برزخ العشاق: سياسية بامتياز.. تونسية بلا جدال.. ثورية بكل المعاني بقلم:د. شاكر الحوكي
تاريخ النشر : 2019-08-04
برزخ العشاق: سياسية بامتياز.. تونسية بلا جدال.. ثورية بكل المعاني 

د. شاكر الحوكي،
 أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري
 بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس

"كان عاشقا للبذور والأشجار في مدن الدود الأسود".

"سأكتب.. فلا شيء يثبت إني أحبه.. غير الكتابة".

كلما ودّعت فصلا إلا وخيّل إليك أن وحي الابداع سيتوقف ليترك المكان للاجترار والتكرار، ولكن المفاجئة دائما أن كل فصل يطلّ.. يطلّ عليك برائحة عطر جديد.. همس جديد.. لغة جديدة.. حلقة أخرى من سردية جديدة عثرت للتو على راويها.. وهي مشغولة بالحفر عميقا في تعرية المسكوت عنه ونسف حصون خطابات الدولة العميقة وأجهزة البوليس القاتلة واللصوص العابثين بالأحلام الحالمة والمشردة. 

لذيذة كالتفاح.. متوجهة كزهر نار.. تنزل على قلبك بردا وسلاما.. تذوب في فيك كقطعة سكر.. تملؤك شعورا بالوطن وتشعرك بالوجود هنا والآن وغدا.. لست وحدك.. لست وحدك.. أيها القارئ فأنت البطل.. وفي مكان ما أنت المعني.. تنساب مفرداتها جدائل مخملية وتسافر بك عبر القصائد والقصص والروايات.. تحتاج إلى أكثر من مرة لقراءتها.. لا لتفهمها، بل لتتلذذها وتستمتع بها وتقتني منها أكثر من نسخة لتقدمها هدية للعشاق والثوار. كيف يمكن لنص مكون من اللغة أن يكون خارج اللغة؟ هذا السؤال الذي طرحه رولان بارت هو ما نعثر على جوابه في الرواية .

1- مختصر الرواية وأبطالها: لا أسماء مخصوصة فكل الضحايا أسماء.. وكل الشهداء أبطال

هي رواية المجهول والمنفي والمفقود والمغدور والصعلوك.. والمثقف الذي ترك حبيبته وغادر.. ترك الوطن وغادر.. ترك من سيقتله وغادر.. اختار باريس منفى ليعود إليها في مطلع الثورة.. ليلقى حتفه بيد الغدر والقتل.. ويوارى التراب في الخلاء.. دون جنازة.. وبلا بكاء. 

تبرز ملامح شخصيته عبر التذكّر وإحياء الذكريات.. ومن خلال فصول الرواية تدرجا.. هو بلا اسم.. ولكنّه جنوبي الموطن.. صحراوي الهوى.. من أبناء الفلاقة.. أبناء النخيل والصفصاف.. من قرية قصية.. قريبة من الله بعيدة عن الحكومة.. هي داخل الكرامة.. ولكنها خارج الدولة.. علمته التحدي.. وعدم الخوف.

كان شغوفا بالثقافة.. مسكونا بالقراءة.. رفض أن يعيش متسولا على عتبات الحكام.. وأن يشارك في اغتيال المعنى.. وشاءت الأقدار أن يعيش في زمن الكتابة القاتلة.

انخرط في النضال ضد الطغيان.. مفضلا  الطريق الأعسر في مواجهة الأفعى.. وأن يكون حبّة الرمل الذي تعطب الآلة الجهنمية.. 

يسكنه خليط من الوجدان الثوري واليسار الاجتماعي.. ويؤثث تفكيره خط نقدي لا يبالي بالقوالب الجاهزة.. يحلم بأن يرى الأطفال يسيرون إلى مدارسهم  في البراري الموحشة وقد عبّدت لهم الطرقات.. ووسائل النقل توفرت لهم والمدارس جهزت بوسائل التدفئة.. وتمكّن الآباء من تحقيق حلم بناتهم في مزاولة دراستهن، لا أن يتركن خدما وجواري في بيوت الأثرياء.. وأن تصبح القرويات سيدات أراضهن.. لا أن يحملن كالمواشي في الجرارات.. وأن يتمسك الشباب بأرضه يخلق جنته منها قمحا وزيتونا وفستقا ووردا.. لا أن يغادرها إلى التيه وأحزمة المدن السوداء.

وبين موت يقبض على أنفاسه وحياة لا تريد أن تغادره.. في لحظة البرزخ المزدوجة التي يحياها في قبره.. متأرجحا بين عالم الحياة وعالم الموت.. يسترجع وجه حبيبته المشرق بشعرها الكوثري.. ووجنتيها الورديتين.. وجبينها المضيء.. وعيناها المقمرتان.. وكله شوق إلى صوتها.. يتمنى "أن يضعه في كأس بلوري يرتشفه ويلعق شهده".. يستحضر صفاتها وخصالها  بخشوع وكأنه يمارس طقسا تعبديا.. جميلة كثورة.. بهية كصلاة.. شهيّة كقبلة.

