سوق الشّرائح بقلم:أ. صلاح بوزيّان
تاريخ النشر : 2019-08-01
سوق الشّرائح بقلم:أ. صلاح بوزيّان


   سوق الشّرائح

مشكاة فيها مصباحٌ في أقصى المدينة ، حبس قليلاً من زاده و نهض ، خرج على استحياء ، مرَّ بالسّوق ،تهيّأَ ، هذا باب الجلاّدين ما أوقح هذا الاسم ، باب الجلد ، تُجلدُ عنده ناس ، كهلٌ يُجلدُ ويبكي ، ذات صباح بائس سنة 1924، سرق كيس دقيق لأطفاله الجياع ، صراخ و أنين و دمٌ يسيلُ من قدميه ، آهات ترتفعُ إلى عنان السّماء ، مشهد تراء له وهو يمرّ بهذا الباب، و قوّادٌ سرق أراضٍ فلاحية و لم يُجلد ، لا يُوجدُ باب ، فقط قوسان كبيران ، بينهما مدفع معطوب ، و رُخامة عليها أسماء شهداء معركة التّحرير ،شهداء سقطوا برصاص جنود المستعمر الفرنسي المتعسّف ، وهناك مقهى طقطق،  بناية شامخة فوقها نزل صبرة ، كراسي وطّاولات و شمسيات كبيرة ، أبوابٌ و نوافذ زرقاء و بيضاء ، قيل و قال و كثرة سؤال و حكايات بين الزّبائن تحت سُور نزل صبرة ، نزلاء و غرباء ، رأى كلّ شيء ، أفضى من السّاحة إلى الطريق ، جامعُ نقرة عصافير تنقر الخبز أمام الميضة ، حلّق عاليًا ، حطّ أمام اللّيزيق و قاعة ديناستي ، فاستبان له المكان ، مقاعد و كراسي ، الشمس مشرقة ، زقزقة عصافير ، ونسمات متناثرة ، زمرة رجال يقتعدون كراسي وثيرة ، الوقتُ بطيء ، و هذا المكان موغل في اللّطف تهرعُ إليه الرّوحُ كلّ يوم ، هنا لا تظفر بمكان يشبهه ، هنا الشّبه صعب ، كلّ طائر له أوكاره الدائفة ، أمّا هذه التّربيعة العذبة هندسها ابن المدينة الجميل . داخل هذا المكان المخضرم لا تَهْلَكُ الأفكار. تُـناور الأحلام و تقفزُ إلى ماض قريب أو ماض بعيد، تأخذ منه بعضَ أحاديثٍ و مسامرات و حكايات و مسلسلات شهر رمضان و محافل وأعراس ، ذكريات الزّمن الجميل . هو لم يكن يعرف هذا المكان من قبلُ ، اكتشفه فجأة ذات مرّة ، حينما كان مارُّا يحاول نزع أحبولة أكاذيب . نعم ، هو يدرك الاختلاف العميق بين الكذب و الحُلم ، وكاد يدركهُ اليأس عند مناوأة الرّياح . ولكنّه استطاع أن يطيح بتلك الأكاذيب ، انفلت و انتشل روحه ، وأقلع يسترفدُ من الإلهام كينونته ، مهيب يمارسُ الانعتاق ويسبحُ في الوجد . ولكنّه يتحرّقُ شوقا إلى الرّخاوة ، متعبٌ ،  مرهقٌ ،  حزين ، ضغته الحياة و جَهَدَتْهُ الإدارة . هو لا يعلمُ من هو ، وأين هو ، هو مخطوف مشدوه ، ينفرُ من كلّ ما تواضع عليه عمّارُ هذا المكان ، و تنثال عليه المعارف لياليَ وأيّامٍ  فيتخفّى ، ويذوق عذوبة العشق ، فلا يأبه بالعذابات والإذايات المتلوّنة ، ولكنّه يحنُّ إلى قهوة الأمّ ، هاهو أتى باكرًا إلى هذا المكان ، دخل ، وجلس ، ينظرُ إلى الطالبات ويبحث عن أيّام  الكليّة ، و عن زكيّة ، تغيّر كلّ شيء ، إنّه مشتاق إلى خبر . على يمينه رجل بدين يناقش وضع الجيسكا ، كرّة السلة ، كرة القدم ، فتاة تبكي و تقول:{ يا رسول الله نساء يخدمو نهار كامل بثمانية دنانير و يزيدو يركبو في كميون و يعملو حادث ، و يني الدّولة ؟ مسكين الزّوالي } . أستاذ يتأمّل أرخبيل أوضاع ، مذياع يبث أغنية صليحة . عمّالٌ جالسون تبدو عليهم مسحة كآبة ، وصوت يتدفّق بينهم :{ زعما الواحد ينجم يشري علوش العيد ، والله العلوش ولاّنا فال } . يلهث وراء أغنية ، يُلاحق حلمًا ، يهمسُ :

