البائس والقدر المشؤوم (6)بقلم:مصباح(فوزي)رشيد
تاريخ النشر : 2019-07-17
البائس والقدر المشؤوم (6)بقلم:مصباح(فوزي)رشيد


مصباح(فوزي)رشيد

***

حين خرجت إلى هذا العالم تفوّهت بكلمات غريبة . ثم غبت عن وعيي  .

 حين خرجت إلى الدنيا قالت المرحومة عنّي أنّني غصتُ بمعنى غِبتُ عن وعيي ، وكنت أردّد عبارة " الجنّة في النّار " ، فارعبها كلامي ،  لغزي المحيّز ، فهرعتْ تطلب النّجدة من سلفاتها . 

مازلت لحد الآن أتذكّر هذه القصّة الغريبة التي روتها المرحومة أمّي ، ولم أنس من كلامها حرفا واحدا. . المرحومة أُمّي التي عُرفت بالصدق والوفاء في حياتها، ويعرفها الكثير ممّن خالطها بأنها لا تحب كثرة اللّغو و اجترار الكلام ، لكنها في المقابل كانت مستمعة جيّدة ، تتابع الأخبار من خلال الرّاديو المعلّق في الغرفة، و تحب أيضا سماع القصص والروايات ، والأغاني الشرقيّة ، والفلكلور الجميل ، ولم تُفوِّتْ حكاية واحدة من حكايات التونسي (عبد العزيز العروي ) ، ولا حصّة من حصص سيّدة المطبخ (ساميا ) الجزائرية ، ولا حديث صباح واحد ، من الأحاديث الدّينية التي كان يرويها باكرا شيخها الرّاحل ( محمّد كتو) رحمة الله عليه .

 كما كانت تستأنس بالنسوة حين يرويْن لها قصصهن عن رؤية الأشباح المرعبة ليلا ، وكنتُ أتظاهر بالنّوم خلالها وأتابع الحديث بشغف . 

ورثت عن المرحومة ذات الفضول والهوس . ورويت خيالي الجامح بتلك الأحاجي والقصص ، و كنت أحب سماعها وأنا مازلت في بداية العهد والمشوار، وتنامى خيالي كما تنامى الزرع الذي قبال بيتنا . 

 وحين كبرتُ صار لديّ عالم موّازي ، وقدرة عجيبة على رؤية الأشياء دون غيري ، و جيوش جرّارة تفوق كل الجيوش ، فكانت تحيّيني عند رؤيتي وتتبعني ، أينما حللت وارتحلت . ولو كنت حينها أعرف أن هناك قضيّة اسمها فلسطين ، لكنت قد حرّرت أرض الإسراء والمعراج في لمحة بصر. 

كانت المرحومة والدتي  تتربّج بي وتقول عنّي أنّني لست ككل الأطفال ، لِما لمسته من فطنة كانت لديّ وذكاء ، وملامحي الجميلة ، فقد كنت بهي الطّلعة . 

لكن الآن ، بعدما كبرت وفقدت تلك الملامح الجميلة ، وغزى الشّيب ذقني ورأسي ، وضاعت منّي كل الحيل ، وفقدت زهرة العمر والشباب ... أدركتُ مليّا معنى ذاك الغنج وذاك الدلال ، والذي حظيت به حين كنت ولدا عزيزا على اُمّي .

 كانت لديّ قدرة عجيبة  ، وعالم خفيٌّ لا يراه غيري ، وجيوشٌ جرّارة تفوق كل الجيوش العربية . هرمتُ بعدها ، وانشغلت عن معاينة عالمي الموازي ، ففقدت السيطرة على تلك الجيوش التي كانت ترافقني وتخصُّني بالتحيّة . 

لكن أكثر ما غاضني ، تضييع أوقاتي في اللهو والفراغ ، وصحبة التافهين والأشرار ،  وشبابي الذي ضاع في الملاهي والملذّات . فافتقدت تلك القوّة الكامنة التي ساقها الله لي ولم أرعها حقّ الرّعاية .

كان بمقدوري أن أجسّد كل ما كنت أراه ولم يره غيري ؛ 

أجوب العالم بقارّاته الخمس ، وأغوص في أعماق محيطاته البعيدة وبحاره السبعة ، فاستخرج الكنوز الدّفينة ،  وأفك عنه الألغاز والأسرار وأنا أردّد كلمات فرقة ( سكوربيونز ) الشهيرة : 

" الوقت .. أحتاج إلى الوقت " .