كانت تقيم في شرايينه.. وتمتدّ جذورها في لحمه ودمه وجلده وعظمه.. هي تريد  "أن تنساب في نصّه حيث تعانق الرمد لتصبح هناك.. ما وراء النجوم.. قوس قزح  أو نشيدا.. وأن لا يتركها للنسيان" . وهو يريدها أن تكون نصّه وواقعه. هي تحبه كما هو.. وهو يحبها بشغف ويخشى عليها زوار الليل وقطاع الطرق. هي تحبه لأنه هو.. وهو يحبها لأنها وردته الأخيرة  . 

كانت من جبال الشمال.. وأحفاد خمير.. عنيدة كصبار.. متمردة دائما.. كشجرة فرنان.. برية الطباع.. لها كبر النخل وشموخ الصنوبر.. رغم التنكيل بها.. أبت أن تغادر الوطن.

ورغم محاولة شرائها بأن يجعلوها سيدة من سيدات المجتمع، ونجمة المنابر التلفزية، تنشر كتبها، ويحتفي بها.. فقد استعصت على اللصوص، ورفضت كل الاغراءات والمقايضات.. فمنعوا عنها نشر قصائدها.. و"صادروا حلمها وحاصروها بالنسيان وكلفوا عقابا برتبة صحفي ينهش لحمها كلما رفعت الصوت عاليا". وعندما عاد من منفاه وجدها في انتظاره.. يملؤوه جرح الوجود والتاريخ.. تحمله حجرا في وجه جلادها.. وتحمل قلبها له وردة حمراء.

من قبره يحاول أن يسترجع ذكرياته ليجد نفسه بين أواخر الثمانينات وبداية التسعينات يقاوم المنظومة الجديدة بعد أن أطاحت "بالزعيم الهرم".. وهي تلقي بنفسها في أحضان الحرية تحاول ترويضها والتمرس على استعمال مفرداتها.. والتشدق بعباراتها.. ولكن "لم تنطل عليه الشعارات البراقة.. فتحت القناع كانت الدولة تذبح.. وكان البوليس حارسا للصوص.. وكان اللصوص يسرقون المال والأحلام". 

مرّ مقاله الأول بسلام.. أين تنبه إلى الدكتاتورية الوليدة وحذر منها.. أما مقاله الثاني فاختفى على أثره دون أن يترك أثرا.. فقد تعرض بالنقد إلى مؤسسات القمع والاضطهاد وأجهزة البيع والشراء.. واستسلم الجميع لاختفائه إلا حبيبته لم تستسلم. كانت تواجه حارس القمع في تلك البناية الرمادية .. كقطة شرسة لتفتك اعترافا عن مصيره. أما هو فكان حبيس زنزانته ينخره  التعذيب والدود الأسود قبل أن يقرّر مغادرة  البلاد .. وقد جمع وثائق وملفات كثيرة عن فساد استشرى وعن وطن يباع.. واكتشف أن البقاء فيها بات مستحيلا.

 وفي منفاه الباريسي ظل خارج المكان.. ليس هنا وليس هناك.. معلق بين وتدين.. يشدّانه كوتر قوس.. هناك اقتحم عالم الصحافة العجيب بعد أن التقى بماري التي سرعان ما تحولت إلى وقوده الجديد.. وانخرطت في مشروعه الأكبر نحو استكمال الحقيقة ووضعها في دفتي كتاب. 

كانت امرأة ناجحة.. لم ينل من قلبها الدود الأسود.. شعرها أشقر وعيونها مفتوحة دوما على السؤال.. جاهزة باستمرار  للسفر والتحليق.. وترى الصحافة مغامرة مجنونة واندفاعا نحو الموت من أجل الحقيقة.

 زيارتها إلى تونس التي أخذتها إلى "الوكالة" .. جعلتها تكتشف المجهول داخلها: أسرار القمع.. والأنفاس المختنقة.. وسبل الاحتواء الناعم والصفاقات المشبوهة.. ولوبيات الفساد الإعلامي والمخبرين.. والادعاءات الزائفة عن المعجزة التونسية والديمقراطية الناشئة وصانع التغيير والعقل في زمن العاصفة  وزين الشباب الذي حول البلاد إلى جنّة.

 وأدركت هناك معنى الخطوط الحمراء.. وكيف يصير كل شيء بمقابل.. وكيف تشترى وتباع الضمائر.. وكيف ترهن الأرض وما تحتها وما فوقها لدود المال الأسود.. وكيف يوارى كل ذلك بأقلام التزييف والتزوير.. وكيف تحكم البلاد والعباد بقبضة حديدية محكمة.. وكيف أن الدود الأسود لا يتوانى عن الزحف.. وأن النظام يتحول بالكامل إلى سرطان خبيث وأخطبوط يلتف على كل شيء.. إلى أن أصابته زهرة النار بالرعب.. بعدما التهمت شراراتها ذلك الجسم النحيل لمحمد البوعزيزي.. وتوسعت رقعة الحريق في الوطن الغاضب من مدينة إلى أخرى.. إلى حين أن بحّت الحناجر وأعلنت عن نفسها الثورة. 

