ الى سوريا ، كانت تمرُّ ساعاتٍ عليه ، يبكي في البيت على تلك الحال التي وصلنا اليها ، فلم يكن يقنع بأسوأ الأحوال أنّه خارج فلسطين .

كان رحمه الله شديد البأس ، قاسياً وعنيداً في الوصول الى ما يريد ، وكثيرٌ من صحبه القلائل الباقين على قيد الحياة ، يعرفون ذلك تماماً ، ولكنهم يعرفون أيضاً رقّةَ قلبه وحبّه الشديد ليافا واستعداده لركوب أصعب المخاطر ، في سبيلها ، وقد حدثني ذات يومٍ المرحوم شومر والمناضل الجميل عبد الفتاح ابو نحل ،  "أبو المهادي " العزيز الذي ما زلت ألتقيه بين حينٍ وآخر في غزة ، اضافة الى المناضل محمد المدني " أبو يافع " بتفاصيل عن ذلك الجنون  وذلك العشق ليافا الذي جعله دائم الاشتغال والترحال من موقع لآخر ، برفقة رفاقه يتفكرون في سُبل الوصول ، الى العدو لإيذائه وارغامه على الرحيل ، كانوا مؤمنين بمسعاهم ، ولكن بعد مرور سنتين على تأخري عن دخول المدرسة ، تكفل الاستاذ المرحوم جمعة الأشقر بتسجيلي ، فكنتُ أكبر أبناء صفي وهذا ما ترك لديَّ احساساً مختلفاً ، في البداية كان سلبياً ولكن سرعان ما تحول الى منحاه الايجابي ، فقد كنتُ دائماً في مدرسة " الخيرية " عريفاً للصف حتى نهاية المرحلة الإعدادية وكان لي قولٌ على أقراني ، يحترمونه ويتبعوني في كثيرٍ من التفاصيل ، ولا سيما أنني كنتُ طالباً مجتهداً ، بل متفوقاً اضافةً الى الحضور الآخر ، الذي كان لأمي والمدرسين دورٌ بارز فيه ، فلم تكن تجيءُ أية مناسبة وطنية دونما أن يكون لي دور ، في كلمةٍ مرتجلة في ساحة المدرسة أو قصيدة شعر ، ولو أنا تقاعست عن المشاركة ، كان مدير المدرسة المرحوم " عبد نجيب علي " مناضلاً عروبياً  يدفعني ويشجعني على اعتلاء المنصة وقول أيّ شيء في المناسبات ، اضافة الى أمي التي كانت تتباهى بجرأتي ، وتكفلت مبكراً في تقوية لغتي .

هناك في ذلك الفضاء الأثير ، عاد الفتى الذي كنتُ ، يصوغ العلاقات وينمي وعيه ، باتجاه الحلم الذي نما في العروق مبكراً ، ولم يعدْ الفقد الذي لحق به ، غير بوصلة تدلّه نحو الفضاء 

الذي يسعى اليه ، فإنّ ارادة الحياة هي الأقوى ، وإن فلسطين دربها الأنقى ، وصفوها الأجمل فلابدّ أن نكون الأجمل والأنقى ، كي نليق بها ، حكايةً لا يُعكرها دخيلٌ في تفاصيل الرحلة .

منذ البدايات كنّا لا نسلّمُ بوقائع الأمور ، مجموعةٌ من الفتية المشغولين بالكتابة والموسيقا ، والسياسة بما تعنيه من انحيازٍ لهذا الفصيل أو ذاك ، على أرضية العمل من أجل الفكرة ، التي تشعُ في رؤوسنا في كلّ ما نسعى اليه ، وكان كلّ منا ينتمي لفصيلٍ مختلف ، ربما أنا والمرحوم خالد البطل فقط كنا ننتمي لحركة فتح ، أما محمود فقد كان جبهة شعبية ، وخالد متولي جبهة التحرير الفلسطينيية ، وحمزة البشتاوي قيادة عامة ، وبلال نجيب نضال شعبي

ولكن كلنا - كانت فلسطين الحلم - هي بوصلتنا وعندما نخرج في المسيرات الوطنية وجنازات الشهداء ، كانت هتافاتنا واحدة وحنقنا واحد ، من حالة الخذلان التي تُحاصرنا هنا وهناك .

في تلك المرحلة التي كانت أواسط السبعينيات ، اندلعت الحرب الأهلية في لبنان ، وكنا نتحرق شوقاً – ليس للحرب – ولكن للدفاع عن أحلامنا التي كانت الثورة تمثلها آنذاك ، ولكن صغر أعمارنا تركنا في ساحة المخيم ، نترقب الأخبار ونخرج في الجنازات التي تحمل لنا ، خيرة أبناء المخيم الذين ضحوا بدمائهم ، دفاعاً عن الثورة الحلم ، فقد مرّت أيامٌ قاسية حيث شيع المخيم العديد من شبابه : أبو طوق ومحمد خليفة وخميس الحريري ، وآخرون تركوا حزناً كبيراً في نفوس الناس هناك ، وفي أزقة المخيم الذي كان عائلة واحدة ، فضاقت لحظة الفرح التي نسعى اليها ، وحملنا هموماً وأحزاناً كبيرة ، لم يكن لمثلنا في تلك المرحلة قدرة عليها .

هل ينتهي الأمر عند ذلك الواقع البائس ؟

المرحومة خالتي شهديه ... عندما يكون الطقس مغبراً ، والسماء سائحةٌ ألوانها على بعضها البعض ، والريح تعوي في الفضاء ، كانت تقول : هذه الريح نذير شؤمٍ ، سنسمع بموتٍ ومصائب أخرى ... طبعاً أنا لستُ ممن يصدقون أو ينزاحون لتلك الحكايات ، والأساطير التي تقول بذلك أو بغيره ، غير أنّ الطبيعة أحياناً يبدو لي أّنّها ، تُشارك البشر أحزانهم  ومبكراً تستشعر ما قد يُصيبهم ... ورغماً عن المصادفات التي ، تصادق على قول خالتي شهديه وتوجسها ، فقد كنا نحاول دائماً أن نلوّنَ السماء بما نريد ، وكيفما نشتهي في محاولةٍ لصناعة لحظةٍ تناسب أعمارنا ، من فرحٍ نشتهي ، فهل نستطيع دائماً صناعة ذلك ؟