السلاسة في قصيدة "سيحنو عليك الله" ياسين البكالي بقلم:رائد الحواري
تاريخ النشر : 2019-07-23
السلاسة في قصيدة  "سيحنو عليك الله" ياسين البكالي  بقلم:رائد الحواري


السلاسة في قصيدة
"سيحنو عليك الله"
ياسين البكالي
عندما تكون القصيدة ساخنة وتقدم بطريقة سلسة، فهذا يشير إلى قدرة الشاعر على التحرر من الانفعال والتقدم من الشعر، الشعر الممتع والجميل رغم الألم والكامن فيه، اعتقد أن هذه القصيدة (التقليدية) يمكن ان تكون مثلا حيا على الأبداع والتألق، رغم حدث (مواكبتها) للقصيدة الحديثة، وهذا يؤكد أن الأبداع لا يخضع لشكل بعينه، بل يخضع لقدرة الكاتب على اقناع وامتاع المتلقي بما يقدمه من أدب، الشاعر "ياسين البكالي" استطاع أن يمتعنا ويقعنا باسلوبه (التقليدي) مؤكد على أن شاعرية الشاعر هي المعيار الذي نحتكم إليه في حكمنا على القصيدة.
سنحاول اضاءة بعض جوانب الجمال في القصيدة:
"سيَحنو عليكَ اللهُ ؛
ما اللهُ صانعُ
بمَن ذرفتْهم في يديكَ
المدامعُ ؟"
افتتاحية القصيدة تتماثل مع سلوكنا عندما نقدم على أي عمل، فنذكر الله في بداية اعمالنا يشير إلى إيماننا بالله واتكالنا عليه، والمثير في الافتتاحية أن الشاعر يطرح سؤال، "ما الله صانع" ليحفزنا على التفكير، ويوقفنا عنده، فهو لا يريدنا أن ننساق وراء (صياغة القصيدة) رغم جماليتا، بل نفكر في حالنا، وهنا يجمع الشاعر بين جمالية شكل التقديم وقيمة المضمون.
وإذا ما توقفنا عند صيغة الخطاب نجده موجه للقارئ، وهذا يقرب المسافة بين الشاعر والقارئ.
"وأنتَ أخو الأوجاعِ
كسَّرتَ قلبَها
كثيراً
وما حنَّتْ عليكَ المواجعُ"
الشاعر يتعاطف وينحاز للقارئ، لهذا نجده (يقف معه) في حالة الألم، مواسي إيه، مؤكدا على جلده وصلابته في مواجهة الازمات.
"أيا سادراً في الآهِ
صدرُكَ مُثقلٌ
بها والأماني وحدها
مَن تُصارِعُ"
الشاعر لا يكتفي بمؤازرة القارئ فحسب، بل يجعل منه مثلا يحتذى في الكل مصاب، من هنا نجد "آيا" وكأنه يتغنى بهذا الجلد والصلابة، وإذا ما توقفنا عند صدر البيت: "الآه، مثقل" نجد متصارع مع عجزه: "الأماني".
"وأنتَ تخوضُ الآنَ
إجهاشةَ الردى
خِتاماً
ستَستلقِي عليكَ المَطالعُ"
يقول هنرك أبس: "الأقوى من يواجه العالم وحيدا" اعتقد أن "ياسين البكالي" قدم لنا عين القول ببيت من الشعر، والجميل في البيت أن الفعل نجده مستمر ومتواصل، فهو لم ينتهي بعد، وهذا يعطي أثارة للمتلقي، ويجعله يندمج مع القصيدة، فالأحداث جارية الآن وهي ساخنة، فتبدو وكأنها بشر مباشر.
" كأنَّ الفراقَ الآنَ حِلوٌ ؛
كأنَّ ما
جرى بينَنا
مِن رعشةِ الفقدِ شاسع" !

التقدم من جديد إلى صيغة السؤال "كأن" المكررة، تستوقفنا لنفكر، وتستوقفنا الطريقة الجميلة التي جاءت بها، فالشاعر أصبح أكثر قربا منا: "جرى بيننا" فنحن وإياه في علاقة حميمة، لهذا تم إزالة الحواجز الرسمية فيما بيننا، وأخذ يخاطبنا بطريقة الأصدقاء.
" تزورُكَ ليلاً بنتُ تسعينَ كُحّةٍ
وما فتِئتْ
تأتيكَ منها الفواجعُ"
الشاعر يستخدم كل المحسنات الجمالية ليخفف من وطأة المضمون على المتلقي، فهو يعي أنه يقدم مادة شعرية مؤلمة، لهذا يحاول أن تكون جرعة الدواء خفيفة المرارة، من هنا يستخدم الصور الشعرية: "تزورك بنت تسعين كحة" كتخفيف لقسوة المشهد، وأيضا ليمتع/يقنع القارئ أنه أمام مادة أدبية شعرية.