من منفاه الباريسي كان يتابع ارتباك النخب.. وفرار اللصوص واختباء الدود في الشقوق والحجور والمغارات.. حينما ألحّ عليه شعور العودة إلى الوطن وإلى اللحظة المشتهاة..

أعدّ حقيبته وعاد.. عاد كأسطورة يحمل بين جنبيه زهرة النار ووثائقه والكتاب.. عاد والبلاد ترتج وقد أصابها البركان..  عاد إلى الديار ليعيش أبهى مراحل الثورة.. حماة الأحياء.. وايقاع الأغاني.. راجع يا بلادي.. ونبوءة الشابي في قصيدة الوطن.

عاد ومذاق الحرية لذيذ كقطعة شهد رغم حالة الطوارئ السائدة في البلاد.. ليدرك أحداث "القصبة" الأولى والثانية  ويواكب لحظات التأسيس الجديدة.

عاد إلى امرأته بعد انتظار لم تعرف فيه اليأس.. عشرون سنة شوقا وعشقا.. ليستأنف معها الحلم.. رجلا حرا وامرأة حرة.. ويعيشا معا إلى الأبد "على سفح الجبال قبالة البحر في خلجان الشمال وأن يسيرا معا ليشهدا كل يوم حفل الأصيل وحركة النوارس فوق الماء".

ولكن سرعان ما تفطّن إلى أن الثعبان لم يكن يغيّر إلا جلده.. وأن القديم كان يرمم نفسه.. وأن "الانقلاب الخفي لا يفك ينسج خيوط اللعبة وأن الدود الأسود يعاود الزحف على المدينة كجيش جرار.." والفقراء غنيمتهم لاستعادة السلطة.. والخوف مخلبهم لنهش الذاكرة.. والحنين إلى الماضي صناعتهم اليومية الماكرة.. تحت إيقاع القصف الذي لا يتوقف من أجل دهس زهرة النار.. حتى قالت الناس.. لنعد كما كنا.. وحلت الردّة.. ونالت منه يد الغدر بطعنة في الشارع الكبير فأردته قتيلا.. وعادت شجرته المكسورة إلى تلك البناية الرمادية لتسأل عنه.. أعطوها كلاما.. ثم صمتوا.. لتنتهي الحكاية.. فلم يكن القاتل يبالي بالمحبين ولا تعنيه الأحلام.. 

يتابع تحلّل جسده وهو في طريقه إلى الفناء  حينما أدرك من لحده أن الذئاب أكثر أنسا من بعض البشر.. وأن عواءهم أكثر لطفا من لغط اللصوص وغوغاء القتلة.. وأن الوطن  يغتال عشاقه رصاصا أو نسيانا.. واكتشف من لحده أن الحياة على الأرض أصعب بكثير من الموت.. وأن الحياة على الأرض فعل عبقري لا يستطيعه الكثيرون.. وأن غياب الله في القلوب وارتحال الشعر  وصمت الفلسفة فعل مدمّر يجعل القلوب تضيق والأفواه تتسع.. ولكنه بقي مشدودا لمعرفة ما يجري في نفسه.. ويلحّ عليه معرفة من قتله.. ومشغول بمشروعه الذي لم يتخل عنه.. وإلى حبيبته التي ستكمله وتستكمل كتابه الذي يخلق ويؤسس سردية الثورة المشتهاة.. ويضيء درب الأجيال القادمة.. ليستمر الحلم وينتصر الإنسان(الحر) والثورة والجمال.. 

2- محاور الرواية: تعرية الباطل والتزييف.. وانتصار للثورة

تبدو الصحافة.. واللغة.. والموت.. والثورة.. والمرأة.. والله.. تلك المواضيع التقليدية التي نعثر عليها في كل رواية.. ولكنها في برزخ العشاق تجتمع لخدمة غرض واحد وهدف واحد هو الثورة. 

• اللغة: لذة النص وبلاغة الرمز  وسبيل العبور إلى سردية جديدة 

برزخ العشاق نص يتأرجح بين لذة النص وبلاغة الرمز وايحاء المعاني؛ فزهرة النار هي الثورة.. وشجرة الميموزا أو الفرنان أو السنديان وغيرها من أنواع الأشجار والأسماء.. هي حبيبته.. فحبيبته شجرة من النساء وحشد من الأشجار.. دلالة على تجذرها بالأرض والأصل وعلى الثبات على المبدأ.. ولكنها دلالة على انكفاء الذات على ذاتها حينما يداهمها الخطر ويسكنها الخوف.. فتحضر شجرة الميموزا.. وهي دلالة على التمرد والعناد والصمود حينما تحظر شجرة الفرنان والسنديان. 

أما الدود الأسود فهم اللصوص وقطاع الطرق الذين يقتلون زهرة النار.. ويأكلون لحم البشر.. ويسرقون المال والأحلام  ويبتلعون الأفكار والمعاني.. ولا يفكون عن التجدد كالأفعى والتلون كالحرباء للإيهام أنهم نهاية التاريخ.. وهم يخوضون معاركهم الوهمية.. بلا عقل أو عاطفة أو وجدان.. يحركهم الحقد المقدس الذي يسكن نفوسهم.. ومصالحهم الظرفية المؤقتة..

