سجل أنا عربي
بقلم: د. سـائـد الـكـونـي
أثارت حادثة قيام أحد المطبعين السعوديين إلى الحرم القدسي الشريف يوم الاثنين الموافق 22/7/2019 ثورة من الغضب العارم اجتاحت مختلف أوساط شعبنا، خاصة وأنها تأتي بعد أشهر من أجواء التوتر والاصطفافات المتعارضة في الموقف والفكر والعض على الأصابع لما قبل وبعد انعقاد ورشة المنامة الرامية إلى الضغط على القيادة الفلسطينية للقبول بالرفاه الاقتصادي الموعد مقابل التنازل عن مشروعنا السياسي وحقوقنا التاريخية المشروعة وفي صُلبها الدولة المستقلة بعاصمتها القدس وعودة اللاجئين، تلك الحقوق التي شكلت عبر سنوات طويلة عماد نضالنا الوطني وما صاحبه من تضحيات بشرية ومادية جسام. وفي الوقت الذي نحن به كفلسطينيين بأشد الحاجة لمؤازرة شعوبنا العربية ووقوفها إلى جانبنا في محنتنا، تخرج علينا فئة ضالة من بين ظهرانيهم تتبجح بمؤازة خصومنا والتطاول على التاريخ الطويل من تضحيات وآهات وآلام أبناء شعبنا، ما يدفعنا إلى القول "أن شر البليلة ما يضحك".
هنالك من الكتاب والمحررين الأخباريين من شكك بكون الزائر أصلاً سعودياً، بينما لم يستثني آخرون الدور الاستخبارتي الاسرائيلي في التخطيط والترتيب والتوقيت للزيارة لأغراض تخدم مخططات العدو منها إشغال الرأي العام الفلسطيني عن جريمة شروع قوات الاحتلال بهدم نحو مئة شقة سكنية في حي وادي الحمص في صور باهر بالقدس المحتلة في صبيحة يوم الزيارة، وهو أمرٌ درجت علية أسرائيل وبات لنا كفلسطينيين مكشوفاً ومعلوماً. وبالفعل فقد تناقلت الكثير من وسائل الاعلام المحلية والعربية، والتواصل والاتصال الشخصية والعامة شريط الفيديو الذي يظهر الزيارة وردة فعل المقدسيين عليها، وأحسب أن غرضاً آخر قد إستهدف من تلك الزوبعة الإعلامية ألا وهو دق مسمار آخر في نعش مصطلح الصراع العربي الاسرائيلي، الذي نجحت أسرائيل وحلفائها من قوى الإمبرالية والاستعمار العالمية إلى حدٍ كبير باستبداله بمصطلح الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، ليسهل عليهم انهاء القضية الفلسطينية كيفما يحلو لهم ويُفضي إلى تحقيق حلم إسرائيل بالمد التاريخي لحدودها من الفرات إلى النيل، والغزو الاقتصادي للمنطقة العربية لتكون دولة فاعلة ووازنة بالمنطقة بأسرها بمساعدة ودعم ومساندة العربان المطبعين خدمة لمخططات أسيادهم الاستعمارية المتفقة والمتسقة مع الرؤية الاسرائيلية للمنطقة. وما نسمع ونقرأ عنه يومياً من زيادة حدة ووتيرة المضايقات التي يتعرض لها الفلسطينيين المقيميين في عدد من الدول العربية وحوادث الاعتداءات عليهم في عواصمها وحواضرها إلا نتاج متوقع لخطط نسجت بحنكة وروية لسلخ القضية الفلسطينية عن بعدها الاستراتيجي العربي.
