المرأة في ديوان ويندلع غنج البحر خليل إبراهيم حسونة بقلم:رائد الحواري
تاريخ النشر : 2019-08-12
المرأة في ديوان ويندلع غنج البحر خليل إبراهيم حسونة  بقلم:رائد الحواري


ويندلع غنج البحر
خليل إبراهيم حسونة
التجديد مهم وضروري في الشعر، وهذا ما يجعل كتابته صعبة، فعلى الشاعر أن لا يكرر ذاته فيما يقدمه، الشاعر "خليل إبراهيم حسونة" من الشعراء الذين استطاعوا أن يجدوا في شعرهم، فرغم ان اللغة الشعرية تبقى الجامع، إلا أن طريقة التقديم مغايرة لما جاء في الدواوين السابقة، فحالة التأنيث حاضرة وبقوة في ديوان "ويندلع غنج البحر" وهذا ما جعل الديوان يأخذ منحى مغاير، فرغم أن العنوان مذكر "غنج البحر" إلا اننا نجد حضور الأنثى/المرأة ساطع، وتكاد أن تكون الظاهرة الأكثر بروز في الديوان، وهذا الأمر يستوقفنا، لماذا العنوان مذكر والمضمون مؤنث؟ وهل هناك سبب وراء هذا التناقض بينهما؟، سنحاول أن نجد اجابة من خلال قصائد الديوان.
في قصيدة "في الكرى يضج الحريق"
"4
صهيل يحمل قوس قزح
غيم غارق في الصمت
بانتظار لحظة شوق، يقيده
جدائل شعرها
ونجمة التوق تبحر في الغيوم.
الورد
يقطف حلمها وجعا ونشوى..
صدى تموء على قلبه
سلاسل ضوء.. يقدم عشقه للروح
وكما الدليل بلحظ
أميرة الماء .. رذاذ الشوق
يعزفه الوتر..!" ص6.
رغم حضور المذكر/القاسي: "صهيل، غارق، يقيده، يقطف، صدى" إلا أن الأنثى كانت أقوى وجعلت المقطع أقرب للبياض، فجاءت الألفاظ ناعمة وهادئة: "قوس قزح، غيم، الصمت، شوق، جدائل شعرها، ونجمة التوق، تبحر، الغيم، الورد، يقطف، حلمها، نشوى، قلبه، ضوء، عشقه، للروح، الدليل، أميرة الماء، رذاذ، الشوق، يعزفه، الوتر" فالعلاقة بين المؤنث والمذكر علاقة تكامل وتفاعل ـ حتى لو بدا فيها شيء من القسوة ـ كما هو الحال في اللقاء الجسدي بينهما، فرغم ما فيه من (شدة وقسوة) إلا أنهما يستمتعان بفعلهما، (فالقسوة) جزأ من المتعة، ولا تحصل دونها، وهذا ما يجعل (القسوة) مقبولة في المقطع، فهي منسجمة ومتماثلة مع حدث (طبيعي)، ولهذا إذا ما توقفنا عند مضمون المقطع نجده أبيض.
ويقول في قصيدة "مرارة في الحلق، ودخان..!!":
"2
وردة مجروحة الوجنات،
تغني ما تحبه النجوم.
فيصاب بالبركان صحن خدها..
وثلة من الأصدقاء
تلملم الذاكرة ..
بليلة ماطرة.." ص51.
بداية المقطع متعلق بالأنثى، والأنثى البهية، إذا ما استثنينا "مجروحة، بركان" ورغم قسوتهما إلا أنهما يخدمان فكرة اللقاء الجميل، والملفت للنظر أن بداية المقطع متعلقة بالأنثى/بالمرأة، وتبدو تكملة المقطع غير منسجمة مع البداية، فهناك ثلة من الأصدقاء وليلة ماطرة، لكن إذا ما ابتعدنا عن واقعية المشهد، يمكنه أن يأخذنا إلى لقاء ما حدث بين الأنثى/المرأة وبين الذكر/الرجل، فنجد اشارات للعلاقة الجسدية من خلال "وردة مجروحة، تغني، فيصاب بالبركان، بليلة ماطرة" فمثل هذه الإيحاءات متعلقة باللقاء، من هنا يمكن أن نربط القسم الأول من المقطع مع القسم الثاني، فيكون هناك لقاء طبيعي بين زوجين/رجل وامرأة.
ويقول في قصيدة "جداول بوح ترشف الغيم..":
"3
...هكذا امتدت أصابع الفجر،
تدلق ما بدا لها، من هاتف
الضوء.. وصار تراب الأرض محشوا
بالندى القطبي
يشرب لون بهجته في دم العشاق واغترافا..
مقطع مذكر، لكنه يحمل الجمال واللذة، فالأفعال "امتدت، تدلق، يشرب" توحي إلى العلاقة الجسدية، كما أن الألفاظ: "أصابع، الأرض محشوا، بالندى، لون بهجته" تعطي اشارات إلى تلك العلاقة، وهذا ما حول مضمون المذكر القاسي إلى ناعم هادئ، واعتقد أن هذا الاستخدام للمذكر بهذا الشكل الأبيض ما كان ليكون دون حضور المرأة ـ رغم غيابها شكلا ـ لكنها حاضرة فيما بين الكلمات، وهذا ما يجعل المقطع أجملن فالمرأة حتى ودون أن تكون ظاهرة تفعل بقصيدة هذا التحول، فيكيف سيكون الحال بخضورها شكلا وفعلا؟.