وهو المستعمر والمحتل الذي امتص ثروات الأرض ولم تغفر للأسمر الثائر اجتراءه عليها فنكلت بأهله.. أنها فرنسا التي قاومها أجداده بأسلحتهم وصارت فيما بعد ملاذ الفارين من وطن لا يشبه أحلامهم، ولكنها ظلت عدوة الشعوب الثائرة.. تستيقظ صباحا لتغني الحرية.. وتنام ليلا لتحرس أحلامها الاستعمارية.. 

وهو الارهاب "الذي يغير ثوبه دائما.. ويتناسل ويتكاثر.. ولا يتوقف عن الزحف وفي مرماه مدن الميموزا يستل منها زهرة النار، فتصير مدن أراجوز يتحرك فيها البشر كعرائس الدمى بحبال يمسك قبضتها المسؤول الأكبر ". 

 أما عن اللغة كمحور للرواية  وأسلوبها في التعبير.. فقد آلت على نفسها أن تتحرّر من سلطة المال والايديولوجيا وعبء التاريخ وأن تأخذنا إلى ما قبل الحضارة.. إلى ما قبل أن تصبح أداة لحجب المعنى.. وقبل أن يصيّرها لصوص التاريخ أقنعة.. وتستولي عليها السلطة فتلبسها قمعها وتطوقها بفسادها وتنفخ فيها الثرثرة والهرطقات.. لعلها بذلك تحررّها من الوهم الذي أصابها.. لتؤسس سردية جديدة وذاكرة أخرى.. تليق بالثورة وزهرة النار.. فتنفذ إلى القلب كبلسم.. ويكون النص كبيرا.. كبيرا. ولعلّ هذا ما يفسّر  لماذا اختارت الروائية أن تكون هذه اللغة من العالم الأثيري وعالم البرزخ لتأتي حرّة متوجهة كثيفة رقراقة.. كأنها وحي أو الهام.. لا تحتمل التزوير ولا ينفع معها الغدر.

• الصحافة.. وقود الثورة المضادة  ونشر الخراب

قتلة بالقوة ومجرمون.. يتقدمون صفوف معارك لم تجر بعد.. وخناجر الغدر وراء ضهورهم.. يتحينون إشارة الانطلاق.. وهم عطشى للدماء.. يبشرون بالخراب.. من علبهم الضوئية المغلقة وأوراقهم المحبّرة بلون قلوبهم الأسود يستفردون بالمشاهد المسكين.. ليزرعوا في رأسه البلاهة بعد أن يسكروه نبيذ الزور والغفلة.. ويجندوهم في معاركهم الأبدية والوهمية. قتلوا الثورة وهم يمضون وقتهم جزوعين ومذعورين.. يردّدون اسطواناتهم المشروخة في كل المساءات.. ويفضحهم تشجنهم وتوترهم الذي يمارسونه بعناوين حرية الرأي والتعبير.. والدود الأسود  الذي يحتل قلوبهم ووجدانهم. 

ولا غرابة أن  يحتلّ محور الصحافة مساحة هامة من الرواية ويخترق كل فصولها ويواكب أحداثها. وهو موقف من الروائية لا يبدو صدفة. فالصحافة كانت فاعلة ولازالت في كل المنعطفات الكبرى التي مرّت بها البلاد قبل الثورة وبعدها.. تصنعها وتؤثث مفرداتها وتسلط عليها ضوءها.. لتكتب سرديتها المزورة.. والمدهش أنهم يزعمون أنهم ينقذون البلد من الهاوية ويدّعون تحريره من قبضة الظلاميين.. وما هم الا لصوص كبار تمتزج رائحتهم  برائحة  المال العفنة.. لا يجيدون إلا إنتاج العناوين المرعبة.. وكأن البلاد على حافة الهاوية.. وأن الثورة كابوس.. وهم أكثر المستفيدين من بركاتها بعدما ظهرت عليهم علامات الأناقة والفخامة والجاه.

• الموت الانسان والله: سبيل الثورة لقراءة العالم.. وتحقيق السلام 

في علاقته بالله والإنسان كان غيريا..  عطاء بلا حدود.. وحلما لا ينتهي.. اكتفى من السعادة بفنجان قهوة وجريدة على نافذة.. يريد أن تتسع الجنة لجميع الناس.. وأن تختزل ذاته عذاب  كل البشر.. فلا يسع  الجحيم غيره.

 وعلى الرغم من أنه مات ظمآنا، كان يريد للقطر أن ينزل بعده.. وعلى الرغم من أنه كان ميتا، كان يريد أن يصير عشبا تأكله الأغنام.. وعلى الرغم من أن الجرافات حولت رفاته جزءا من البناء، فإن شعوره هو الراحة لمصيره بأن أصبح رخاما حجريا لمدينة لا يدخلها الدود. 