في المقابل ليس مصادفةً برأي، أن تفقد نابلس والوطن أجمع قائد وطني ومناضل قومي بحجم رئيس بلدية نابلس الأسبق السيد بسام الشكعة (أبو نضال) صاحب الفكر العروبي في آليات العمل التحريري الفلسطيني، ذلك البطل القومي الذي لم تثنيه محاولة الاغتيال الاسرائيلية الفاشلة له في العام 1980 وأسفرت عن بتر ساقيه عن فكره وعزيمته في مقارعته الاحتلال ومواصلته النضال بصور مختلفة، وبقي على مدار ما يقارب الأربعين عاماً متسامياً فوق آلامه الجسدية صامداً صابراً صلباً يدافع عن فكره في تحرير فلسطين واستعادة حقوقنا السليبة إلى أن إختاره الله سبحانه وتعالى إلى جواره في ذات اليوم الذي أرادت فيه أسرائيل أن تدق أسفيناً مسموماً آخر في متن العلاقة الفلسطينية العربية، ليكون نبأ وفاته مُذكراً ومُنبهاً إلى أهمية البعد العربي لقضيتنا الفلسطينية ومقاومتنا للمحتل ونضالنا لنيل حقوقنا التي كفلتها لها كافة المواثيق والأعراف الدولية، ولينقلب السحر وعلى الساحر ولو لجولة، وإن كان هنالك جولات.
إن التساوق بقصد أو بغير قصد، جِداً أو مُزاحاً، مع الحملات المشبوهة والمسمومة لضرب عمقنا العربي والتي تُمعن في تمزيق نسيجنا القومي، هو ضرب من ضروب الخيانة لقضيتنا ونضالات وتضحيات شعوبنا العربية قاطبة في أوجه القوى الاستعمارية التي ما فتأت تعمل لتحقيق وحماية مصالحها في المنطقة العربية. إن القضية الفلسطينية ما زلت حاضرةً في ضمير شعوبنا العربية التي أشغلتها القوى الاستعمارية ولو إلى حين بمشاكلها الداخلية والشواهد على ذلك كثيرة وواضحة للعيان وليست بحاجة إلى فطنة وذكاء لفهمها وادراك مقاصدها، وإن ممارسات مارقة ما بين الفينة وأختها من قبل ثلة من العابرين على هامش تاريخنا العربي لا ينبغي ولن يكتب لها النجاح المأمول وإن طال أمد التشرذم والتفكك والضعف العربي الرسمي.
وأستغرب كل الإستغراب من أدعياء الثقافة والحرية والتحرر والفكر المستنير في فلسطيننا وعالمنا العربي الذين يُشغلون أقلامهم لتكون معاول هدم في خاصرة الأمة، فلا مانع من تشخيص مشاكلنا وقضايانا ونقاط ضعفنا والكتابة عنها، ولكن ليكن ذلك الأمر بقلم الناقد المُصلح لا بنفس المُفلس الحاقد على نفسه ومجتمعه وبيئته، أو المتكبر الأرعن الذي تتلمذ أو عمل أو ترعرع في دول غربية وتطبع بفكرها ونهجها وظن مغروراً ومفتوناً أو مسحوراً وموهوماً بانتمائه لها وإنسلاخه عن أصله وفصله، فلا هو حافظٌ لهويته القومية ولا هو قادرٌ أن يجد راحته النفسية فيما يحمله ويدافع عنه من فكر ونهج، ويأتي بعد ذلك وذاك ليبث ما بيننا أفكاره الموتورة وكلماته الحاقدة ويزيد من حالة الاحباط والتردي التي تعيشها شعوبنا العربية. لهؤلاء نقول كفوا أيديكم وأفكاركم وأقلامكم عن أمتنا وقضيتنا وقضايانا، فلكم دينكم ولنا دين، وأما للمخلصين من بني جلدتنا فنقول توخوا الدقة والحذر في اختيار مفرداتكم في الكتابة عن أحوالنا واتقوا الله فينا.
وأختم بالكلمات الخالدة لشاعر قضيتنا محمود درويش: "سجل أنا عربي، جذوري قبلَ ميلادِ الزمانِ رستْ، وقبلَ تفتّحِ الحقبِ، وقبلَ السّروِ والزيتونِ، وقبلَ ترعرعِ العشبِ، سجِّل برأسِ الصفحةِ الأولى أنا لا أكرهُ الناسَ ولا أسطو على أحدٍ، ولكنّي إذا ما جعتُ آكلُ لحمَ مغتصبي، حذارِ.. حذارِ.. من جوعي ومن غضبي”.
سجل أنا عربي بقلم: د. سـائـد الـكـونـي
تاريخ النشر : 2019-08-03
