زرياب في مزاحمة الكلاب بين الدروب والهضاب بقلم:د.محمد بنيعيش
تاريخ النشر : 2019-07-16
زرياب في مزاحمة الكلاب بين الدروب والهضاب بقلم:د.محمد بنيعيش


  زِريابْ في رحلة صيفية

          مع الكلاب

             "قصة درامية مستوحاة من الواقع وهوامشه"


       الدكتور محمد بنيعيش

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب

بسم الله الرحمن الرحيم          والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم المرسلين وآله وصحبه

تـــقــــــديـــم

  هذه قصة قريبة جدا من الواقع تلامسه وتعاكسه وتغوص فيه وتطفو على سطحه ،فهي تعالج قضية حيوانية في ظاهرها، لكنها عميقة في سرد الواقع الإنساني وتفاعله مع هذا العالم ،عالم الكلاب خاصة، حيث تتقارب فيه المشاعر ويتحرك الوجدان وتختلط الأذواق والمواقف ،كما توظف القيم والمبادئ قياسا واستئناسا وممارسة ومدارسة .

  فبطل القصة رمز إليه بزرياب ،على اعتبار ذوقه وفنه وإرهاف مشاعره وتناغم دقات قلبه وانجذابه ،فطار به نغمه من القرية إلى المدينة و من المدينة إلى القرية ثم من القرية إلى المدينة مع تتبع سجع الكلاب وموسيقاها، يستمتع برونق المكان وتنوع التضاريس وتلون المشاهد وتلألؤ المياه والأجواء وتنوع الكائنات من حيوان أليف وماشية وحشرات .

  وبجانب هذا الجمال والفرح سيكون هناك حيز واسع حزين تقعد له الكلاب أنفسها ويتأثر به الإنسان قولا وفعلا وسلوكا وعادة.مع أن هذه الكائنات معروفة بالبشاشة والتسلية والألفة لكنها مع ذلك مولدة للحزن والشجن ومدعاة للرأفة.فكان بطل القصة من الحيوان جرو أنثى رمز إليها ب"هايْدي " والتي ستصبح ظاهرة مثيرة توظف على نطاق واسع في عالم الكلاب.  

في ظل هذه التناقضات النفسية والوجدانية تتألف هذه القصة وهي ترصد وتتصيد ،من خلال ذوق زرياب ونغماته، بعض أهم قضايا العقيدة والفكر والسلوك ،وأهم عناصر التواصل والتجاذب وأدق الإشارات القيمية الصادرة من الكلاب حيث لا يؤبه بها بينما هي ذات دلالات أعمق مما قد يتصور ...  

المؤلف

الدكتور محمد بنيعيش


                               1

  زرياب في مزاحمة الكلاب بين الدروب والهضاب


لم يكن يخطر ببال زرياب أنه سيأتي عليه يوم يحتاج فيه إلى مساندة الكلاب ،مساندة مادية ومعنوية وأخلاقية وتربوية، وذلك لأنه كان في سبات عميق منذ ولد وترعرع ونشأ شابا فكهلا ثم إقبالا على الشيخوخة .

كان زرياب يرى الدنيا من عين داخلية مشبّكة محجوبة تشكل له الواقع تشكيلا ،وتموه عليه الصحو تمويها، فيراه صامتا مزعجا لا يستحق أن يواجه، وإن ووجه فما الفائدة.لأنه واقع لا يتغير ولا يريد أن يتغير أو لا يراد له التغيير، فهو إن حدث فذلك بئس المصير !.

نشأ زرياب في زمن لم يكن يعرف إلا اللون الأسود أو الأبيض في الشاشة Kولا يسمع من المذياع إلا :" عند الإشارة تشير الساعة" ،وإن هو تمادى للخروج نحو الفضاء الأوسع، فسيكون محظوظا إن سمع ب"هنا لندن"،مصدر الأخبار وموثوقها ودقيقها ،لا يكاد يشك هو ومن حوله في مصداقيتها ،لأنها جاءت من هنالك حيث مزاعم بلد الحضارة والتقدم والقوة والتصنيع ،أما هو فيعيش في بلد الحفر والقتر وبين المعز والبقر ،وحولها الكلاب ولم لا الذئاب.كما أنه لم تكن له صلة بالموسيقى والغناء إلا من خلال الإذاعة نفسها والمذياع الصندوق القاتم اللون نفسه الكبير الحجم،وأيضا من خلال الأعراس والحفلات التي كان يكثر فيها الصخب ومزعج الطرب من غيطة وطبل "ودربوكة  وشِنْشانة" وضرب على الحيطان وأبواب الصفيح، قد كان يستمتع بها حتى الكلاب و يعجبها هذا الإزعاج، ردا على من يتهمونها به، فلا تفر ولا تمتعض حيث لها في الولائم مآرب .