فالموت بالنسبة إليه ليس النهاية، بل طريق للحياة ومحطة عبور إلى شيء آخر.. ورحلة أخرى تحرّره من أوهام البشر .. لتصفو الرؤية ويزول اللبس.. فإن يدفن أو يردم في رحم الأرض فلأن  ينفلق حياة.. ذلك أنه بذور في الأثلام.. وقد طلب من مريم طالبة الهندسة  التي التقاها في منفاه الباريسي، وأغرته بالأبوة بعدما أدرك أن قدر المرء في مدن الدود أن يبقى صعلوكا وإن الانجاب فيها جريمة لا تغتفر.. طلب منها أن تكتب على شاهد قبره المجهول: "كان عاشقا للبذر والأشجار في مدن الدود الأسود". 

وعندما عاد إليه قاتله.. يحوم حول قبره ويحفّ به.. جزعا مذعورا.. لم يكن يفكر في أن ينتقم منه.. ولا أن يثأر.. كان يريد أن يراقصه رقصة زوربا.. وأن يحرّره من الشرّ الذي يسكنه وأن يعانقه كرفيقين.. أليس الوحيد الذي لم ينساه عندما نسيه الجميع؟  يقول له هيّا لنرقص ولننفجر إنسانية وحبا. 

كل ما كان يؤرقه.. ويبحث عنه هو أن يعرف كيف يصير المرء قاتلا؟ وكيف يتحول القلب إلى صخرة والوجدان إلى صحراء تلهث فيها الأفاعي؟ وكيف لروح الله في الانسان أن تجعله وحشا؟ والله محبة وحرية وسلام؟ هكذا يصير القاتل والمقتول ضحيتان للعبة تدار خيوطها من سلطة مجنونة لا يعرف أصحابها إلا حرق المدن والجلوس على الربوة لأداء  معزوفة الموت والتسلي بمشهد الحريق  والاستمتاع بصراخ الضحايا.

وهنا جوهر الرسالة التي أبدعت الروائية في صياغتها وتصويرها.. فهي لا تبحث عن ثأر ولا حساب ولا حرب ولا تريد إقصاء أحد، بل هي تتعالى عن الجراح  وتبحث للقاتل عن أعذار، ولكنها تحمّل السلطة المسؤولية الكاملة في أن تقبل بحقها   في الممارسة السياسية والتفكير الحرّ دون حسابات جهوية أو دينية أو طبقية أو اجتماعية أو حتى عرقية (تتعلق بلون البشرة أو المظهر الجسمي). وهذه هي المعضلة الحقيقية التي تعاني منها البلاد اليوم إن أردنا أن نربط  أحداث الرواية بما يجري في الواقع.. إذ ترفض الدولة العميقة أن يخرج الحكم من يديها.. ومن أجل ذلك هي تسخّر كلّ ما تملك من أدوات التزوير والتلفيق لتبقى وحدها في السلطة.. حتى وإن استأصلت كل خصومها.. وحكمت عليهم بالإعدام والنسيان.  لتطلق بعد ذلك عنان الدجالين والمشعوذين ليلقوا على الناس خطبا  في الوطنية. وتزداد درامية هذا المشهد عنفا، عندما يؤتى بضحايا هذا الاستئصال وهذا النسيان ليأثثو بهم جلساتهم الخمرية ومسرحياتهم الملفّقة لينالوا منهم الإشادة والتصفيق والزغاريد! كم نحتاج من سنوات وأجيال لتجاوز هذا المشهد البائس ونتحرر من القيود التي تكبلنا ووصايا الدجل المزعومة. ولكن لذة النص أو متعته تبلغ هنا أرقى صورها كما يقول رولان بارت لا فقط لأنه يفرض على المرء أن يكون أرستقراطيا، بل بوصفه إمحاء غير متوقع لثقافة الحرب . تقول "الشجرة" وهي تحاول تأكيد هذا المعنى: "سأكتب بماء الرّوح لأقاوم من يكتبون بطين الكراهية ومداد الأحقاد. وسأكتب عن القاتل وسأكتب للمقتول.. سأنحت من عبق الكلمات فضاء ترتع فيه الحرية.. سأكتب عشقا ويكتبون خوفا، وأكتب طوعا ويكتبون كرها ". 

