مثقفو العرب واعوجاج القلم بقلم:بكر أبوبكر
تاريخ النشر : 2019-08-13
مثقفو العرب واعوجاج القلم بقلم:بكر أبوبكر


مثقفو العرب واعوجاج القلم

بكر أبوبكر


فاجأني موقف بعض المثقفين العرب والكُتّاب وعدد من الاعلاميين الوازنين في ظل الأزمة التي حصلت بين فلسطين وبعض دول العرب على إثر الرفض الفلسطيني الصارم حضور ورشة البحرين، حيث أنبرى بعض الكُتّاب للطعن بالموقف الفلسطيني الذي شكّل إجماعًا كان من المفترض أن يجعل دولنا العربية تعيد النظر في قرارها حضور الورشة.

 ولما لم تفعل هذه الدول المأمول منها فلسطينيا، قام الكُتّاب العرب في عدد منهم بدلًا من أن يحاكموا المواقف بموضوعية أوعقلانية لاانفعالية، أن طبقوا العكس، فلم ينحازوا لفلسطين بكل وضوح، وفلسطين هي مصباح الهداية في ظلمة الأمة العربية والاسلامية، وهي مسبار المحيط وكاشفة العورات.

 فمن يكون مع فلسطين ظالمة أو مظلومة كما قال الراحل الخالد هواري بومدين فهو مع الحق، ومن يكن ضدها فهو حتما يعاند ذاته، أو ينحني للعاصفة، أو يقف مع السلطان، أوهو بالحد الأدنى ينتزع من ذاته ألقَها وحقيقة دورها الإرشادي بأن تكون عينا للحق وسوطًا ضد الباطل.

 ولكن هيهات، ففي زمن الكبَوات المتلاحقة والانسحاق تحت أقدام المستعمر الأمريكي- الصهيوني عزّت مثل هذه الأقلام المنصِفة، وتاهَ المثقفون في غياهب المصالح الآنية والنَفَس الرأسمالي الاستهلاكي الاسترخائي، في مقابل الحفاظ على خزانة أسرار الأمة المتمثلة بقيمها الحضارية الاسلامية-المسيحية الشرقية، وانفتاحها على الآخرين في سياق تقديس الحق والحرية والعدالة.  

هيهات هيهات أن تجد مُنصِفا بسهولة في ظل أزمة الركود الثقافي والفكري والقيمي حيث طغت الاستهلاكية المادية بل والثقافية على الأمة فدانت للعقل الاستعماري الغربي مطواعة.

أنّا لنا أن نجد من بين كُتّاب السلاطين من إذا كتب استند لمرجعيات الأمة الحضارية الشاملة والجامعة تلك التي تجمع الأمازيغي والكردي والعربي في ذات البوتقة المسمّاة عالمنا الحضاري العربي (العربية لسان القرآن) على مدى قرون خلت.

وقف عدد من الكتاب والاعلاميين-على قلتهم باعتقادي وكثرة عقلائنا- الى جانب مواقف عدد من الدول العربية في انصياعها لإرادة الاستعمار الأمريكي لعقولهم، وما يجلبه معه من الاستعمار الصهيوني المباشر والقادم لأمتنا العربية والاسلامية فركعوا عند ضغط الفارسي الذي تاهَ بين الأولويات فجعل العرب وحربهم أولويته حاملًا اللهب على أسنة رماح السياسة فلم يفِده التمسح بالقضية الفلسطينية.

  السياسي الإيراني حامي حمى المحرومين بالعالم يخلط أولوياته ويُظهِر عدوانيته البائسة للجيران ما جعل قِلّة بالآخرين يذوبون في نسيج عنكبوت الصهاينة الذين أدخلهم الدبور الأمريكي الى حِصن الأمة بسلاسة الانبهار بالغرب، وبأقلام زمرة من الكتاب الذين تخلّوا-وأظن ذلك مؤقتًا- عن القيم والمباديء الجامعة للأمة، فهذه أمتكم أمة واحدة.