فحتى وإن كان هناك فن وموسيقى فليس ذلك إلا عبر مشاهدة الإشهار على أبواب السينما باللون الأبيض والأسود والرمادي مع غناء ممزوج بالتمثيل ،و مظاهر شبه ماجنة قد لا تناسب ذوق الصغار، ومع ذلك يرتاد دورها الكبار ولا يتحفظون في حكاية أدوارها ومن هو البطل فيها ومن المغني أو الموسيقار الكبير الذي استأثر بالنساء فيها،قد يكذب منهم ،إلا القليل ،من لم يتفرج فيها ويتابع أخبارها ،بل قد يقلد أغانيها تقليدا بصحو أو سكر.فلا بر ولا فاجر إلا وكان مهتما بالحدث الآتي من الشرق خصوصا، ومن الديار المصرية واللبنانية المباركة تحديدا !  

زرياب هذا قد كان مخضرما في بيئته ،فلا هو حضري صرف ولا بدوي قح ،وذلك من ولادته حتى ريعان عمره.ولد بالبادية وانتقل به أبوه إلى المدينة ،وأية مدينة هي ،صغيرة معلقة في جبل تحبه المعز للنَّزْو وقضم أوراق الدّرْوِ،بدائية مُدرْبَبَة ،ومتصاعدة متنازلة ،لا تصل إلى مستوى شبه الحاضرة، بل هي بين بين قد لا تكاد تبين.ثم بعد ذلك سيرحل بين حافلة وحمير من غير حارس ولا خفير ،مع اجتياز حذر للوديان والتلال ،إلى مدينة أخرى تقع بين جبلين محاصرين لها لا يكاد يصفو فيها الجو بسببهما ،هذا مع هبوب رياح مستمرة متآمرة جد قريبة من البحر الذي يلطم بأمواجه وغضبه الرمال ويرش المدينة برذاذ رطوبته الكسولة العانسة فيجعلها تعرق وتغرق ضيقا وخنقا.

سكن زرياب وعائلته في حي ضيق المسالك ودروب محصورة بين الحيطان وخطر المهالك، قد جمعت بين كلاب الحيوان والهررة ،وبعض المواشي، بجوار بشر على مختلف الأمزجة والألوان،وذلك لأن سكناه جاءت على مقربة من مزرعة مترعة لا يحيط بها سياج ولا يرعاها حارس ممتاز ولا تزرع إلا بقمح أو شعير، بين سيقانها وسنابلها تنبت الطفيليات من نبات الحُمَّيْضة والخشخاش الأحمر الذي يصيب الشخص بالنعاس وليس هو بالمخدر المعروف والباهض الثمن، ويا ليته كان كذلك إذ فيه ربح وتجارة وتهور وجسارة.

كما كان يقطنها نمل ونحل وفراشات وصراصير وعناكب كثيرا ما تشرف بزيارتها المساكن القريبة منها فتسمع الصياح ونفض الأغشية والألحفة والأقمشة.وبين أعشابها حينما تقف على سوقها وتطول كان أيضا يقيم الكلاب والقطط لصيد الطيور والحشرات وللاستظلال، وأيضا يربض اللصوص وقطاع الطريق ومخوفو الصبيان والفتيات للتربص وتحين الفرص،والويل لمن زاغت به رجله فوقع في الأسر ! فهو ما بين ضرب واغتصاب وسلب ونهب ،بل هو في حضرة  الإرهاب بلحمه وشحمه وبعينه ورجله ولحيته. والويل ثم الويل لمن مر بسياج من غير هراوة أو  صولجان وإلا بوغت بِعضَّة أو رِعبة أو نَبحة مكشرة من كلب ضال أو مما هو في قنية الجيران.  