المرأة  وصراع الولاءات: الثورة بدلا عن النظام 

تحضر المرأة في الرواية حضورا بارزا تحتّل كل مساحات الخير والجمال والصمود والحب والتحدي. وتقحمها الروائية في قلب الصراع الدائر بين الثورة والثورة المضادة وتجعلها طرفا فيه، وتبرزها كلؤلؤة في سماء أصابها سراب الصحراء بالجفاء.. فصارت حبّات الرمل نجوما.. تريد أن تخلّد المرأة الجميلة كثورة والثورة الجميلة كامرأة؛ لتحدث بذلك ثقوبا في جغرافية أيديولوجيا الدولة الوطنية. فالمرأة التي راهن عليها النظام القديم لتكون عماده، واستطاع النظام نفسه أن يحافظ عليها في صفه بعد الثورة موحيا أنها الحارس الدائم والوفي لمكتسبات الدولة الحديثة وحقوقها.. وجدار الصدّ الأول والأخير أمام جحافل الظلاميين.. وقد صيّرها حليفا موضوعيا لشركات المال والماركات العالمية وآلة السوق الجهنمية.. اختارت الروائية أن تحررها من كل ذلك.. وأن تعيدها إلى جذورها.. وتجعلها عمادا للثورة، بل الثورة نفسها. ولذلك لم تسع الى أن تفتعل لها بطولات مزورة.. بأسماء مخاتلة وقضايا مركبة وملفقة.. فإمرأة الشجرة.. قارعت النظام.. والنظام اقتص منها وأباد حبيبها ودفعت الثمن. ذلك أنها النضال والعناد والصبر والإدمان على المعنى، والأرض المتصالحة مع نفسها ومع التاريخ والحاضر.. لتكسّر الروائية بذلك نموذج المرأة التي أرادته السلطة دائما.. تلك المرأة التي نحتتها بأصابعها وأوهمتها أنها تصنع نفسها بحرية.. وألقت بها على هامش المعنى.. لتبقى باستمرار متطلعة إلى النموذج الغربي.. ونمط تفكيرهم وعيشهم ولغتهم التي تصرّ على أن تجيدها بخيلاء.. وكلها جاهزية للابتلاع.. بعد أن انحسر تدينها في حدود إسلام الحاجة والاستجابة.. ولم يعد يشكل لديها رؤية للذات أو العالم وقد صيروه جزء من سوق العولمة والاستهلاك.. تعيش الشرق في أعماقها وتحتقره.. ومشدودة إلى الغرب وهي عاجزة على أن تستوعبه.

• السردية  : سردية تبنى.. سرديات تنهار 

برزخ العشاق نسف للروايات المزورة والبطولات المزيفة.. أربع سرديات كبرى عمدت الروائية على نسفها.

سردية الزعيم الذي صنع الاستقلال بفعل قوة ذكائه.. وبفضل "المادة الشخمة" التي تملأ رأسه.. والحال أنه انتزعه أو سرقه ممن افتكوه بالبنادق والأرواح.. ثم زج بهم في المعتقلات.. وحوّل ما تبقى منهم  إلى خلايا للمراقبة والوشاية وتعذيب المقاومين والتنكيل بهم لتتلاشي الحقيقة ويبقى أسمه وحده يتلألأ في صفحات التاريخ المزورة.. وزعم لنفسه وحده تحرير المرأة وهو يسلّم الدولة  إلى لصوص المال العام ولصوص السياسة مختزلا الحداثة في معاداة الدين.. فكانت النتيجة أن تعطّل مشروع التنوير الحقيقي وتركت البلاد على هامش التاريخ. 

-وسردية القائد المنقذ بمفرداتها البائسة والأدبيات المفتعلة حول المنجز النوفمبري والديمقراطية الناشئة والنموذج التونسي وصانع التغيير  وتلك الخرافات التي تصنعها أجهزة النظام لإشاعة الأوهام وحجب الحقائق تحت حراسة دولة القمع والبوليس والنسيان. 

- وسردية اليسار المتكلس على نفسه الذي لا يريد أن "يخرج من كهوف السبعينات بعد أن صارت أطروحاته حجارة ناتئة تترسب في قاع التاريخ". وظل حبيس زنازين الأيديولوجيا يرفض أن يمارس النقد على نفسه ويستوعب تحولات هذا العالم المجنون. 

        -وسردية الثورة المضادة التي "يخطها الدود الأسود ويحفرها مغاور وكهوفا وأنفاقا ويملؤها جثثا وأشلاء".. تسندها ماكينة الاعلام المضلّلة وهي تحفر أنفاقا في الذاكرة لإقامة النسيان.. وتؤطرها مخابر الدجل والتلفيق لصناعة الفتن والاجندات الخبيثة.

لذلك فإن الروائية تكافح بالقدر نفسه الذي يكافح فيه أبطال الرواية من أجل كتابة ما عجزت الثورة عن كتابته إلى حدّ الآن وإتمام الرسالة.. وقد فهمت بعمق أن نجاح الثورة التونسية تحتاج إلى نسف السرديات المزورة وبناء سردية أخرى جديدة غير التي يريدون.. تكون بلغة أخرى.. وبمفردات أخرى.. ومشاعر أخرى.. لمواجهة ثرثرة المتكلمين الذين احتلوا المنابر.. يبثون سموم أفئدتهم المريضة وهم يظنون أنهم جنود ملحمة إنسانية لتحرير الشعوب.. سردية لا تنهض على الحقد ولكن الحب.. ولا تعتمد التزوير والخداع ولكن الصدق والحقيقة في سيرها الواثق نحو نهايات الطريق.. يخطها "الشباب والعشاق الماسكين بزهرة النار.. " للأجيال القادمة لتقيم في الذاكرة وتسكن الوجدان وتقهر اللصوص الذين أرادوا ووأدها". فيها حكايته وحكاية الشهداء المنسيين؛"حكاية ثورة أبرقت فجأة وصارت غمامة تعد بالفرح ثم انكفأت على نفسها كبركة ماء آسن".. بعد أن أنهكها الدود ومكائد اللصوص وأعباء التاريخ وأوزار الماضي.. ترتل أنشودة "التاريخ لا يتقدم إلا ليتعثر".