 { إذا نزل الروح الأمين على قلبي / تضعضع تركيبي و حنَّ إلى الغيب

فأودعني منه علوما تقدّست / عن الحدس و التّخمين و الظّن و الرّيب}

 فتاة ناعمةٌ تدخلُ ، على كتفها حقيبة جلدية ، تبحث في وجوه الزّبائن ، رائحة عطر شذيّة تنتشر . تمنّى لو جلستْ معه ، هو ينسى أيّام العُمر التي أمضاها في المرافئ و السّفن و البِحار ، كان يكتبُ المسرحيات و يقول الشّعر . تزوّج ستّ مرّات : العكري و بيّة و أمّ الزّين و تومية و ربح و سعاد . لم يفلح معهنّ ،أرهقنه حتّى أدركه اليأس ، ومن ألطف الله أنّهن لم ينجبن بنين . يعوزه المال ورغم ذلك  أقسم باللّه أن يطلب يد تونس وليس عليه في ذلك ضير . و لكن هل تقبل تونس الزّواج منه ؟ هو بعث إليها  بكتاب ، و طفق ينتظرُ ، و ما أمرّ الانتظار العنيد . أنبههُ صوت الفاتنة النّاعمة :{ ممكن نقعد معاك ؟ } تلفّتَ انتفض :{ تفضّلي ، تفضّلي } . جلستْ في هدوء وهي تبتسمُ ، ووضعت الحقيبة على طرف الطاولة . هو خرج من المغارة عبر السقف ، طار و اخترق الأجواء ، وعانق السّحاب . سعادة لا تُوصف الفتاة النّاعمة بجانبي ، أردفت الفتاة :{ لا تُتعبْ نفسك أنا تونس } ارتجف { لا تخفْ أنا تونس ، وقد استعدت شبابي ، أنا أحبّك } . أخذ يتطلّعُ حوله في سرور ، أطاحَ بالإرث ، الإرث مُفجعٌ في أعماقه غلامان و ثلاث عاهرات ، إرثٌ شديد القتامة و الوضاعة ، ولكنّه نشأ وترعرع فأدرك الإرث و استهجنه ، لا شأن له بذلك الإرث المُقرف ، ومن أمتع الأشياء في هذه المدينة أنّ كبار أهلها يعرفون نُظم المواريث و خفاياها و أحجياتها . ظلّت الأعينُ تسايرهم ، والطّاهر لا يكترث بالدّواب . اكتضّ المكان شيئَا فشيئَا ، زغاريدٌ ، هتافاتٌ ، قرعُ طبول و غناء عجيبٌ ، التفت إليها وقال :

{ أهل هذا المكان لا تثقهم / كبيرهم مع صغيرهم في الحال سوى

أحبابك إن علوت عليهم / وأعداؤك إن أحاط الدهر بك } .

 طوّقتهُ بيدها وغابا بين الحشود وقالت وهي تتأمّلهُ :

{ الشوقُ يسكنُ باللّقاء .

و الاشتياق يهيجُ بالالتقاء .

لا يعرف الاشتياق إلاّ العشّاق }.

مبتهجٌ  يشمُّ عطرها ويردّدُ : { تحيا تونس ، تحيا تونس } .