وعند أطراف المزرعة كان يوجد واد شكله مرعب وحاله مريب وماؤه ليس بجد صبيب ،لا يعمر ولا يفيض  إلا عند سقوط أمطار رعدية متتالية،لو رأيته حينها لما استطعت أن تعبر القنطرة ولما تجرأت على الاقتراب ،إذ كم من بائس جرفه معه من غير إياب.وحينما يهدأ يطفو على سطحه البعوض (الناموس)وبعض السمكات ذات الحظ التعس أو السعيد بحسب المآل، كما قد تزاحمها أفاعي وسلاحف كثيرا ما كانت تقع في الأسر بالصنارة فيتكسر هيكلها بالحجارة أو ترمى للكلاب كهدية وبشارة.ومع هذا المظهر فقد كان الوادي محجَّ النساء والفتيات وهن حاملات على أظهرهن الرقيقة والهشة أثقالا من الأسمال وجلد الأغنام وأغطية خشنة قد أصابها البلى وانبعثت منها رائحة الغنم لأنها منسوجة منها منذ عقود ! .فيلتقي الجميع عند بناء شبيه  بالخربة والأطلال ،ربما كان من مخلفات الحرب عندما مر الاستعمار من هناك فترك الردم والهدم وما يمكن أن يعرض إلى اللطم والشتم والجرح والتعْديم،أي التسبب في عاهة مستديمة ، قد لا تحل مشكلتها عصا الاتكاء ،ولا كرسي التحرك الذي لم يكن له وجود يذكر حينذاك،وإنما الطريح طريح والكسيح كسيح إلى أن تقوم الساعة.

وهؤلاء النسوة المسكينات بكل ما تحمل الكلمة من معنى قد كن يحملن معهن هراوات فيها مآرب شتى من بينها إرهاب الكلاب إن هي اقتربت وأساءت الأدب مع الأحباب .كما هي تصلح للضرب على الأغطية والألبسة بقوة من أجل طرد الأوساخ والأدران وتصفية الغسيل وتنقيته بغسالة مجانية لا تحتاج إلى كهرباء ولا إلى صابون آرييل أوتوماتيك أو غيره، اللهم إلا ما كان مشهورا من صابون الكف أو تيد( المشهور في كل مكان بأنه يصبن مزيان) .

فالعز في الأذرع النسائية الحرة والخشنة بفعل حمل الأثقال ولي الحبال والجولان بين الهضاب والجبال، وعجن الأخباز من قمح وشعير ولف رغيف مسمن وبغرير و كسكس مفتول في المنازل لأن السر فيها.فقد جمعن بين مظاهر الجنس اللطيف والخشن،بأصوات رخيمة وعضلات مفتولة وأيادي خشنة مسننة من باطنها ومخدوشة من داخلها كأنها أسنان مغزل أو محك حمّام.فهن نسوة عندما يتطلب الأمر منهن عمل النساء ورجال حينما يتعرضن للإيذاء.قد يضربن أولادهن وفي أحيان أزواجهن وجيرانهن إن اقتضى الحال بكل ما أوتين من قوة وما وقعت عليه أيديهن من حجر أو هراوة وجرَّة ومهراس ،هذا مع ما يتلونه من شتائم وسباب لا يوقفه سوى سد الآذان والأبواب.

كما أن هذا الغسيل بالوادي في الماء الترابي الكاكي اللون النابع من بين الأترع والفائض من غدير، أو من بعض السواقي ومخلفات بعض المعامل، قد كان يتم قريبا من معمل يرمي بنفاياته من مخلفات صناعة الحلوى وكذا معمل ينتج جافيل التقليدي السام فيصب مستخلصاته العديمة بنفس الوادي الذي كان يشرب منه ويستحم فيه ،والتي قد كانت تفتت مع تكرار الاستعمال الأثوبة والأنسجة ولو جلد بقر، فتبهت ألوانها حتى كأنها براقع بقع ترسم خريطة جزر المريخ أو وجه قمر ملطوم يسطع بين سحب داكنة ونعيق الغربان، وترسم عليها لوحات تشكيلية لا يتقنها حتى ويليام فان غوخ نفسه.فلا تسمع حينئذ سوى :"الصَّاطْ البَّاطْ" مقرونة بأهازيج وعَيْطة جبلية بدوية قوية وزغاريد فرح مفتعل كأنها استغاثة محارب واستمداد قوة وجهد لتحقيق المآرب. 

