زرياب في مزاحمة الكلاب بين الدروب والهضاب بقلم:د.محمد بنيعيش
تاريخ النشر : 2019-07-17
زرياب في مزاحمة الكلاب بين الدروب والهضاب بقلم:د.محمد بنيعيش


                                2          

 زرياب بين سجع كلاب البادية ونغمات الطيور و الماشية

زرياب منذ الصغر قد كان يعشق هذه البادية المقابلة للمدينة،وخاصة قرية بها ،بمئذنتها التاريخية البارزة على الهضبة العليا منها،وبطبيعتها الخلابة وخضرتها الدائمة وأشجارها المثمرة بشتى الفواكه كأحلى وأشهى وأعتق وأصدق فاكهة ونكهة،لأنها طبيعية مائة بالمائة ،ندية ومسكية العطر من ذاتها .تفوح منها رائحة الحياة وتصدح بالتفاؤل والسعادة والشكر للخالق " الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ".

ومن حسن حظه أنه كان من المحبوبين لدى جدة له تفضله على كل حفدتها وتوليه من الاهتمام والعناية ما لم توليه إياه أمه وأبوه.فكان هو أيضا يبادلها نفس الحب ولا يشعر بحنين وراحة وسعادة إلا في بيتها وبين أشجار أغراسها ،حتى قد كان يساعدها في جني الثمار ويتسلق الأشجار ويجر معها الحمار،بل يصاحبها إلى المدينة ويبيع معها الإجاص والتفاح والبرقوق المتنوع الألوان والأذواق على شكل موسيقى وأنغام ،وباقة  أزهار كريشة فنية منمقة، كانت تنعش ذوق زرياب وتصله بزرياب آخر مر  بالأندلس والتي بقيت آثارها قريبة جغرافيا وثقافيا بالمدينة التي كان يقطنها ،ولكن ليس له به صلة  سوى في تشابه الاسم والميل نحو الموسيقى ومذاهب الجمال.

فلقد كان زريابنا المعني هذا يستمتع بغناء الطيور، كتغريد البلابل وزقزقة العصافير ،التي كانت لها أنغام خاصة بحسب لون الفواكه ومواسمها وبرودتها أو حرارتها،وفي مقابل الطيور كان يوجد خرير المياه والجداول التي تسقى بها البساتين على طول السنة وتشرب منها تلك الطيور نفسها ومعها الكلاب والحشرات والإنسان معا.وكان كلما قرصه جوع أو دفعته شهوة قطف ،من الشجرة مباشرة ،تفاحة غضة أو إجاصة ذات عطر كالمسك ،تذكر بالجنة ونعيمها.

كل هذا في الحقيقة قد كان مؤهلا لأن يجعل من زرياب موسيقيا ماهرا مرهف الشعور والإحساس لطيف الخلق والسلوك واسع الصدر وسليم العقل،ولكنه لم يستغله كما ينبغي ،لأن محيطه قد كان منغلقا على نفسه ،ثقافته محصورة بحد أنفه.بل ،بالرغم من جمال القرية وما أوتيت من خيرات وجمال وفن طبيعي خلاب فقد بقيت خارج التاريخ وخارج الحضارة وخارج التطور مع متاخمتها للمدينة وجها لوجه.ولم يجد زرياب لهذا الحال من تفسير،فقد يكون هذا السكون إيجابيا وقد يكون سلبيا.وليس كل من تحضر ازدهر كما ليس كل من بقي بدويا اندثر.

لكن علاقة زرياب بالكلاب ستكون بالقرية أكيدة وحاضرة أكثر من المدينة وذلك بطبيعة الحال ومقتضيات البداوة وأشغالها .فالراعي لا يرعى إلا والكلب معه ،كما أن كل كوخ أو مسكن إلا وببابه كلب يعلن بقدوم الغريب من بعيد فيستعد أهل البيت لاستقباله أو رفض حضوره.فهم إما أن يجيبوا على النداء أو يسكتوا حتى يمل الزائر ثم يعود أدراجه إلى وقت لاحق.فلم يكن يحتاج هناك إلى كاميرات للمراقبة والإنذار المبكر وإنما للكلب دوره ونعم به من دور.

وقبل أن يصل الزائر إلى مقصده من الديار فإنه لا بد وأن يمر عبر ممر ضيق ،من جانب يوجد المرتفع والحاجز ومن الجانب الآخر يقع المنحدر والمتدحرج أو لنقل جرفا صغيرا، إما يمينا أو يسارا،حيث تختلط فيه الحجارة المسننة ببقايا الأشجار وما يذبل من ألواح الصبار وبقايا روث البقرة والحمار.فلا تكاد تقطع الطريق لمسافة حتى تتفتق ثنايا الأحدية وتلتوي الأرجل ،والويل ثم الويل لمن كان لها حذاء بكعب عالي ! 

ولكن كل هذا وذاك قد يهون إلى جانب لقاء كلب عند المسير فذاك هو الإحراج والحيرة وتشتت المقاصد.فإما التوقف حتى يمر  بأمان وهذا هو الحل الأمثل ،وإما النكوص والرجوع نحو الوراء ،وإما المواجهة وإثارة الغبار والرشق بالأحجار ،فتكون الحرب سجالا ربما قد يتطلب الأمر من الكلب طلب الإمداد فيلتحق بركبه كلاب آخرون وتدخل المواجهة في اليوم العصيب ،ويتقرر المصير  للسالك بأن لا يعاود المرور إلى موعد غير محدد.في حين أن تلك الكلاب قد لا تسكت ولا تحترم ولا تهاب إلا أهل قريتها ،تعرفهم شخصًا شخصًا واسما اسما.