• مصادر الرواية: درويش يؤثث النص وادور سعيد يسكنه 

مصادر الرواية عديدة.. شرقا وغربا.. بودلير.. ابن عربي.. لوركا.. ابو العتاهية.. غرامشي.. الشنفرى.. مظفر النواب.. جمال الصليعي.. ولكن محمود درويش حاضر  بقوة.. يتوارى حينا ولكن سرعان ما يكشف عن نفسه.. فهو عضلة القلب في جسد البطل.. قصائده مبثوثة في كل زوايا الرواية، تحلق بين ثنايا المفردات كطائر.. لتضفي على الرواية إيقاعا شعريا وموسيقى ساحرة: "موتي المشتهى".. "استدرجوك يا صاحبي وقالو.. استدرجوك وقالو" .."حاصروك يا قاتلي حاصروك".. "أرقص.. أركض.. أطير.. "أمسك بنجمة اربت على جناح طائر مرّ سريعا".. "خطأ كبيرا في القصيدة".. "أوج زينتها ويأخذها من أناملها".. "وردته الأخيرة".. "فكر بغيرك".. "وفاض عن النفوس".. "كم كنت وحدك".. "أيها المارون".. "يصير يوما ما يريد".. "لا أنسي قوت الحمام".

أما عند تناول كبرى القضايا الأخلاقية العميقة.. فيحضر إدوارد سعيد برؤيته الثاقبة لعلاقة الغرب بالشرق  وعلاقة الانسان  بالمكان والمثقف بالسلطة ومكانة المرأة في المجتمعات المعاصرة ومعضلة الارهاب. وقد اعترفت الروائية بأن محمود درويش وادوارد سعيد يشكلان وجدان البطل  ويؤثثان أفكاره.. وأنه يلوذ بهما لفهم العالم وتغييره.. والواقع فإن النص برمته يبدو محكوم بشعرية درويش ونقدية ادوارد سعيد.

3- خلاصة الرواية وخلاصتنا: هي تريد سردية يكتبها عاشق.. وهو العاشق الذي يبحث عمن يكمّل نصه

برزخ العشاق قصة عشق خالدة، تؤثث وجودها بالشعر والموسيقى وطرح الأسئلة الحارقة وتتغذى من الحلم والخيال الذي لا حدود له.. وتستمد حيويتها من قصائد الشعر والمقاومة ونصوص التحرر والانعتاق من التزييف والخداع الذي ينهض عليه بناء الاستبداد.. يتداخل فيها كل شيء بكل شيء (الموت بالحياة، الماضي بالمستقبل والزمان بالمكان) لتسقط المسافات وتتجلى الحقيقة. ومن قلب العتمة والسكون والموت الذي هو القبر تتدفق الروح وينتظم المعنى.. لتقول لنا ما غيبته ايديولوجيات الدولة وطمسته الثورة المضادة وغيبه اللصوص والمتكلمين والمتشدقين باللغة.. برزخ العشاق هي ذاكرة الجسد حيث تحلّ جراح المرأة في قلب الرجل ويذوب الجسد في أديم الأرض لتحيا الروح وتتكلم الذاكرة.    

هي سردية الموتى الذين يضحون بأجسادهم من أجل حلم أكبر.. ووطن أجمل.. وسردية وطن.. ولا يستسلمون؛ سردية  الذين يأكلهم الدود وينهبهم اللصوص، ولكن أرواحهم لا ترحل.. ترفرف بين الأحياء كزهرة نار لتوقظ في المحبين عشقهم وتذّكر اللصوص بجبنهم وغدرهم وخداعهم..  وأن هذا الوطن ملك الأحرار.

برزخ العشاق.. استرجاع البدايات.. عودة إلى الأصل.. تحرير النهايات.. من التشوه والتشويه.. ثورة بلا حدود.. ينال منها الدود الأسود.. فتنال منهم وتعري وجوههم القبيحة وتكشف عورتهم  وروعهم ورعبهم وحقيقتهم البائسة.. لتقذف بهم على هامش المعنى.. تقارعهم باللغة.. وتواجههم بأنبل المعاني لتقول لهم كم أنتم صغار على طريقة نزار قباني وهو يخاطب حراس معبد الحاكم العربي في كل مكان على خلفية قصة راشال.. وتجردهم من إمكانيات الردّ وتفرض عليهم الخيار الأوحد والوحيد.. فأما أن تكونوا زهرة النار أو لا شيء.. لصوص وجلادين.. ومرتزقة لمن يدفع أكثر.. أسرى الحقد الأعمى.. نداءات جوفاء.. تخرج من حلق مسرطن لتصدح بالكلمات المزورة والأنفاس المسمومة.. ديدنهم السلطة.. والعداء للدين.. وسلاحهم التشويه والمؤامرات المفتعلة واغتيال المعنى. يا الاهي.. كيف للنفوس البريئة الرقيقة أن يكون بوسعها أن تكابر وتتجاوز هذا الاحراج أو هذ الاختبار الذي تضعهم فيه الرواية؟