وما بين الصَّبّانة، كما سميت بحالها،والوصول إلى مركز الحي كانت تنتشر الكلاب الضالة من الحيوان ومعهم شبه الإنسان، فحذار حذار ! والويل ثم الويل لمن صادف أحد هذه العناصر الإرهابية!.فلا ينفع معها ثمة إلا الفرار أو تبادل الرشق بالأحجار،هذا إن كان المرء قوي البنية سريع الخطى ،أما إن كان بطيئها وضعيفها فذلك هو اليوم  المشئوم العصيب، الذي فيه الصبي قد يشيب، ولا ينفع معه شفيع ولا طبيب، اللهم إلا ما احتواه الجلباب ومغاوير الجيب من دراهم أو حتى فاكهة وطعام كفدية وتأشيرة للمرور بسلام .وحتى إن هو أعطي له الضوء الأخضر للمرور فهناك قريبا وعند المنعطف قد يفاجأ بجمارك الكلاب التي لا تعرف سوى العض ما بين الرجل و الساق وما واجهها من ثوب الجلباب ،حتى لو قدِّم لها ما قدم من الطعام والشراب. وقد حق لهذه الكلاب أن تتخذ مثل هذه المواقف طالما أن جيرانها من الإنس لم يوفروا لها مؤونة ولا احترموا لها مكانة،فالتزمت لذلك مبدأ عادلا وهو :"الخير بالخير والبادئ أكرم والشر بالشر والبادئ أظلم".

وليس الإنس المتشرد والكلاب الضالة وحدها من كانت تسيطر على تلك المناطق وتطبق عليها بثقلها المرهق وإنما كان هناك عنصر ثالث ليس بأقل خطورة من هؤلاء وأولئك.وهو تهديد الجن واختيار سكناهم عند الوادي وعند الخرب المهجورة خاصة.فما أكثر الحكايات حول هذا الموضوع وما أوسع الأنسجة عنهم وأولادهم وأزواجهم !!! بل حينما يرى البعض رجلا  قد ذهب لوحده وعند الظلام بعد المغرب نحو تلك المحمية واجتاز جمارك الإنس والكلاب يقولون :إنه متزوج بجنية وله أولاد منها .ويزداد تصديقهم لكذبتهم حينما يرونه وهو مار بالطريق يتحدث مع نفسه ،مرة بصوت مرتفع ومرة منخفض وكأنه يخاطب فعلا شخصا ما ،ولكنه يكون قد ضاق به الحال واشتد أفق عقله حتى دخل عن خارجه وخرج عن داخله.فهذا يقال بأنه قد ملكته "عيْشة قانْديشة" وذاك "لَلاَّ الفْرنْسوية" وآخر "عمتي العِبرية اليهودية".

وهكذا يتألف فيلم الرعب والخيال الداكن والساكن والمسكون والكائن وغير الموزون.بحيث لا يوجد من يرسم الخيال العلمي كمثل عالمٍ من الجهَّال والغوغاء والدهماء . فلا ينظر إلى الشخص بأنه مريض وأنه قد يحتاج إلى علاج وجلسات تحليل ومراجعة للذات وإنما من وقع فبالجن قد وقع ومن صرع فلأنه قد تخطى مكانهم بغير تأشيرة فضربوه وعوّجوه وعرَّجوه وكمَّموه !.

وكثيرا ما ينسب هذا الفعل إلى الكلب المسكين ،باعتباره زعما مسكنا للجان وأنه يتلبس به (يتسيَّف فيه) ويتشخص من خلاله.فكلما رؤي كلب بالليل إلا وكان بين أمرين:إما أن ينهال عليه بالضرب ،حجارة وهراوة، وإما ،إن كان من المحظوظين، قد يترك له الطريق حتى يمر بسلام خشية أن يكون ممن تلبس بهم الجن.

ولم يقتصر الأمر هنا على كلاب الوديان والخنادق بل منها من قد زاحمت أهل المدينة ودخلت حتى مدارسهم فأصبحت تهدد أمنهم واستقرارهم .فلقد بلغ إلى مسمع زرياب حديث وموسيقاه كان قد اشتهر كنار على علم، ولفق وطبق ككذبة أصدق من صدق،بأن كلبا يخرج نهارا جهارا في وسط ثانوية أو مدرسة يرعب فيها التلاميذ ويوقف الدراسة ،وذلك في بعض الأوقات ،وخاصة عند اقتراب الظلام.فلا يجد له المعلمون ومسئولو المدرسة تفسيرا.بل حتى السلطات قد حارت في الأمر وأرسلت دوريتها لتقصي الحقائق فلم تعثر على شيء ولم تتخذ قرارا وربما قد توقفت الدراسة لفترة يسيرة من أجل البحث والتقصي.ولكن بقي الخبر على نار هادئة يغلي بين فينة وأخرى ويطفو ثم يخبو فلا تجد له حلا.