ودون الإشارة لأسماء هؤلاء الأخوة الكرام من الكُتاب الذين قد نختلف مع بعض مواقفهم ولكن نقدرهم ونحترمهم، فإن منهم من لجأ لأساليب التفكير الأعوج والانفعالي بتحميل المعاني أكثر مما تحتمل، وبشحنها بالغضب والاستهجان وبالبغضاء والعداوة، ومن ذلك لجوئهم الى الممارسات الكتابية التالية:

1-السخرية والتهكّم من فلسطين! والفلسطينيين وقيادة الثورة والسلطة

2-التحلّل من الارتباط النضالي والقومي في سياق التذمر

3-التساوق مع الأراذل من شتامي "فيسبوك" المخمورين بالعنصرية البغيضة

4-استدعاء التاريخ السياسي بنظرة سطحية، بل ونظرة غير صحيحة

5-ارتكابهم خروقات تاريخية، وإيرادهم مفاهيم مغلوطة عمدًا

6-تحميل المسؤولية للفلسطينيين،وإلقاء اللوم، والتحلل من أي التزام أومسؤولية تربطهم بفلسطين كقضية الأمة المركزية، كانت ومازالت

7-ربط جميع السياقات بإيران، فكأن من يتخذ موقف لفلسطين لا يُعجب بعض دول العرب هو بالضرورة مع ايران سياسيًا في معادلة حدية إقصائية غريبة

8-سعيٌ خفي أو ما بين السطور للارتباط مع الاسرائيليين! (أكثر من نصف مليون متابع لإذاعة صهيونية على الشابكة من العرب، و100 ألف من دولة عربية لا علاقة لها بالاسرائيلي يتابعون موقع وزارة الخارجية الصهيونية على فيسبوك!)

9-الإسراف بالدفاع عن مواقف أنظمة بعينها، والملل من أي معارضة والابتعاد عن نُصرة المباديء والقيم الجامعة.

10-إنسحاب المثقفين والاعلاميين والمفكرين من المواجهة المفتوحة مع العدو الأول والأساس للأمة العربية والاسلامية كان وسيظل لأن وجوده يشكل خنجرا في قلبها لإبقائها مقيّدة راكدة خامدة بعيدا عن كل أسباب الصناعة والزراعة والتقانة والقوة والنهضة والوحدة والحضارة.

11-قام بعض الكُتاب بتجميل الانفتاح المنفلت، والتطبيع المهرول مع الغاصِب المحتل للأمة وليس فقط الغاصب لفلسطين في دفن مقصود للمبادرة العربية عام 2002 ما يشير للإنهاك والتعب، والتساوق مع المخطط الأمريكي-الصهيوني.

12-اختلال منظومة القيم: فبدلًا من أي يكون الدفاع عن القيم والحقيقة والمباديء وحضارية الأمة الهدف تُستل السيوف من غِمدها لدعم موقف هذا السلطان أو ذاك.

13-بلا شك أن وراء ما سبق أيضا عمل استخباري وإعلامي صهيوني وأمريكي استعماري عنصري جبار يزيّن الخبائث ويزيّن الانفكاك عن الأمة، مقترنا بملء جسد الأمة بالتقيحات والجروح كما يظهر في كل بلد، وينظّر للاقتراب من الصهيوني باعتباره حامي الحمى! وهو بالقطع "حصان طروادة" لاحتلال الأمة واستباحة أرضها واقتصادها وثقافتها وفكرها الحضاري الجامع والمنفتح.

في اعوجاج القلم حين التخاطب بين الأخوة وبين أجزاء الأمة يتيه بعض الكُتّاب لأسباب مصلحية ذاتية، ولربما لنقص المعلومات أو للجهل بالأمور الذي كان الأدعى منهم البحث عن حقائق المواقف والمصداقية، وارتباطا بمرجعية الأمة الجامعة وليس ارتباطا بموقف نظام هنا أو هناك يتغير 180 درجة بين ليلة وضحاها فيتيه المثقفون أيدافعون أم يسخطون؟ حين التغيير. وهم من المفترض أن يكونوا حرّاس الفكر والفضائل وحصن المرجعيات والقيم والمباديء الجامعة للأمة.

