د. إبراهيم أبراش وميزة الإستقالة بقلم: منجد صالح
تاريخ النشر : 2019-08-13
د. إبراهيم أبراش وميزة الإستقالة بقلم: منجد صالح


د. إبراهيم أبراش وميزة الإستقالة

قرأت اليوم في الأخبار نبأ إستقالة د. إبراهيم أبراش من موقعه في رئاسة مجلس أمناء جامعة الأزهر. ويقول د. أبراش عن سبب إستقالته، صراحة، "بالبنط العريض"، ومباشرة، "ستريت"، دون مواربة ولا مداهنة ولا مجاملة ولا مجادلة، ويعزوها الى" تدخّلات من قيادات فتحاوية في غزّة" في شؤون عمله، في صلاحيّاته، "في مسامات جسده، وشهيقه وزفيره، وفي كثافة ونوعية الهواء الذي يزكم أنفه"؟؟!!

لم يعزوها، ولم يُرجعها، أي الإستقالة، إستقالته هو، الى الأزمة المالية، الضائقة التي تعصف وتعصر وتكسر مجاديف مجاميع الموظفين الصامدين الصابرين المُحتسبين ذلك عند الله سبحانه وتعالى، الذي لا يضيع عنده، جلّت قدرته في عُلاه، مثقال ذرّة من حسنة أو من سيّئة، في هذه الحالة، حسنة، وحسنة بإذن الله.

ولم يعزوها الى نقابة الموظفين، التي ربما "تُشاغب" عليه في عمله وتنفيذ قراراته ومهامه، كونه "يتموّضع" في قمة رأس هرم مجلس الأمناء.

ولم يعزوها الى تيّار محمد دحلان، الذي ربما يُسيطر على رقعة فسيحة من رمال شط بحر غزّة. يصنع مجسّمات من الرمل الرطب المبلول على الشاطيء، قلاع وقُصور وحُصون، ربما، تنجرف مع أوّل موجة أو التي تليها، لتذوب بين فقّاعات وزبد الموجة وأختها، ليعود الشط مُنبسطا دون بروز ولا نتوءات.

ولم يعزوها الى حركة حماس، وسيطرتها على القطاع ومقدّراته، وبرّه وبحره ومياهه الإقليمية. تتراوح بين ثلاثة أميال وإثنى عشر ميلا، حسب رغبة رشاش ال 500، المنصوب على "لانش" "الدبّور" الإسرائيلي، الذي يُسيطر، بكثافة ناره، على "المياه الإقليمية"، وعلى الشاطيء وعلى البنايات ما بعد بعد الشاطيء.

عزاها، فقط، الى تدخُّلات "الإخوة" في شؤون الجامعة، في تنصيب أو إعادة تنصيب أم التمديد لرئيسها الحالي، "بديمقراطية تامة"، بالرغم عن رأي ورغبة وإتجاه ومسار وأمواج بحر مجلس الأمناء، الرافض لهبوب الرياح "الصرصر". وربما كانت هذه هي "القشة التي قصمت ظهر البعير"، أو "حتى ظهر الأسد"؟؟!! لا أقصد الأسد، أسد دمشق، وإنما الأسد، ملك الغابة.

عادة لا أحب أن أكتب عن أشخاص، أو أتحدّث عن أفراد، فأنا أحب أن أكتب وأتحدّث عن أوطان، عن أحداث. أعشق في فيروز أنّها لم تُغنّي لأشخاص، لملوك أو أمراء أم رؤساء أو حُكّام. وإنما غنّت، وأبدعت، لأوطان ومدن، لبيروت ... سلام لبيروت. وللقدس، زهرة المدائن، يا قدس، ... يا مدينة السلام.

ولكنّي أكتب، في هذا الصدد، عن د. أبراش كحالة، حالة مميّزة، حالة تحدث كشهب المُذنّبات، "كلّ سبعين عاما، مرّة واحدة" أو ربما مرّتين.

لقد كنت قد تعرّفت على د. أبراش، في مدينة رام الله، في مناسبتين، "كسحابتي صيف"، سريعتين. تصافحنا في المرّتين، مع التحية، وربما "دردشنا" لوهلة. مرّة قبل أن يُصبح وزيرا للثقافة، ومرّة أخرى بعد أن "تربّع" قليلا على كرسي الوزارة. لكنني، والحقيقة تقال، كُنت، وما زلت، أُكنُّ لهذا الرجل، لهذا الكاتب، كل الإحترام والتقدير والمودّة، ودعواتي له على الدوام بالصحة والعافية، وبإستمرار جريان نهر حبر قلمه المبدع. وأن لا يستطيع، لا قدّر الله، "العسس" من الشرق أو من الغرب، من تكبيل قلمه المدرار، أو الزجّ بمقالاته الرائعة، التي "يفوح منها" عبق زهر البرتقال والليمون، في غياهب الدهاليز المُظلمة.  

لا أكتب عنه محاباة، ولا كي أغيظ فريق الطرف الآخر، في لعبة "شدّ الحبل"، بينهما، لا سمح الله. فلا مصلحة لي في ذلك ولا في ذاك. ولكن لقول كلمة حق في "حق" الرجل، "من وراء ظهره". فهذه الإستقالة هي الإستقالة الثانية بعد أن كان قد إستقال قبل عدة سنوات من منصبه كوزير للثقافة. لا أدري إن كان في مخزن جعبته إستقالات أخرى، ربما ثالثة أو رابعة؟؟!!