"4
..الأحمر الوردي يجري
وقت التحام العظم، ساطعة
ذراته الهيفاء، والمنايا حكاية قزحية،
تهامس نجما عند
بزوغ الفجر، زادها صلفا.." ص59.
أيضا هناك ايحاء لعلاقة جسدية، فالمقطع بمجمله يوحي إلى وجودها، ف"الأحمر الوردي، وقت التحام، بزوغ الفجر، زادها صلفا" كلها تحمل اشارات إلى علاقة جسدية، واعتقد أن فعل "يجري" له دلالة حركة جسدية، كما ان معنى المقطع العام يشير إلى اللقاء/العلاقة، من هنا جاء حضور الأنثى كبير "ساطعة، ذراته، الهيفاء، حكاية، زادها" وإذا ما ربطنا المقطع الثالث الذي جاء فيه المذكر مهيمن، وبين المقطع الرابع الذي أخذت فيه الأنثى مكانها في الصدارة، يمكنا القول أن هناك تكامل بين المقطعين، فهما يخدمان فكرة اللقاء/العلاقة بين الذكر والانثى.
وجاء في قصيدة "يفك أزرار بنطاله الليل":
"5
..يا امرأة لا تبدل العشق حين
تقوم "ميدوزا" من غفوة الرح
وجنون الأبد
جسد تحض على هوجه الحمى..
عاصف كالرح
يشد الفستان بالنهدين..
كما فتحت الأرض مهجتها..
فتلم أضلاعها في لهفتي..
وأجوب القرى الناعاسات
ونسوة يثرثرن في
الحواري والحقول..
أنتمي للأرض كل مرة .. وتحكي
رؤاي السهول..
وتجري كموج يفر من القبضتين..
هكذا أغسل نهديها من شفاهي..
فتشربني في ومضتين.." ص81و82.
يدخل الشاعر مباشرة إلى القصيدة من خلال "لهفتي، وأجوب، أنتمي، أغسل، فتشربي" فقد تخلى عن الحديث من الخارج وبدأ يتقدم ليفصح أكثر عن نفسه، فهناك مجموعة من الألفاظ أكثر جرأة من تلك التي جاءت فيما سبق، وكأن دخول الشاعر مباشرة في القصيدة جعله يتخلى ـ نسبيا ـ عن الإيحاء وأخذ يتقدم من الوضوح: "جسد تحض، يشد الفستان بالنهدين، يفر من القبضتين، أغسل نهدها" وإذا ما توقفنا عند (العنف والقسوة): "جنون، عاصف، يشد، القبضتين" يتأكد لنا أن هناك عملية جسدية، والشاعر قدمنا من الصورة الجمالية للمرأة من خلال: " جسد تحض، يشد الفستان بالنهدين" وهذا الجمال هو الذي دفع الشاعر ل "أغسل نهدها من شفاهي" فالفاتحة والخاتمة جاءت متناسقة وتكاملة، فهو لا يكتفي بالإثارة فحسب، بل ينهي/يكمل المشهد، فالجسد اللذيذ فتح شهية الشاعر، فكان لا بد أن يتذوق طعمه، وهذا ما فعله، واعتقد أن الشاعر تألق عندما وصف نفسه "أغسل" وهي "فتشربني"، فهو من يسكب الماء وهي تشربه، وهذا يعطي صورة أخرى لألقاء الجسدي.
والشاعر يستخدم التراث الديني ليوحي إلى اللقاء الجسدي، وهذا الاستخدام تميز به "خليل إبراهيم حسونة" عن غيره، ويشير إلى قدرته على تناول (المقدس) بطريقة غير معهودة، جاء في قصيدة "في الكرى يضج الحريق"
"7
عينان نضاحتان، والهوى لا يتوب..
يقرأ ألف ليلة .. يرضع حليب النار
ويزيل الرمد..
وبعض جراح كيف طعن السكاكين
وتراتيل صلاة الأحد..
فرد صمد .. له المجد في عليائه
وهواه الذي لا يميد..
يناجيه عصفوران قد حطا على عود شجر.." ص8.
المثنى في المقطع: "نضاحتان، عصفوران" يشيران إلى أن هناك أثنان، ونجد ثنائية المعتقد، الإسلامي "عينان نضاحتان، فرد صمد" والمسيحي "وتراتيل صلاة الأحد، له المجد في عليائه" وهذا يشير أن هناك طرفان ينتمي كلا منهما إلا دين، وهناك (أصرار) على الإقدام على فعل الخطيئة "الهوى لا يتوب" والشاعر يبرر/يعلل هذا الإقدام على الخطيئة من خلال "يقرأ ألف ليلة" المثيرة بتفاصيل الحكايا فيها، فرغم (قدسية) المشهد إلا أنه يوحي إلى لقاء جسدي وهذا ما يجعل المقطع يمثل ذروة التمرد والتجديد.