هذا الحال قد أحدث للتلاميذ خوافا عاما وأصبح مرعبا لهم ومؤرقا فلا يكاد يجرؤ أحدهم على المرور مساء وبعد المغرب من أمام المؤسسة ،إلا وكان الكلب وراءه مبعثرا لمسيره ومروعا لحاله لا يجد معه حلا سوى الفرار و رجلاه على قفاه !.  

زرياب هذا التعس منذ الصغر ،والذي كان يغلب عليه الغباء ممزوجا بالدهاء المقيد ،لم يتفطن يوما إلا  وهو يمر عبر ساحة المدرسة في ظلام دامس وحالك ،وبينما هو يتوسط الطريق سمع من ورائه خطى خفيفة وحثيثة تنقر الثرى نقرا متتاليا كأنه إيقاع موزون وانسياب ملحون.ولم لا فزرياب قد يؤول كل شيء إلى موسيقى وغناء حتى حركات ولهث الكلاب.

لم يكن قبل سماع هذا الحسيس يخطر ببال زرياب قصة الكلب وما يليه،ولكن بمجرد اقتراب حفيف هذا الخطو بهاجسه ،نحو أذنيه، حتى أسرعت ذاكرته بشدة فاقت حساب العداد فتداعى الحادث المشهور إلى ذهنه بسرعة البرق ،وكأنه قد كان على موعد معه في تلكم اللحظة بالذات .

التفت وراءه بسرعة وحذر ،خاصة وقد ترسخ في مخيلته أن الجن بقدر ما خِفت منهم تسلطوا عليك ،وأن الالتفات نوع من التعبير عن عدم الاستقرار والخوف وشدة الاهتمام الملام،ولكنه مع ذلك التفت لقوة الباعث.

فكانت المفاجأة ،وأية مفاجأة،ويا لها من مفاجأة! .فلقد اختلط عليه المشهد وتبعثرت عنده الأوراق وتداخلت في حضرته العوالم وتشابكت المعالم ،فاصطدم المتخيل مع الواقع وامتزج الظلام مع الشبح واضطرب الجسم مع الروح ،والعقل مع الانفعال، والرجل مع الرأس ،والإنس مع الجن ،والخرافة مع الحقيقة.

رأى فيما يرى الصاحي ،وليس كما يرى الرائي، كلبا ضخما بقوائم أربعة، وليست  اثنتين، يسير نحوه مباشرة، من غير نبح ولا فضح ،وإنما كل له طريقه، ولكنه طريق جد متقارب لا يحتمل مرور كائنين معا في زمن واحد وعند مكان واحد ! فإما أن يمر زرياب وإما أن تعطى الأسبقية للكلب ،الممسوس زعما وما به من مس !.

وله الأسبقية هنا فعلا لأن الميدان ميدانه والحمى حماه قد سيطر عليه باستحقاق حضورا واستحضارا ،طالما لم يعط لوجوده تفسير ولم يؤبه بوجوده ليلا أو نهارا.وكأن الكلب الشجاع في هذه اللحظة أراد إثبات الذات حينما شوهوا سمعته وفضحوا أمره واستهانوا بقيمته ورموه بالحجارة ونهروه أمام المارة ونسجوا حوله الخرافة والطيرة وسوء الضيافة.فأراد أن يريهم بأن له أوراقا لو استغلها لما قرت لهم عين ولا غمض لهم جفن ولما طاب لهم ثريد أو مجد تليد !.

وبسرعة كالبرق وقرار كالنار هرول زرياب ورجلاه تصطدمان بأم رأسه وجسمه مرتعش كأنه قرية نمل و جلده  منمّش كالديك المنتوف ،هذا مع وقوف شعره من أخمص قدميه إلى أم رأسه في حالة طوارئ كمنصات صواريخ صام.

لم يشعر بنفسه ولا بجسمه المراهق المرهَق ولا بمسافة طريقه إلا وهو في الدار ملتحفا الدثار،ترتعد فرائصه بإيقاع محتوم ولا يكاد يصدق ما حدث له أو رآه.فيسائل حينها نفسه ويجيبها:-إنه كلب فعلا وليس وهما وخيالا.ولكن من أين أتى بغتة ومن غير موعد وسابق إنذار؟.فلقد كان حينها زرياب يسرع الخطى عند المكان المعلوم،يسرع الخطى لأن الساحة خاوية ومهيبة ومظلمة بلا إنارة ولا  هم يحزنون ،شأن الأحياء المهمشة التي لا يمر بها كبار القوم .فبالتقدير الفيزيائي والعد الرياضي لا يمكن أن يقترب منه الكلب مع تلك السرعة الفائقة التي كان يمشي بها.فهل خرج من الأرض أم نزل من السماء أم تفتَّق من الهواء؟ 

