ذاكرة ضيقة على الفرح 3
تاريخ النشر : 2019-07-22
ذاكرة ضيقة على الفرح 3


سليم النفار

3

"أيلول طرفهُ مبلول" هكذا كانت تقول أمي دائماً ، في توصيفها لشهر أيلول الذي أحببته أنا مبكراً ، لما فيه من انزياحاتٍ مناخية تروقُ لي ، فقد كنتُ أتحسسُ جماليات التغيير في الطبيعة ، حينما تتعرى الأشجار من أحمالها ، مُلقيةً فائض الأوراق على الأرصفةِ والممراتِ الترابية في الحقول والغابات ، فتشع الأرض بلون الذّهب السَّاحر ، تحت رهامٍ وكأنكَ في حلم لا ترجو الصحو منه ، لكن في العام 1970 لم يكن أيلول كذلك حينما كان الدم ، الفلسطينيُّ وحدهُ يشعُ على المفارق وفي الممرات المؤدية الى الحلم ، فاستيقظنا هلعين لا نعرف أيُّ الجهات نلوذ بها ، صُراخ النسوةِ وعويلهنَّ ، الدم الذي يطفح على جنبات الطرقات ، ورحيل لا يشبه أيّ رحيل ... الى أين تقودكَ الخُطى أيها المعذب في ممرات الأرض الضيقة ، أليس من سعةٍ للفرح ؟

كان صوتُ الرصاص يلعلع ، معلناً بدءَ حفلةٍ جديدة ، من حفلات الموت الذي يتربص بنا ، حينما كانت السيارةُ تقلني مع أمي وأخي ، من عَمّان مجتازةً شوارعَها الخاصة من "جبل النظيف " باتجاه الحدود السورية ، ربما لا أستطيع وصف بعض التفاصيل الآن ، غير أني لم أنسَ تلك الصور التي مازالت ، من بعيدٍ تمرُّ على شاشة الذاكرة : باهتةً أحياناً وأحياناً أخرى طافحةً بالمعاني المُفزعة ، حيث يتربص الأخوة لبعضهم البعض ، معلنين الدخول في سباق الولاءِ لفكرة الخصم ، التي لا ترجو غير ذلكَ الموت ، الذي لا يعني سوى خلاص العدو من قلقٍ ، يقضُّ مضجعهُ كلّما هبّتْ نسائم الليل والصباح هناك ، هناك كان بعض الفتية العشاق ،  يمرون على أجنحة الشوق ، حاملين أرواحهم على أكفهم ، ملتحمينَ بتراب أرضهم الذي يئنُّ ، من عفونة الأقدام الغريبة الغازية ، هناكَ على حدود الشريعة ، كان النهر كلّ فجرٍ يغسلُ موكبه ، من رجس الحياة لتصيرَ أحلى وأبهى ، لتضجَّ بوافر المعنى الذي لا ينزاح لغير الدفاع ، عن البقاء والنقاء في حصتنا من الكون الشاسع ، في سياق ذلك المشهد ، كانت شوارع عمان ترسم بيدٍ جانية ، شريعةً أخرى وكان الفجر مثقلاً برجسهِ ، ونحن نتهجى سُبلَ الخلاص من خطأ الرصاص ، الذي لا يكفُّ عن اقتناص الهواء النظيف ، فهل نمرُّ ؟

الحواجز المنتشرة والحجارة التي تملأ الشوارع ، وشخير الموت وغيوم سوداء داكنة تظلل ذلك اليوم ، الذي لم يكن غير فصلٍ من فصول الجحيم ، لا أعرف اذا ما كان صنّاعهُ قد قرأوا جحيم " دانتي " واستفادوا من وصفه للمتخيل الافتراضي عن نهايات البشر ، وربما ، بل على الأغلب أنهم لا يجيدون القراءة ، فهم ليسوا غير منفذين لسيناريوهات أسيادهم ، في حلقات ذلك المسلسل الدموي المُرعب .

أينَ الطفل الذي كنتُ في تلك الأيام ؟

أينَ وجه أمي الذي تدافعت عليه ألوانٌ شتى ، فغاب تحت جلدهِ ، يتمتم بأدعية الخلاص ؟   مازلتُ أفتشُ عنهما في أهدابِ ذاكرة ، تجيءُ ولا تجيءُ .

أرى ظلالاً كرتونية تدافعها ريح المرارة التي تسكن حلق النسيان ، الذي يحاول عبثاً اخمادها

ابتسامة الجنديّ السوري على الحدود وترحابهِ المتضامن معنا ، ربّما وحدهُ أزاح قطع الجليد عن وجوهنا وقتذاك ، فكانت ايذاناً بدخولنا حيَّزاً آمناً ، ومنذ تلك اللحظة سيبدأُ ذلك الطفل رحلةً أخرى ، ملؤها تفاصيل التفاصيل ، التي تحاول بوعي الأمل توسعة لحظة الفرح .