أحمر بقلم: طلال الشرع
تاريخ النشر : 2019-07-27
أحمر بقلم: طلال الشرع


((أحمر))

- ما لون السماء يا أبي؟
- لونها أحمر بالطبع يا بني
- ولِمَ لونها أحمر؟
- لأنها رضخت للشيوعية كنظام عالمي تصطبغ السماء بلونه، وتنحني الأمواج له مطيعة....
- وكيف تعلم كل هذا وأنت لم ترَها يومًا، بسبب سجن الشيوعيون لك؟
ابتسم الأب بحسرة، وربت على رأس ابنه الأشقر ذو الزمردتين الزرقاوتين
********
يتلاعب الدجى المدلهم بالنور الباهت المسترسل من عمود إنارة أثري، تأصَّل في ذاكرته تاريخ أرضٍ لم ترحمها النفوس، ولم تقدس طهارتها القلوب....

يقف وحيدًا كجندي أخير في مهامه سُطِّرت عليها فصولًا من العهر، تشهد عليها النقوش العتيقة المرسومة في وجهه العابس، يتبعثر الضياء الخافت، فيلامس الأرض ملامسة سطحية تزيد الرهبة في الوجدان.

بقعة شاردة فقط هي ما عكرت صفو المشهد، بقعة تماهت بلون الصخور الرمادية، أوقفت الظلام على حدودها عاجزًا عن التهامها، وفشل الضوء في استدراجها إليه
... بقعة حائرة وسط أرصفة هشمتها الظروف، نقطة مترددة بين جثث ملقية ... باقية برهانًا على عويلٍ يتصاعد من جهة غير معلومة، يجاورها رجل فارع الطول مجهول الملامح، يتبول على الحائط المقابل، حمل طلاؤه يومًا العديد من العبارات،
الكثير من المشاعر المتناقضة، الرسائل المتضاربة، كنوع حديث من الرسم على جدران الكهوف.

انتهى الرجل من كشف عورته للجدار، فمشى دون وجهة محددة، في أرضٍ لا وجهة فيها تقصد. تحركت البقعة الرمادية متجهة بامتداد الشارع، سارت بين الزجاج المهشم المنثور، والقذارة العفنة المترامية، تقفت طريقها نحو صوت العويل المضطرب.

أمٌ لا يغطي جذعها العاري سوى قطعة وشاح بالية ملطخة باللون الأحمر القاني، حاولت الأم لجمها بضعف، وهي تضم إلى صدرها المنهك وليدًا مشوه لم يمنحه القدر أي فرصة، حدقت المرأة في البقعة المتحركة باضطراب برهةً من الزمن، كانت كافية كي تتخذ قرارًا لا مفر منه. ارتعشت يديها بتوتر، وقد اختلطت مئات المشاعر المتضاربة داخل مقلتيها ... ثم حل طيف ملاك الموت، ليخلص رضيعها من حياةٍ خافت عليه أمه من توحشها.

صوتُ انطلاق الرصاصة، جمّد الحياة في مقلتيها، لتسقط جوار رضيعها.
*******
انتهى "مولر" من امتطاء الحسناء الإيطالية ذات الشعر الكستنائي، تاركًا نشيجها على لبنه المسكوب وراءه، وخرج ليجلس في مقر قيادته.

