ذاكرة ضيقة على الفرح 6
تاريخ النشر : 2019-08-12
ذاكرة ضيقة على الفرح 6


سليم النفار

6

خالتي الكبرى شهديه أُم سمير لم تلجأ مع بقية العائلة من يافا الى غزة ، فقد اختارت اللجوء الى لبنان ومن ثمَّ الى سوريا مع زوجها ابراهيم عكيلة ، حيث استقر المقام بهما في مدينة حمص وسط سوريا ، هناك على الطريق الرئيس الموصل الى دمشق ، كان بيتها ذو الطراز السوري القديم ، الساحة الكبرى والتي تتوسطها بركة الماء ، وتظللها داليةٌ من وسط الدار حتى الجدار الأخير ، حيث ما يُشبه كنبَ اليوم ، وربما أكثر جمالاً وراحةً من الكنب ، يجلسون هناك في الصباح يشربون القهوة ، وكذلك بعد العصر حيث ينتهون من أعمالهم المنزلية .

خالتي شهديه تتمتع بحنانٍ ودفءِ قلبٍ ، لم أر مثله حتى الآن في أية امرأةٍ ، عندما علمت بالخبر الفاجع جاءت لاهثةً الى اللاذقية برفقة زوجها ، الذي أخذ اجازة من عمله حيث كان يعمل في مصفاة النفط ، وتبعتهما بعد يومٍ خالتي نعمة - وزوجها - التي كانت تأتي كلّ صيفٍ أو أكثر من الكويت ، وبعد أيامٍ من الحزن وقهر الفراق ، الذي لم تسلِّم به أمي لسنواتٍ ، لم تقبل خالتي الكبرى أن تبقى أختها الصغرى - أمي – في اللاذقية فقرّرت أن تأخذنا معها الى حمص ولو الى حينٍ ، وعشنا عندها في ذلك البيت قرابة العام أو أكثر قليلاً ، وهناك في حمص حيث خالتي وبناتها وابنها الوحيد ، عشتُ تجربةً جديدةً ما بين الحزن الذي غزا قلبي مبكراً ، وبين محاولاتٍ للفرح تأتي من خلال علاقاتٍ جديدة ، ومناخٍ جديدٍ على كافة الصُّعد ، ولكنّهُ الطفل الذي كنتُ سيحاول الى الحياة ممراً ، فإنَّ الحزن يُميتُ القلبَ ، ولكن كيفَ أنسى وأنا الذي كان لصيقاً بمن رحلَ ، ودائماً كنتُ انتظرُ عودته بفارغ الصبر ، عندما يذهب الى لبنان ليعود لي بما أشتهي من هداياه الجميلة ، لم أفكّر ذاتَ يومٍ أنه قد لا يعود ، وقضيتُ مثلَ أمي سنواتٍ أحدثُ نفسي ، بأنَّ التابوتَ الذي قيلَ لنا أنّهُ يحضنُ جسدهُ ، قد يكون كلاماً غير دقيق ، ولذلك كنتُ أتخيلهُ داخلاً علينا ذات ليلٍ ، كما عودنا بهداياه  ، ولكن عبثاً كانت تلك الأخيلة ، فمن غادر لا يعود ، وإنْ بقيت الذكرى المؤلمة تحوم كفراش الحقول .

بعد وصولنا الى حمص بأشهرٍ معدودة ، وقعت حرب تشرين ، تلك الحرب التي غيّرت الصورة النمطية ، عن حروب العرب الحديثة منذ نكبة فلسطين ، والتي جاءت بمنظور أمل لو راكم القادة العرب عليه ، لما كان حالنا اليوم على هذه الصورة الرثة ، التي تدعو الى الغثيان و في تلك الأيام ، كنتُ مع ابن خالتي سمير نخرج الى الشارع الرئيس ، نراقب أرتال الدبابات المغربية والعراقية ، التي تأتي على طريق دمشق الرئيس مُتجهة الى العاصمة دمشق ، وكان مثلنا كثيرٌ من الأولاد والشباب والرجال والنساء ، يخرجن الى ذلك الطريق يلقون بتحياتهم الى الجنود العرب ، الذين يثيرون الفخر آنذاك بالنفوس ، ويرفعون رصيد الناس هناك من الأمل بنصرٍ يجيءُ .

