مواقف في رحلة العمر - 58 بقلم:ياسين عبد الله السعدي
تاريخ النشر : 2019-07-22
مواقف في رحلة العمر - 58 بقلم:ياسين عبد الله السعدي


هدير الضمير
مواقف في رحلة العمر - 58
عاد إلى كفر كنا بتصريح لكي يدفن فيها
ياسين عبد الله السعدي
افتتحت مكتبة تجارية في جنين يديرها شقيقي زكريا. وكان موقعها في باب السيباط تحت البلدية القديمة على الشارع العام مقابل شارع أبو بكر.
كنت أشرف على المكتبة في أيام العطل المدرسية وبعد انتهاء الدوام أيام العمل. وكان يتردد على المكتبة كثير من أهلنا في الداخل ومع تكرار الزيارات كانت تنشأ علاقات صداقة وأخوة مع الكثيرين وتصل العلاقة أحيانا إلى درجة الزيارات الأهلية المتبادلة.
كان من الأصدقاء الذين ربطتني بهم صداقة وطيدة فضيلة الشيخ سالم داود صقر؛ إمام المسجد القديم في كفر كنا. كان الشيخ قارئا جيدا ومحبا للكتاب ولذلك كان يسأل عن الكتب الدينية والأدبية وكان يأتي ببعض الكتب القديمة لكي أقوم بتجليدها لأني كنت أول من مارس عمل التجليد في جنين وقمت بتجليد الكثير من كتب المدارس وتجليد سجلات العلامات المدرسية عندنا بالإضافة إلى كتب المكتبات المدرسية وكتب بعض الأشخاص.
كنت أعود بأطفالي الذين يتعلمون في مدارس المدينة إلى البيت بعد انتهاء الدوام المدرسي حيث نُقلت معلما إلى مدرسة حطين التي كانت تقع مكان مدرسة فاطمة خاتون القريبة من المكتبة مقابل المسجد الكبير.
عندما عدت ذات يوم إلى المكتبة لكي أصطحب أبنائي إلى البيت وجدت فضيلة الشيخ سالم في انتظاري. وبعد تحيته والترحيب به دعوته لتناول طعام الغداء برفقته في البيت.
أثناء حديث المجاملات التقليدية قلت له إني سوف أغيب مدة شهر تقريبا لتقديم امتحانات الجامعة في بيروت حيث انتسبت إليها سنة 1972م. فذكر إن له صديقاً فاضلاً من كفركنا يقيم في مخيم عين الحلوة هاجر منذ أيام النكبة وكان أحد قادة ثورة 1936م وحبذا لو تنقل لي رسالة إليه. قلت للشيخ: على راسي يا سيدنا الشيخ لكنك تعلم أن إسرائيل يمكن أن تقوم بتفتيشي وعندها يتم اعتقالي لأن المقاومة موجودة في لبنان ولكن يمكن أن أنقل رسالة شفوية.
سافرت إلى بيروت لتقديم الامتحانات. وفي أحد الأيام بعد الانتهاء من تقديم الامتحان، ذهبت إلى السوق وسألت عن موقف مواصلات صيدا وركبت الباص، ومن هناك استأجرت سيارة تكسي إلى مخيم عين الحلوة.
سألت أحد الرجال من كبار السن، كان يجلس في المقهى على جانب الشارع، عن الرجل فإذا هو من أصدقاء الرجل فركب معي لكي يدلني.
وصلنا إلى دار الرجل وعندما دخلنا وجدت شيخا جليلاً يجلس على الأرض مع رجال في مثل سنه يبدو أنهم من معارفه في المخيم يتحادثون ويتذاكرون أيامهم في وطنهم فلسطين قبل اللجوء.
رحب الرجل بي وٍسألني: من أين حضرة الأستاذ؟ فقلت له: من فلسطين وأحمل لك رسالة شفوية من صديق تعرفه. الشيخ سالم يهديك السلام. وقف الرجل بتثاقل وأقبل وهو يذرف الدموع ويتساءل بلهفة: من ريحة الحبايب؟ آه على أيامك يا شيخ سالم! آه على أيامك يا كفر كنا!! وأجهش بالبكاء وجعل الموجودون يقومون بتهدئته ويقولون له: وحِّد الله يا حاج! إن شاء الله نرجع لفلسطين وتعود لكفر كنا ونزورك هناك.
عندما عدت إلى جنين والتقيت بالشيخ سالم حدثته عن الموقف العاطفي الذي هز الشيخ عندما نقلت له الرسالة وكيف أقبل علي يقبلني ويشكرني على نقل الرسالة ويدعو لي وللشيخ سالم بالخير وطول العمر.
دارت السنون وفي أحد الأيام ذهبت إلى كفركنا ومعي طلبية شنط مدرسية ولوازم قرطاسية إلى الصديق عارف حمدان أمارة، أبو إياد، لمكتبته في كفركنا وكان له محل تجاري آخر بجانب المكتبة لبيع الأثاث من خزائن وأسرة وطاولات وكراسي وغير ذلك. بعد أن تسلم الطلبية قال لي، رحمه الله، عندي ضيف عزيز يعرفك ويحب أن يراك ويسلم عليك. حاولت الاعتذار لضيق الوقت ولكنه قال: صاحبك الذي زرته في مخيم عين الحلوة ونقلت له رسالة من الشيخ سالم هذا الرحل عمي وقد طلبناه في زيارة صيفية وهو عندي وحدثني عنك وعندما ذكرت له إنك صديقي قال حبذا لو أراه.
ذهبت مع الصديق، المرحوم عارف حمدان أمارة إلى البيت وعندما دخلت وجدت شيخا هرما فعل الدهر به ما يفعله بالمرء عندما يتقدم به العمر. كان يتمدد في السرير وعندما تقدمت منه لكي أسلم عليه أجهش بالبكاء وهو يقول بصوت متهدج: رجعنا لكفر كنا بتصريح زيارة وإن شاء الله تكون منيتي فيها. قلت له سلامتك يا حاج. إن شاء الله بعد عمر طويل، بالصحة والعافية. فردد بصوت متهدج: (,,, وما تدري نفس بأي أرض تموت). لقمان: 34
قلت أواسيه ومن كان يجلس بجانبه من أقاربه وأصدقائه:
مشيناها خطى كتبت علينا *** ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت مَنِيَّتُه بأرض *** فليس يموتُ في أرض سواها
عندما رجعت بعد أسبوع إلى كفركنا سألت ابن أخيه عنه فترحم عليه وقال: أخذ الله وديعته. قلت لصديقي: كأن عمك يتوقع أن منيته سوف تكون هنا وإنه سيدفن في ثرى بلده، كفر كنا، رحمه الله.
[email protected]
نشر في جريدة القدس يوم الأحد بتاريخ 2172019م؛ صفحة 14