صالون النصر بقلم:جهاد الدين رمضان
تاريخ النشر : 2019-07-31
صالون النصر بقلم:جهاد الدين رمضان


صالون النصر

   من المعروف في تاريخنا الشعبي أن الحلاق شبه طبيب لعلاج مختلف الأمراض، يقلع الأسنان و يداوي الحروق و يفقأ الدمل، و يعمل مطهر أولاد معتمداً في الحارة قبل ظهور الممرض المختص بالختان ، و في تاريخ الشام الحديث اشتهر "البديري" الحلاق في تدوين تاريخها من خلال يومياته البسيطة التي صارت كنزاً ثميناً للمؤرخين و القراء ، الأمر الذي زاد في سعة علم الحلاقين و شهرتهم .

   أما حلاق حارتنا في حي السكري بحلب ، الشاب الطويل النحيف الظريف من بيت "الحجار" القاطنين في آخر حارتي على زاوية الشارع العام، مقابل دكان القصاب "أبو علاء" بالضبط.. كان طبيب القلوب المهزومة و الصفقات الخاسرة، يجتمع المهزومون في صالون "النصر" الذي افتتحه حديثاً على شارع "القادسية" العام، و يقصّون عليه قصص الهزائم الواقعية و الانتصارات الزائفة، يحلق لهم شعر اللحية و الشاربين و الرأس، و يحول هزائمهم إلى انتصارات خيالية تشرق في مخ الرأس الحليقة، و في رؤوس بعض الزبائن المنتظرين دورهم في النصر.

أحياناً يقاطع الزبون بعد تدليك لحيته بالمعجون و الصابون، و يتركه مبللاً بالرغوة على كرسي الحلاقة المريح، و يذهب لشراء باكيت "نصر" بنصف ليرة لضيافة الزبائن المدخنين، و يعود ليكمل حلاقة الذقن بالموس القاطع ، و إذا كان المذياع شغالاً، و سمع خبراً مزعجاً فلا بأس من أن يقطع بشرة الزبون ببعض الجروح، يمسح الدم عن رقبته و وجنته و يكويه بقطعة "شبّة" تعيده شاباً في العشرين، و كلما مرّ باص "نصر" هدية مصر للشقيقة سوريا، و نفث دخانه الأسود الكثيف عبر باب صالون النصر المفتوح، بصق و سبّ على من أفسد الوحدة العربية و جعلها فاشلة ، و ترحم على روح الزعيم جمال عبد الناصر صانع انتصارات العرب، و باصات النصر.

    في ذات يوم كنت انتظر دوري للحلاقة في صالون النصر، دخل الفرّان "تيسير" زعيم حارتنا الشهير، و كان صاحب الصالون "أبو عمر" يعالج جروح أحد الشباب المهزومين في معركة الحب، يحلق له على الناعم و يطفئ لهيب حروق روحه الهائمة بحبِّ بنت الجيران، اِلتفت المعلم الحلاق نحو تيسير الفران، و سأله :

• أنت تعرف بيت "فلان" البنت أبوها صاحبك، لماذا لا تحكي معه لتيسير خطبة هذا الشاب على ابنته؟

رد تيسير مع بعض التعسير :

• و ايش دخلي أنا في الموضوع؟ لا الشاب – عدم المؤاخذة – يقربني، و لا البنت قاعدة على قلبي.

تنحنح الشاب تحت يدي الحلاق، و قال للفران بعتب :

• خسا يا أبو محمد، ما عرفتني أنا زبونك فلان، كنت اشتري خبزات البيت من عندك منذ نعومة حلاقتي على "الزيرو" أول دخولي للمدرسة، حتى نعومة حلاقتي في الجيش.

حدق تيسير في وجه الزبون "فلان" و ردّ عليه بضحكة خجولة خفيفة :

• اي والله ما عرفتك يا فلان، تغير منظرك بعد ما صرت شب تخدم العلم و أنا لا أعلم.

هنا تدخل الحلاق في الحوار، و أعمل مقصه في الغُرّة و السالفين ، و قاطع السالفة بقوله :

• يا أبو محمد فلان صار شاباً  على قد الرجال و أفعالها ، "شب زكرت" بيعحبك ، رجل "قبضاي" من الذين شاركوا في نصرنا المبين في حرب تشرين.