يستوقفنا الايقاع السريع والحاد في قصيدة "زبد يحتمل هوس وجعه":
"1
..أحد .. أحد
فرد .. صمد
يعرف كيف ظل وجعه المخدر..
يحتوي هوس الزبد..
2
..أحد .. أحد
فرد .. صمد
يطلق الفجر بظلال عينيها الكحيلة..
وينطفئ الرمد..
3
..أحد .. أحد
فرد .. صمد
يغوص بحر هواها بالخبر المبجل
فيحاصره لهاث البرد..
4
..أحد .. أحد
فرد .. صمد
يندلع لهاث المقت، كما أندلع لظى الفرقدين
وجاء المدد.."ص136و137.
تستمر القصيدة على هذه الوتيرة حتى نهايتها في المقطع 15، واعتقد أن هذه القصدة تعبر عن حالة من التجلي جعلت الشاعر يقدم قصيدته بمقاطع قصيرة لكنها حادة وذات إيقاع سريع، فانتهاء العديد من الكلمات بخرف الدال "أحد، فرد، صمد، الزبد، البرد، المدد" كما أن الموسيقى خففت من حدة المقاطع القاسية فيها وجعلتها قصيدة غنائية بامتياز.
وهناك نوع آخر من القصائد الناعمة يتقدم فيها الشاعر من العاطفة والروح بعيدا عن (تلوث) الجسد، جاء في قصيدة "طقس معبأ بالكلام ما أرى..!":
"5
وردة لافح جمالها..
بطنها وحنينها كروم خمري..
في أعماق قلبي،
أضواء كنوز لآلئ دموعك..
قلب ازدهرت فيه العواطف
يعرف بين نهديك تكون
الكبرياء،
ولحن يقتحم سمفونية إلهة..
وأنا لا استطيع إلا أن أبتسم"ص32.
فهنا يتجلى (الحب العذري) بأبهى صوره، وبما أن هذا النوع من الحب فيه من الإيمان بالحبيب وبصفاء عاطفته، فإن يميل إلى استخدام ألفاظ حزينة، لكنها ليست قاسية : "وحنينها، دموعك، ازدهرت، العواطف، لا استطيع" وإذا ما أخذنا المقطع بمجمله نجده هادئ وناعم وهو ما ينعكس على القارئ عاطفيا.
والصورة الأخرى التي يقدمها الشاعر للمرأة جاءت تحمل صفات إله، فهي المخلصة والحامية والمكونة، جاء في قصيدة "في الكرى يضج الحريق":
"أدخلي في الأكيد..
هاجسي حلما بالنوى
والمستحب المديد
افتحي بابا للحكايا الوديعة
زمن الرطانات
يذوب .. بصدرك دثريني..
فليس بتحت السماء جديد
وكتبيني..
انقشيني على بؤبؤ العين .ز
لعينك هذى النذور..
إنه يومك بدر البدور..!" ص11.
رغم أن الشاعر يستخدم فعل الامر "أدخلي، افتحي، دثريني، وكتبيني، انقشيني" إلا أنه جاء بمثابة طلب استجداء وليس امر، كما أن الفقرة الأخيرة "بدر البدور" جاء بصيغة التمجيد والرفعة، وهذا ما يعطي صورة مطلقة للمرأة، فهي ليست أم، وليست حبية، وليست امرأة عادية، بل هي تجمعن كلهن، من هنا نستطيع القول أنها أقرب إلى الإله منه إلى ما هو بشري.
ويقدمها بصورة أخرى في قصيدة "عطش يطلق ضوء الحواس.."
"تتقدم مواكب السنين
تطلق دمعة شاكية .. تمتلئ
بهموم امرأة تعكس ناري..
فأبتهل لومضة مجفلة..
شمس مذابة في الفراغ..
تكسو حرارة النجوم..
تقطر نوما بليدا ..فأغب في
العذوبة .. أتسلح بالجمال البهي..
لكي لا تنظفئ
الشعلة اللإلهية في عينيها..
وهي تنظر للسماء..
اتنفس عطر شعرها..
عندما ترقد على صدري ..
وأرى في عينيها لمعان المعادن.."ص28.
فالمرأة تجعل الشاعر يقدم على فعل الإيمان "أبتهل" وتمنحه جمال الحياة "اتنفس عطر شعرها" وتطلق بصره "وأرى لمعان المعادن" فتبدو الحياة دونها بلا جمال ولا إيمان ولا بصر، وهذا ما يجعلها سبب وجود الشاعر، وسبب فرحه وشعوره بالجمال واحساسه بالإيمان، إذن كل النواحي الروحية تأتي بها المرأة، إذن، أليست تحمل صفات إله؟.
من هنا نجد الشاعر يتناول المرأة بأكثر من صورة، وهذا ما يجعل الديوان ديوان المرأة.
الديوان من منشورات مؤسسة التجهيزات الفنية، مجلس الكتاب والمثقفين العرب للطباعة والنشر والتوزيع، مجلة نسائم الشعر والأدب الإلكترونية.