" وأنتَ مُصابٌ بالندى
يا ابنَ غُربتي
وماضيكَ لا يقوى
عليهِ المُضارعُ"
يتقدم الشاعر من جديد متقربا من المتلقي: "يا ابن غربتي" واصفا إياه "مصاب بالندى" وهنا يأخذنا إلى البعد الأسطوري، إلى مفهوم "الندى" الذي مجده اسلافنا قديما، فرمزية وجمالية "الندى" تعطينا لمسة ناعمة، ويتألق الشاعر في قدم فكرة امجاد الماضي وانحطاط الحاضر، فاختزل وكثف وقدم بيت واحدا يغني عن عدة صفحات.
"فَفَتّشْ عنِ المعنى
وقَبّلْ جبينَهُ
ولا تَأسَ إن آذاكَ
لفظٌ مُخادِعُ"
دائما صيغة الأمر ثقيلة على المتلقي، لكن الشاعر خفف من وطأتها على القارئ في البيت السابق، عندما خاطبه "يا ابن غربتي" فالعلاقة الحميمة، والهم المشترك، جعلت فعل الأمر "ففتش، ولا تأس" مقبل من القارئ، فمن يخاطبه هو صديق، ويتشاركان في الغربة/المأساة.
"ستَحتاجُ ذنباً ما
لتَكشفَ حيلتي
إذا مَرَّ ظمآنٌ ببالي وجائعُ
وماذا تَبَقَّى بعدُ ؟
بضعُ خواتمٍ
تَفرُّ إلى الأغلالِ منها الأصابعُ"
تستوقفنا صيغة السؤال وجمالية الصورة الشعرية "تفر" فعدم المباشرة واستخدام الإيحاء/اشارة، تعطي مدلول إلى أن الشاعر يحسن تقديم أفكاره للمتلقي، فهو لا يقدمها جاهزة، بل تحتاج إلى فعل تفكير من القارئ، ليكون جاهزة، وهذه الشراكة في الوصول إلى المضمون/الأفكار يؤكد على العلاقة الحميمة التي جمعتهما "الشاعر والقارئ" من خلال: "كأن ما جرى بيننا، يا ابن غربتي" فالهم والألم جعلهما يتشاركان في التفكير للوصول إلى حلول.
"إذا حاولتُ تهشيمَ وجهِها
نهاراً أتتْ ليلاً
لموتِي تُسارِعُ"
يبدو أن الشاعر يتجه نحو الوحدة: "أتت لموتي تسارع" فيقدم نفسه على أنه الوحيد من يتعرض للخطر "موتي" فما هو السبب وراء هذا الأمر؟ وهل له مبررات؟.
"بكم تَشتري صنعاءَ
يا حُزنَها الذي
يُراقِبُهُ خلفَ المَزاداتِ
بَائِعُ ؟"
اعتقد أن الشاعر يجيب في هذا البيت عن السؤالين السابقين، فهو يعوض أنا الوحيدة "موتي"، في "صنعاء" الجامعة للكل، فهي الوطن، المكان الذي يجمع ويوحد الكل فيه، وهناك جمالية في طريقة تقديم "صنعاء" هذا الجامع الموحد، فعندما قال "يا حزنها" وحدنا وجمعنا معا، وفي ذات الوقت لفت انتباهنا إلى المأساة التي تتعرض لها من "البائع".
"مدارُكَ محفوفٌ
بآهاتِ دولةٍ
تآكَلَ فيها الضوءُ
والفجرُ ضائعُ"
جمالية هذا البيت تكمن في تجنب الشاعر لذكر الليل/الظلام، مكتفيا باستخدام "تآكل، ضائع" مما يوحي إلى أنه يمتعض من الظلام، فلم يذكره، كإشارة إلى موقفه منه، ونجد هناك ذكر للدولة التي تمثل النظام والحياة السوية في صنعاء/الوطن.
"وشعبُكَ مرجومٌ
على حافةِ الأسى
يُوسوسُ في عينيهِ
لِصٌّ وشارعُ"
ينقلنا الشاعر إلى الناس/الشعب، بعد أن ذكر المكان "صنعاء"، والدولة، جاء الحديث عن الشعب، وبهذا يكون قدم جمع كل العناصر المشكلة للوطن، جغرافيا/صنعاء، نظام/دولة، سكان/شعب، لكن هذه العناصر مجتمعة تعاني وتتألم.
"لقد سقطتْ أوراقُ حُلمَينِ
في دمي
على وطنٍ
عَضَّتْ عليهِ الصوامِعُ"
يعود الشاعر إلى الوحدة "دمي" لكنه يستعيض ب "وطن" ليجمع نفسه مع القارئ، والصورة الشعرية "عضت" تذهلنا رغم الألم الكامن فيها.
من هنا نقول أن الجمال الأدبي لا يخضع لشكل بعينه، بقدر امتلاك الأديب على صيغة نصه بلغة واسلوب ممتع، لجذب القارئ بما يقدمه من أدب.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر العلى الفيس