وعند قرب هذه الممرات والمداخل كانت تقطن جدة زرياب (وجده الذي توفي قبلها بفترة طويلة) ،ولكي يصل إلى منزلها فكان لابد وأن يخوض المعركة ويستعد للجري والتشمير عن ساق الجِد.وعند المساء وبعد نزول الظلام وسيطرة السكون وتلألؤ النجوم في السماء تبدأ موسيقى الكون الجميلة ،من نقيق الضفادع وعرير الصراصير ونعيق البوم ووُطَّ الخفافيش،وما بين فينة وأخرى تسمع خوار البقر وثغاء المعز أو الخروف ،وأكثرهم تكرارا وسماعا نهيق الحمير وذلك لأنها أكثر الحيوانات تأرقا وعدم استسلام للنوم نظرا لما تتوقعه وتتخوفه من متاعب الغد فيزعجها التفكير في الأمر ويفر عنها الكَرَى فرارا ،أو أنها قد يتسلط عليهم الشيطان فتراه وتردّ عليه بأنكر الأصوات،وهذا قد يدخل في الموسيقى الدرامية والمثيرة للخوف والرعب.

لكن الأكثر سهرا وانتباها في القرية عند الدجى ستكون الكلاب بالدرجة الأولى وذلك لعدة أسباب ومن أجل مهام محددة وجادة.إذ هي لها دور الحراسة ودور الرياسة ودور الإدارة ودور التنبيه .كما أنها قد تتزاور فيما بينها عند تلك الفترة بكل حرية ورومانسية ومن غير منغصات على عكس ما هو عليه حال الكلاب بالمدينة.

وفي هذا الظلام الحالك قد يحلو لها رفع الصوت للتشجع أو لإرسال رسائل مشفرة نحو الأصدقاء والأعداء تعلمهم بأنها حاضرة بقوة عند هذه النقطة أو الخندق من القرية أو تلك.فكل فريق يعرف حدوده ولا يتجرأ على اجتياز منطقة غيره إلا بعد المفاوضات وأخذ الإذن أو الاتفاق بالذهاب إلى عرس خاص بها ! .وكم هو جميل ومؤثر سجع الكلب عند خنادق القرية وما بين تلالها حيث تسمع محاكاة وصدى نباحه بين الجهات المختلفة ،حتى إنه قد يذهب الأرق ويساعد على النوم والخلود للراحة على عكس النباح بالمدينة !!!

وفي بعض الأحيان قد تصدر تلك الكلاب صوتا شبيها بعواء الذئب وكأنها ترسل إليه رسائل بأنها مستعدة للمواجهة وأنه لا يمكن له الاقتراب وإلا كان جزاؤه الفتك والهزيمة المرة.

وهذا العواء كثيرا ما كان يحدث عند الليل ،ولم يجد بعض السذج من أهل القرية بل حتى في المدينة تفسيرا له إلا بأن الكلاب قد ترى الموتى وهم يمر بهم عبر السماء إلى البرزخ أو شيء من هذا القبيل فتصرخ لذلك وتصدر عواءها بهذا الشكل!

وهكذا أصبحت الكلاب لها علم الأرض وعلم السماء ولها حراسة الأرض ومراقبة ما يجري في الفضاء، فهل هناك قيمة أرفع من هاته التي أعطيت لها ،في حين فإن من أراد أن يسب شخصا أو يهينه ويهين أباه وأمه فليكن الكلب في مقدمة السباب :يا الكلب ويا ولْد الكلب يا أولاد الكلاب وما تصرف منها،بل حتى الدين أو التدين قد نسبوه إلى الكلب فيقول بعضهم لبعض :"ياكْ ألدّينْ دْلْكْلْبْ".

بينما الكلب بريء من هذه الأوصاف التي قد تسقط عليه من غير عدل ولا مبرر معقول.لأنه وفيٌّ وقنوع كما ينعت بذلك ويسير على غريزته.بل لو تعمقنا في تحليل حاله وتدينه لوجدناه أكثر من كثير من البشر انضباطا وتدينا وتسبيحا لله تعالى ،مصداقا لقوله:" وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا"" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ".

ولقد كان شبه موضوعي أبو بكر بن خلف المرزَبَان المحولي حينما ألف كتابه"فضل الكتاب على كثير ممن لبس الثياب"أو"تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" على خلاف حول كلمة فضل وتفضيل ما هي الأصح.

ولكن رؤية زرياب ذي الذوق الموسيقي والفني الرقيق قد تختلف عن المرزبان بحسب نوع المنظار  والزمان ودقة الملاحظة وخلفيات السلوك وأبعاده ،وما ينضح عنها تشاؤما وملاما .وذلك فيما عرض عند مطلع كتابه:

     ذهبَ الناسُ وانقضت دولة المجد ** فكلٌّ إلا القليلِ كلابُ

     مَن لمّ يكن على الناس ذئباً ** أكلتهُ في هذا الزمانِ الذئابُ

لكنهما قد يلتقيان في بعض النقاط التي لا يمكن نكرانها في مثل هذه المواقف:

 ذهب الذين إذا مرضت تجهَّلوا   وإذا جهلت عليهم لم يجهلوا

وإذا أصبت غنيمة فرحوا بها    وإذا بخلت عليهم لم يبخلوا

وما الناس بالناس الذين عهدتهم   ولا الدار بالدار التي كنت تعرف

ولا كل من تهوى يحبك قلبه    ولا كل من صاحبته لك منصف