رد تيسير بمواربة و بهدف المجاملة :

• اي لكان هات سيكارة "ناعورة" أو "شرق" لأني ما بحب دخان "النصر"، و الله ينصرنا على أبي البنت، قولوا آمين .

ضحك الزبون فلان رغم مخاطر الضحك تحت شفرة الحلاق، و نظر باتجاه تيسير الفران ، و قال بنيّة التيسير :

• الله يعطيك العافية يا عمي تيسير، و ييسر أمرك و يوفقك ، و لك مني كروز دخان "مارلبورو" إذا تيسرت خطبتي على "حميدة" بنت الجيران بفضل مجهودك و مساعيك الحميدة .

شكره الفران على وعده الكريم في الدخان الأجنبي ، و قال له (نعيماً) قبل انصرافه من الصالون مع الوعد (غير المؤكد) بأن يتكلم في موضوعه مع أبي فتاته المحمودة ، مذيلاً حديثه بعبارة (ان شاء الله) التي تخفي النوايا الحقيقية خلفها و خصوصاً نية التأجيل أو الرفض.

بعد خروج الزبون تعاتب الحلاق مع الفران، و قال له :

• لك يا رجل، أعمل معروف و زتّ (ارمي) في البحر، شو بتخسر إذا حكيت مع أبي البنت؟

نفخ تيسير الفران ما في صدره من دخان سيكارة الشرق، و قال :

• لك يا حبيب قلبي ما بدي هل خير اللي بجيب وجع الراس، هادا شب "خروق" بدك ياني أحط ايدي في خطوبته؟. قال المثل : (امشِ في جنازة و لا تمشي في جازة).

• اي والله معك حق يا أبو محمد ، بزماني توسطت لقريبي في زيجته من بنت الحلال ، و لحد اليوم ما خلصت من لسانهم، كلما دقر الكوز في الجرة يلعنان الذي كان السبب في زواجهما، تمنيت لو أني رميت بنفسي بالبحر، و لا عملت خيراً معهم و رميته في البحر.

......................... ......................................

   لقد كبرت و هجرت حي السكري، و هجرتُ مدينتي حلب و البلد ، و عانيت من الحلاقين الأجانب في رحلة لجوئي الطويلة، بعضهم وافق مزاجي و عدّله، و البعض الآخر عكّر مزاجي بل جرحه، و أخيراً اهتديت إلى صالون عربي ابتغي فيه النصر، أُهزم فيه أحياناً و قليلاً ما انتصر، يجرب في شعري "الصناعية" المتدربين، بينما يجلس المعلم السوري في صدر الصالون، يدير التلفزيون من محطة إلى أخرى، و يتناول الأجرة من الزبون مع قول (نعيماً) و مية السلامة.

ذكرني هذا المعلم بسلامته بالمعلم " أبو عمر" في "صالون النصر" أيام طفولتي بحلب ، رأيت نفسي ولداً بريئاً يصدق أخبار انتصار الحارة و قصص نصر الزبائن الوهمية و منجزات شيخ الحارة الكبير، و أرى الحلاق يقاطع الزبون و حديثه الشيق الطويل، و يمدّ يده إلى المذياع فوق الرفّ العالي، المغطى بقطعة قماش مزركشة بأشغال الكنفا (الخيط) الملونة، و يدير الإبرة من إذاعة "صوت العرب" إلى "هنا دمشق" ، و يرفع الصوت إلى آخر مستوى: 

( نُرهف كل الأسماع،

نوافيكم بالعرض الأول للأنباء ،

و ينهمر الخبز كثيفاً ،

لكن من المذياع.) *

و ما يزال صالون النصر يحوّل هزائمنا إلى نصر...
---------------------------------------
جهاد الدين رمضان 

فيينا ٢٣ حزيران ٢٠١٩ 

*الجمل الأخيرة من النص بين قوسين من قصيدة الشاعر العراقي "عواد ناصر" بعنوان (احتجاج طيب السريرة) غناها الفنان الحلبي "فهد يكن" في مجموعته المسماة (انشودة عربية للمستقبل) .