برزخ العشاق جلد مستمر للانتهازيين والمتسلقين والمستفيدين من الثورة ومناخات الحرية الذي وفرته لهم بدماء المقهورين وآلام المنفيين وحلم العاشقين.. فما كان منهم إلاّ أن أعادوا إنتاج أنفسهم الرديئة بطريقة أكثر صفاقة وأشد فضاعة.. ويعزّ عليهم أن يعترفوا.. ويعزّ عليهم أن يتنفسوا هواء الحرية والحب.. ذلك أنهم بعوض المستنقعات الراكدة.. والمياه الآسنة.. لا يستطيعون الحياة إلا داخلها.. ولا يستطيعون أن يكونوا إلا ذخيرة في مخزّن السلاح.. في انتظار من يضغط على الزناة.

برزخ العشاق نص ضد الابتذال والقصور والاعلام المتغلب بالحقد والكراهية والأفكار المسطحة والعابرة.. صحافة الشعوذة والمشعوذين.. قوس مشحون بسهم.. مدفوع بالحرية والانطلاق.. وأينما وجه أصاب.. 

  - اللصوص الذين يسرقون المال والأحلام ويبتلعون كل شيء ويريدون وأد الحلم والذاكرة. والحمقى "الذين يقرؤون أنصاف الكتب فيصيبهم غرور الضفادع".. والكائنات التلفزية البلهاء التي يعج بها هذا الوطن.. والأصنام التي تعود إلى الساحات والصحافة المشغولة بالتضليل وتزوير التاريخ بالتلفيق والتصفيق ضمن "استراتيجية كاملة للتلاعب بالعقول". 

- وقنوات تصريف المياه العفنة التي تؤثث أخبارها بعناوين الأوبئة التي أصابت البلد والكوليرا التي عمت الأرض والقمل الذي ظهر في الرؤوس والاغتصاب الذي شاع وانتشر في البلاد.. والإسلام الذي تحول إلى فوبيا  يتسلل إلى اللغة عبر المواقف والمفردات وقسمات الوجه.. بينما الوطن هو غير هذه السرديات المبتذلة والرديئة..

 -والمثقفون "نخبة البلاد الذين آثروا أن يكونوا حراس العبث ورعاة هندسة الخراب.. وأدوات للتضليل.. يراوحون مكانهم في كهوفهم المظلمة ".

ولكن للثورة أخيرا أبطالها ورواتها وأدبها.. وفي زحمة السرديات الخائبة وصورها المركبة.. تبرز سردية الثورة كقرص ذهبي ساطع يملأ أفق السماء.. قمة في الرقي الفني والبلاغي والأخلاقي الذي يعجز عن الاتيان بمثله أؤلئك الذين يملكون قدما راسخة في الرواية ويزعمون الرئاسة في مجالها والسيادة.. سردية جديدة تبعث الروح في كل من غيبتهم المنظومة القديمة وغيبتهم الثورة المضادة وغيبهم النسيان ونال منهم الدود الأسود. 

لقد وضعت الروائية ليلى بالحاج عمر السقف عاليا.. ووضعت سردية الثورة على سفوح المعاني.. والهمم العالية.. نقية.. صادقة.. قدرها الخلود لأنها لا تأبى الموت.. ولا تمارس الخداع.. 

وهي في الآن ذاته شهادة عصر وذاكرة وطن.. للأجيال الحاضرة والقادمة قبل أن يتمكن منهم الطاعون ويصيبهم الدود الأسود.. فتعمى قلوبهم إلى الأبد.. فلا ينفع معهم وعظ أو عقل ولا قرآن.. للأجيال القادمة والحاضرة.. لتنجو بنفسها من مستنقعات الروايات الكاذبة والملفقة.. ويحررّوا أنفسهم من ضغط الأصوات الناعقة وطاحونة الأيدولوجيا الماكرة.. ويحررّوا أنفسهم من القوالب الجاهزة الموروثة بقوة السلطة والاستبداد والإغراء الذي تصنعه أستوديوهات اللصوص. 

ولتكون بهذا المعنى وغيره ندا للند مع كبرى الروايات العربية والغربية "السد" و"الشحاذ" و"موسم الهجرة إلى الشمال" و"الخيمائي" و"ذاكرة الجسد" و"مزرعة الحيوان" و"شرق المتوسط" و"مدن الملح" و"الثلج يأتي من النافذة".. يتلقاها الأحرار بمتعة كبيرة ويتلقاها العبيد والجلادين واللصوص وخريجي الشعب والأكاديميات الدستورية بألم وحزن كبيران.

 برزخ العشاق جديرة بأن تدرج في المناهج الدراسية وتكون عنوانا بارزا لأدب المرحلة.. لتتلى على مسامع الأجيال الصاعدة وتحفظ في القلوب العاشقة والصدور الثائرة.. لتبدع المعنى.. ويبدع المعنى الحياة.