وذات يومٍ من أيام الحرب القاسية ، شهدتُ بأم عيني أدخنة القصف المعادي ، الذي أستهدف مصفاة النفط ، وكانت الناس في الشوارع في تلك الظهيرة ، قلقةً تُعبّر عن تخوفاتها من وحشية العدو ، فقد ذهب كثير من الشهداء في تلك الواقعة ، وخالتي كانت في حالةٍ شديدة من القلق ، وبدأت تولول فزوجها من العاملين في المصفاة ،التي استهدفها الطيران المعادي ، ولكن سرعان ما هدأت عندما جاء العم أبو سمير ، فقد كان مغادراً المصفاة ساعة القصف ،وكُتب له عمر جديد ، حسب وصف خالتي التي كادت أن تُجنُّ عندما علمت بالخبر .

 هكذا قضينا أياماً وأسابيع ما بين الخوف والأمل هناك ، الى أن وضعت الحرب أوزارها ، وعدنا الى حياتنا الطبيعية تقريباً ، فقد هدأت النفوس وذهب الخوف بنهاية الحرب ، التي أثبت العرب من خلالها أنهم قادرون على هزيمة العدو ، فشعّ الأمل بغدٍ أجمل في نفوس الناس جميعاً ، وراحت تفتش عن مشاريعها وبرامجها الحياتية بجدٍّ ، وروحٍ ملؤها العزم على حياة أكثر جدوى .

الطفل الذي كنتهُ بدأ يتحرّر قليلاً من الحزن ، وربما المناخ الذي أحاطتنا فيه خالتي ، كان له الدور الأكثر أهمية في ذاك الاتجاه ، فكانت تأخذنا كلّ حين بنزهاتٍ في حمص الجميلة ، فلا انسى رحلاتنا الى بُحيرة قطينة ، أو مرافقتي لابن خالتي سمير للأسواق القديمة في تلك المدينة الساحرة ، اضافة الى بنات خالتي اللواتي يكبرنني جميعهن بسنواتٍ مختلفة ، غير أنّ الأقرب اليّ تلك التي تكبرني بسنتين فقط ، نهى .. التي كانت تجيء بصديقاتها في الحارة ، ونلعب معاً في ساحة الدار ألعاباً مختلفة ، أخرجتني من عزلتي وحزني فأصبحتُ أقرب الى أولاد جيلي وطرق تفكيرهم ، ولكن بقي شوقي الى مخيم الرمل وبحر اللاذقية ، الذي تعلمتُ فيه السباحة يناوشني كلّ حين ، وكذلك أمي التي عاشت في عائلةٍ جُلّها بحرية ، كانت تقول : نحن مثل السمك اذا خرج من الماء يموت ، لذلك لا نعرف أن نعيش بعيداً عن البحر ، وكان لها بعد عامٍ أو أكثر قليلاً أن طلبت من صديق والدي الوفي ، سمير شومر أن يبحث لنا عن منزل في مخيم الرمل ، فسمير صديق والدي والذي كان بحاراً ومناضلاً في حركة فتح ، كان يعمل أيضاً في الطبابة في الهلال الأحمر الفلسطيني ، وهو منذ استشهاد والدي لم ينقطع عنا ، فعلى الرغم من سفرنا مع خالتي الى حمص ، كان كلّ مطلع شهر ، يذهب من اللاذقية الى دمشق بسيارة الهلال ليجلب الأدوية لفرع الهلال في اللاذقية ، فيمرُّ بحمص على بيت خالتي يطمئن علينا ، كان نعم الأخ لها رائعاً متفانياً في خدمتنا ، سمير ابن طولكرم الجميلة كان اسمه حركياً ولا أحد يعرفه بغير هذا الاسم ، وبعد سنين علمتُ منهُ أنه شومر حسن وليس 

سمير شومر ، رحم الله شومر الذي عرفتُ فيه نُبل المناضلين الأوفياء ، إنه الفلسطيني الذي نريد .  

لم يتأخر شومر في البحث عن منزلٍ لنا ، وإن أزعج  ذلك خالتي المرحومة آنذاك ، فقد عدتُ الى مخيم الرمل وعاد التواصل مع رفاق الحيّ والصف ، وكانت خالتي دائماً تزورنا ونزورها وبدأ الطفل الذي كنتُ رحلةً أخرى ، باحثاً عن معنى الوجود ، وعن فرحٍ يدوم في حضرة الأم القائدة ، التي لم تتدخر جهداً  في صيانة روحنا شكلاً ومعنى .