ذكرت في مقال سابق أنني رجعت لكتاب "التفكير المستقيم والتفكير الأعوج" الذي زاملته من سنوات طويلة مضت فوجدته على الشابكة (internet) لأستل منه عبارة أوعبارات ذات صلة بجزء من آليات الاعوجاج الكتابي خاصة بين الأخوة، ولأهمية الكتاب للكاتب (روبرت ثاولس) وترجمة حسن الكرمي وإصدار عالم المعرفة بدولة الكويت فإنني أقترح رجوعنا له لنعرف ونستفيد معًا كيف نتقن فن الحوار والاختلاف دون انفعالية غاضبة وجموح، مع الحفاظ على حبل الود والتواصل والقيم الجامعة، حتى لا نكون نهبًا لأهواء ومواقف مصلحية تحملنا على جناح الكراهية والشِقاق، ونحن ككُتّاب ومفكرين وإعلاميين وأدباء وشيوخ من المفترض أن نكون قدوة الناس حتى حين الاختلاف.

        يقول الكاتب في ص14 من كتابه الجميل المعنون: التفكير المستقيم والتفكير الأعوج التالي: ((من الأقوال المعروفة كثيرا بين الناس قولهم كلمة "ثابت" يمكن تقليبها أو تصريفها على الوجه التالي: أنا ثابت (على رأيي)، أنت عنيد في ثباتك على قولك. هو كالتيس في عناده في رأيه. وهذا مثال بسيط على المعنى الذي قصدنا إليه. فهذه التعبيرات الثلاثة: ثابت، عنيد، عنيد كالتيس، لها معنى واقعي واحد هو تمسك المرء بمسلكه وامتناعه عن التأثر بآراء الآخرين. ولكن هذه التعبيرات لها معانٍ انفعالية فلفظ "ثابت" له معناه الانفعالي الذي يوحي بالاستهجان، ولفظ "عنيد" معناه شيء من الاستهجان، ولفظ "عنيد كالتيس" معناه الاستهجان الشديد. فإذا أردنا أن نجد معنى يكون محايدا من الوجهة الانفعالية ويؤدي المعنى ذاته من غير إعراب عن الاستحسان أو الاستهجان كان من الجائز أن نقول "فلان ليس بالسهل التأثير فيه".))

ويضيف الكاتب أيضا: ((ونحن في محادثاتنا العادية لا نصرّح بأن الشيء الذي يدور الكلام عنه هو في رأينا شيء حسن أو رديء، بل نلجأ للإعراب عن رأي من هذا النوع الى استعمال تعبيرات الوجه أو الايماءات أو نبرة الصوت. أما في الكتابة فلا يكون لدينا شيء من وسائط التعبير الانفعالي هذه ومع ذلك نصل الى ذلك مع تجنب استخدام تعبيرات مثل هذا حسن وهذا رديء عن طريق اختيار كلمات تنطوي على حكم بالاستحسان أو الاستهجان مثل كلمة ثابت وعنيد وهكذا)).

 ومضيفا ص15 ((أن هذه الكلمات مفيدة ولا شك، ولكنها مصدر خطر يتعرض له التفكير المعقول)) ويورد أمثلة لاستخدام اللغة بإثارة النوازع العدوانية والكراهية والبغضاء.

 وهو تماما ما حصل في تلك الفترة التي رافقت ورشة البحرين، التي كنا فيها أحوج ما نكون لتضامن عربي، وللحرص في اختيار الكلمات والعبارات مهما كان رأينا السياسي فلا نهيج الجماهير بلا فهم، ولا نثير نوازع البُغض فترى من الكُتاب والاعلاميين المفترض بهم الموضوعية والقدوة والمرجعية والوعي، ترى منهم التساوق الاستهلاكي أو المصلحي الآني، أوالانفعالي الذي يزيد الجروح عمقا ويجعل من العقلية الانفعالية مدرسة تنتشر لتحقق الكسب الشعبوي مقابل الخسارة الاستراتيجية، فما بالك بتجار وجُهّال وأغبياء وسائل التواصل الاجتماعي منعدمي الوعي وقليلي التهذيب وكثيري الفتن!