بدأت زمام الأمور تفلت من بين أيديهم بعدما كان الانتصار يقرع الأبواب جذلًا
... دخل عليه "ويبر" وقد أبيض وجهه:
- سيدي، السجــ....السجين الذي طلبت منا استخراج المعلومات منه بشتى الطرق
- أجل، ما به؟
- لقد بدأ بالتحدث!
- وماذا قال؟
- يريد أن يخاطبك مباشرة سيدي
- ومنذ متى نصغي لما تريده الحثالة؟
- سيدي، يقول أن لديه معلومات هامة ... أنت تعلم أن وقتنا ينفذ، لقد ....
- كيف تجرؤ أن تشكك بحكمتي أيها المجند، الزم حدودك، لا بأس ... ألقوه أمامي
مقيدًا
- أمرك سيدي
********
ابتسم السجين ذو الثياب الرثة والشعر المنكوش حيث صبغه التراب بطيف مميز، ابتسم بجنون واضح قبل أن يقول:
- تظنون أن غطرستكم ستقودكم إلى الانتصار، تروسكم المهترئة قد تعطلت مجددًا وكبركم يحجب أبصاركم عن سبب العطب.
- وأنت تعلم سبب العطب أيها الوغد؟ تروسنا لم ولن تتعطل.
- ألا زلت تنتظر مزيدًا من الأخطاء؟
جلجلت ضحكاته النابعة من فمه المغمور تحت طبقات من الندوب والكدمات.
ضرب مولر مكتبه الخشبي بحزم وقال بحدة:
- قل ما يفيد وإلا سأشوي جسدك واطعمه لكلاب حراستي.
- لِمَ كل هذا الغضب؟ يا لك من أبله حقيقي! أعلم أنك لن تمسني، فالوقت يوجه نصله نحوك، لذلك وافقت على مقابلتي، ولن تتمكن من القبض على أي سجين بقيمتي على أي حال.

حسنًا ... أتعلم أين العطب في منظومتكم العظيمة؟ في المؤامرة التي تحيكونها دون علمكم أن هناك مؤامرة أعظم ما أنتم إلا ترس فيها؟

رسائلكم السرية، شيفرتكم المقدسة تم تحطيمها، كتابكم مكشوف أمامنا، لا أخبرك بهذا إلا لعلمي أن فضائحكم ستنشر على العلن، وسيهبط يسوع لينقذنا من مؤامراتكم فهي لن تنجح، الروح القدس معنا، سيستجيب لدعائنا، والصخر سيشي بكم.

- ما هذا الهراء؟ أأحضروك لمثل هذا الحديث السخيف؟ لن يُكسر إلا رقبتك...
ثم صاح: "ويبر"
*******
يتراقص كأس النبيذ بيده، وهو يتأمل البدر المزين لسماء الليل البهيم ... يذكره بها وبنظريتها:

"كلما اقتربت من الشيء أدركت مدى قبحه"

أسمتها نظرية القمر ... لا بد أنها كانت تصف الحرب وصف دقيق كعادتها، فمن بُعد بدأ الحلفاء يؤمنون أن الانتصار بات في جيوبهم، لكن من قرب ... الانتصار لا يهم عندما تكون وحيدًا وقد غادرك كل من أحببته يومًا.
لكنها لم تكن تعلم أنها قمره الوحيد، استثناء القاعدة، كلما اقترب منها ازداد عشقه لجمالها...

حبة دواء وحيدة، دواء الموت، أعظم إنجازاته، تتجرعها فتشعر بالنعاس، لكن نومك يمتد إلى الأبد ... تتموضع على المكتب أمامه ... سيكون أول وآخر مجرب لها، تطلب عزمه على هذا الأمر بعض الشجاعة، لا تزال قشرته البائسة تتمسك بالحياة،
رغم غياب الأسباب، كلوحة فنية تعلقت بها رغم غياب الملامح عنها.
*********
طفل يرسم لوحة، سماؤها حمراء، شجرها أسود، وماؤها أخضر، وبيت قد ساوت سقيفته الأرض، بجواره طفل يجثو على ركبتيه، يخرج قلبه من صدره، ويودعه مع عائلته التي قصفت، فهو لن يحتاجه بعد الآن، قضيت بقذيفة اختبارية، ليقيسوا مدى الضرر
المادي لأحدث أسلحتهم!
*******

ابتسم الأب بحسرة، وربت على رأس ابنه الأشقر ذو الزمردتين الزرقاوتين، والدك سيعود إليك حتمًا يا "مولر"