أم ترثي نفسها بقلم:د. طاهر عبد المجيد
تاريخ النشر : 2019-08-11
في ذكرى رحيل الوالدة رحمها الله

أمِّ تَرْثِي نَفْسَهَا
د. طاهر عبد المجيد


أتى اليومُ الذي ما مِنه بُدُّ
ولا مِنْ بعدِهِ في العمرِ بَعْدُ

وكنتُ أظنُّهُ عني بعيداً
إلى أنْ جاءَ مثلَ الريحِ يعدو

كأنِّي لم أعشْ من قبلُ يوماً
ولم يعبثْ بنبضِ القلبِ جهدُ

ولم أُرضِعْ صغيراً ما بقلبي
كما لو أنَّ هذا القلبَ نهدُ

تُرى هل بينَنا يا موتُ ثأرٌ
قديمٌ جئتَ تطلُبُهُ وحقدُ؟

أم الشوقُ الذي تخفيهِ عَنَّاً
على مضضٍ إذا ما جُعْتَ يبدو؟

ونحن بنو الحياةِ وكيف تحنو
على هذي الحياةِ وأنتَ ضدُّ

بِودِّي لو تجرِّبُ ما نعاني
وتُدركُ ما الذي يَعنيهِ فَقدُ

ومثلك أنتَ ما ولدتهُ أمٌ
ولم يُنْجِبْ ولم يَحضنهُ مهدُ؟

أنا الأمُ التي خُلقتْ لتُعطي
وما لعطائها إلَّاكَ حدُّ

أنا بحرُ العطاءِ وكلُ بحرٍ
سوايَ أنا لهُ جَزْرٌ ومدُّ

أجودُ بما لديَّ ولا أبالي
إذا ما نابني هجرٌ وصدُّ

***
فيا أحبابَ قلبي صدِّقوني
قضاءُ الله لم يكتبْهُ نَرْدُ

هو القدرُ الذي إنْ قالَ شيئاً
فما في قولهِ أخذٌ وردُّ

ويبدو أنَّني استوفيْتُ عُمري
ورزقي مثلما قدري يَوَدُّ

وعشتُ بقدرِ ما يكفي وهذا
نصيبي في الحياةِ فلا تَحِدُّوا

ولا تبكوا عليَّ فذاتَ يومٍ
سيجمعُنا إلى الجنَّاتِ خُلْدُ

وهذي حالُ دنيانا فشيءٌ
بها يَفنى وشيءٌ يُستجدُّ

وهل أعطت لنا الأيامُ شيئاً؟
فلم تأخذْهُ أو هلْ دامَ سَعْدُ؟

وما الأرواح في الأجسادِ إلا
ودائعُ ذات يومٍ تُستردُّ

فكم للدَّهرِ من بابٍ سددنا
وظلَّ الموتُ باباً لا يُسدُّ

ننازعهُ السعادةَ دونَ جدوى
ومَنْ منَّا لهذا الخصمِ نِدُّ

ولا ننفكُّ نطلبها كحُلمٍ
ودونَ بُلوغِها للموتِ عهدُ

وتبقى مثلَما كانت سراباً
ضحاياهُ الكثيرةُ لا تُعدُّ

***
أحبائي يُعذبني اعتذاري
ولا أَدري أَيُقْبَلُ أم يُردُّ

دعوني أعتذر لأقولَ إنِّي
ظَلَمْتُ ولم يكنْ لي فيه قصدُ

فما أوجعتكم باللومِ إلا
وأوغلَ في دمي وجعٌ أَشدُّ

وإنْ عاتبتُكمْ فعتابُ أمٍّ
لكمْ في صدرها سَنَدٌ يَرُدُّ

وإن بَدَت المرارةُ في عتابي
ففي بعضِ العتابِ المرِّ شَهْدُ

وكنتُ إذا جفاني البعضُ منكمْ
أمدُّ يدَ الجفاءِ فلا تُمَدُّ

حنانُ الأمِ – لو تدرون – بحرٌ
عميقٌ ما لهُ في العُمقِ حَدُّ

وها أنذا أرى فيكم جمالاً
لأولِ مرةٍ ما كان يبدو

فكم شيءٍ توارى عنْ عيونٍ
لشدَّةِ قُربهِ أبداهُ بعدُ

***
أحبَّائي رحلتُ بلا وداعٍ
رحيلاً ما لهُ أبداً مَرَدُّ

رحلتُ وحيدةً من غير شيءٍ
سوى ذكرى إلى الماضي تَشُدُّ

ولم أُمْهَلْ لأسألَ مَنْ ورائي
سيكملُ ما بَدأتُ ومَنْ يَسُدُّ

كأنَّ الموت يَعْنِي كلَّ حيٍّ
سِوايَ أنا وعندي منهُ وعدُ

بودِّي لو أعانقكم قليلاً
لتُشرق بسمةٌ ويجفَّ خدُّ

وآتي تحتَ جُنحِ الليلِ طيفاً
لأحضنَكم إذا ما اشتدَّ بَردُ

فإنْ نمتم أقبِّلكمْ وأمضي
إلى بيتي فبيتي الآنَ لَحْدُ

وأرجعُ مع رحيلِ الليلِ فجراً
كعصفورٍ على الشُّباكِ يَشدو

أسجِّلُ ما أراه على شريطٍ
من الذكرى يروحُ معي ويغدو

شُغلتُ عن الوصيَّة في حياتي
بدنيا كلُّها همٌّ وكدُّ

بماذا سوف أُوصيكم وعندي
وَصَايا لا يُحيطُ بهنَّ سَرْدُ

خُذوا من صالحِ الأعمالِ زاداً
ليومٍ مثل هذا واستعدُّوا

فإنَّ الموت يعملُ في خفاءٍ
ولا أحدٌ يُحسُّ بما يُعِدُّ

يُصوِّبُ كلَّ آونةٍ إلينا
سهاماً لا تَطيشُ ولا تُرَدُّ

سهامٌ لا تُفرقُ بين كهلٍ
وطفلٍ لم يزلْ في المهدِ بَعْدُ

إذا الشيطان فرَّقكم فكونوا
كأجفانٍ يفرقهنَّ سُهْدُ

وكونوا في خصومتكم غيوماً
يسابقُ غيثَها برقٌ ورعدُ

يهونُ المستحيلُ على أيادٍ
تصيرُ يداً إذا ما جَدَّ جِدُّ

وأما أنتَ يا منْ كلَّ يومٍ
تُحرِّرنا يداكَ وأنتَ عَبدُ

لقدْ حرَّرْتَني من أسرِ جسمي
فإنَّ الجسمَ للأرواحِ قيدُ

وفي جسمي من الأدواءِ ما لمْ
يُطقْ جبلٌ على الأهوالِ جَلْدُ

ولكن ما يُعزِّي الروح أنَّي
أموتُ ولي منَ الأحبابِ حَشدُ

وأنكَ مثلنا ستموتُ يوماً
ولكنْ دون أن يَبْكيكَ وُلْدُ