والإستقالة في مفهوم بحر الوطن العربي، عالي الأمواج، المتلاطم من المحيط الى الخليج، مرورا بالصحراء العربية المديدة والممدودة من صحراء النقب، الى صحراء الربع الخالي وحتى الصحراء العربية الكبرى في جنوب الجزائر، والساقية الحمراء ووادي الذهب وصحراء موريتانيا، أمر جللّ، أمر عظيم، لكنه نادر الحدوث، ونادر حتى الحديث عنه، "الشرّ برّه وبعيد"، في هذه الحالة الشرّ هو الإستقالة.

لكن د. أبراش "تمنّطق" بهذه الندرة مرّتين، "نيشانا زيّن صدره مرّتين" مارس هذا "الشرّ" مرّتين، في غضون سنوات، "معجزتين حلّتا بالأرض"، هبطتا على الأرض، حدثتا على الأرض، في حفنة وربما حفنتين من السنوات، ليس إلا!!

أعترفُ بأن موضوع إستقالة رئيس مجلس الأمناء، من بعد أن كان، ذاته، قد إستقال كوزير، قبل عدة سنوات، إستفزّتنني. إستفزّتني إيجابا، إذا جاز التعبير. إستفزّتني جدا، وإيجابا جدّا. فمن يستقيل، يا سادة يا كرام، مرّتين، من منصبين ساميّين، في غضون سنوات قليلة، في شرقنا العربي المبجّل، المزيّنة لياليه بالنجوم وبالقمر، المُتمايلة المتراقصة على أنغام الربابة؟؟!! لا أحد، وربما ما ندر، وربما نُدرة النُدرة.

كُنت وما زلت دائما أستمتع بمقالات د. أبراش، منذ أن تعرّفت على إسمه ككاتب، وعلى مقالاته الجميلة، المُتّزنه "المُتوازنة". تنّضح وطنية وفائدة وسعة إطلاع ومعرفة. تحليل هاديء وعميق، يستحضر الماضي ويكشف الحاضر ويستجلي المستقبل. ربما "لا يُهادن" في قول وجهة نظره، قول الحق والحقيقة، " ما بيقطع الراس إلّا إلّي ركّبُه". ينمُّ ذلك عن شخصية إستقلالية ومستقلة. عن إعتداد طبيعي بالنفس "وبالنفيس". "يُحاول أن يتصرّف وكأنه يكتب في دولة أوروبية" وبقلم حرّ نزيه. ألا يحق لنا أن نكون هكذا، وأن نحلم بذلك؟! وأن تسمح لنا سهولنا الخضراء وزرقة مياه بحرنا ونهرنا بالكتابة باللون الأزرق، وأن لا يرشّ "أحد ما" علينا رذاذ سوائل بألوان أخرى، كالأحمر مثلا، لا سمح الله ولا قدّر.

الإستقالة ندرة ونادرة، لكنها ميزة، مميّزة، إمتياز، بإمتياز. وهي طبيعية وواجبة ومفيدة وربما ضرورية، أحيانا، هذا لو كنّا نتحدّث عن أزمان مثالية، عن ظروف طبيعية، عن معاملات يُفترض فيها الأمانة والنزاهة والصدق والكرامة والجرأة. لكننا نعيش في أزمان كالبحر، كأسماك البحر، الكبير والقوي يأكل الصغير والضعيف، بلا رحمة ولا شفقة. شريعة الغاب تفترس فيها الحيوانات الضارية الجارحة الغزلان الشيقة، ممشوقة القوام، حورية العينين، الهادئة الناعمة الوادعة الحالمة.

أُناس مستعدّون لمحو ومسح بشر وسكان نصف الكرة الأرضية من أجل الإستمرار في التمسّمر والتمتّرس على "الكرسي الوثير"، الذي "تنزُّ" جنباته ذهبا وفضة، و"تنزُّ" أيضا "لحما مجزورا من رقاب كل من يجرؤ على الإقتراب منه"، أو التعدّي عليه، أو النظر إليه، أو التفكير في نقد أو إنتقاد "حامي حماه"، الجالس دائما وأبدا فوقه ومن حوله، خمسة كيلومترات دائرية "أرضا محروقة"، لا ينبت فيها شجر ولا زرع. يحرسونها بالحديد والنار وبالجمر واللهب، وحتى "بمنشار خشبي" إذا لزم الأمر!!!

أليس عجبا أن يستقيل د. أبراش من منصبين هامّين مرتين؟ لكن ذلك مدعاة للفخر والإعتزاز أن يأخذ مثل هذه الخطوة وأن يتصرّف وفقا لقناعاته ومفاهيمه وما يُملي عليه ضميره الحي اليقظ. إعتداده بنفسه وإعتزازه بكرامته وممارسته لحقه في تولّي المنصب وفي تركه و"التخلّص" منه عندما يُصبح عبئا عليه، يُثقل كاهله، و"يسُدّ" نور الشمس والقمر عن ايّامه ولياليه. فكم من د. أبراش لدينا في وطننا الصغير وفي وطننا الكبير مترامي الأطراف؟؟

تحية الى د. إبراهيم أبراش الإنسان والكاتب والإنساني، مع حفظ كافة الألقاب والمسمّات التي "علقت" بإسمه، في مسيرته المديدة، السرمدية، في خدمة وطنه.