تلكم الرِّعَبة ستكون لها دواعي نفسية وأخلاقية وعقلية لم يتسطع زرياب التخلص منها إلا بعد فترة طويلة من عمره ،حتى إنه بعد الجري الصاروخي الذي فر به لم يجد بدا من التحلل منه والهروب من كوابيسه سوى بالنوم العميق لحد السبات ،الذي اختلط عليه فيه الحلم باليقظة،فهل فعلا كان مارا بالساحة وهل فعلا كان وراءه كلب وهل فعلا جرى جريا خارقا ،وهل الكلب هو كلب عادي كان مارا يلتمس رزقه،أم أنه ذلك الكلب المزعوم كجن أو عفريت قد أراد أن يثبت له بالبرهان القاطع بأننا نحن هاهنا يا من لا يعرفنا؟ !!!

فكان هذا الكلب قد  هيأ لدى زرياب درسا فلسفيا وفكريا وعقديا واجتماعيا لا يمكن الاستهانة به أو طيه في الرفوف ونسيانه .فلقد جاء وناسب مرحلة و حالة نفسية شرطية منعكسة آنية، إن هي وجهتها نحو الخيال تخيلت وتوهمت وخرِفت وإن هي أطّرتَها وحلّيْتها بالعقل تحللت وتعقدت وتقلصت وتداخلت،فكان لا مناص من التوقف وأخذ الدروس والعبر حتى لا يطير الدماغ ولم يبق له أثر. 

عند هذه البيئة المتوترة عرفا و عادة كان زرياب يعيش القلق ويتوقع دائما الأسوأ والأسود مما يصدر من الفلق المُغلَّق ،ويستعيذ بالله من شر ما خلق.فلا يكاد يمر يوم حتى يتهارش اثنان أو ثلاثة أو جماعة من الإنس تهارش الكلاب أو أسوأ،قد يؤول الأمر غالبا إلى استعمال السكاكين والسواطير والعصي، والحجارة،الموجودة بكثرة في الزقاق والحي والمدينة،قد لا ينفع معها لعب الكاراتيه ولا الملاكمة للدفاع عن النفس،ولا يستطيع مقاومتها بروسلي أو جاكي شان وحتى شيروخان ،وإنما أنت وحظك،فإما ضربة في الرأس،بالهراوة أو الفأس، أو سلخة في العنق أو كسر في الرجل ،ثم هيا بنا إلى المستعجلات التي لم تكن سوى مؤسسة يتيمة لا تسمن ولا تغني من سيلان دم أو دفع ألم !

وكثيرا ما تعرض زرياب لهذه المشاجرات بحكم الحال ومقتضاه ،والتي كانت في الغالب تفرض عليه فرضا وتجره إليها البيئة جرا،فينخرط فيها بغير بطاقة أو انتساب ،بل قد يصير في بعض الأحيان هو بطل الرواية في فيلم الذئاب أو الكلاب ،يتزعم الفريق ويقطع الطريق ويرمي بالحجارة ويناور بالإيماء والإشارة وينتقم لنفسه ولرفاقه ،ويسهر تأرقا في ليال الأنس المرعبة بكوابيسها وشحناتها المخيفة.بحيث كان أطفال الحي وشبابه بل حتى كهوله بارعين في الرماية ،رماية أحجار لا تكاد تخطئ الهدف بحكم التعود والتكرار،بل كثير منهم من كان يصطاد الطيور بواسطتها فقط، من بينهم زرياب.

أما الكلاب فقد كانت مختبر الرماية بامتياز،وكانت تعلم ذلك جيدا ويتوقعون المفاجأة في كل حين، حتى إنها كانت تمر عبر الزقاق حذرة طالبة العفو والستر كما كان يعبر عن ذلك في حق كل من ينشد السلم وتفادي الأذى ب"إذا أردت النجاة فامش حَيْطْ حَيْطْ"،قانون فهمه ووعاه كل من الإنس كما الكلاب.

ولا يوجد في الحي شخص ليس مطبوعا طبع الدّلاّح أو البطيخ الأحمر والرمان ،إلا من رحم الله .بل حتى المسالم وإن هو مر عبر الحائط لتفادي العراك والشجار فإنه يناله نصيبه من بركة المقام.فلا يكاد يخلو الكثير من جرح غائر أو شجة في الرأس ،أو وعكة و ليّ عضو أو شلل في أصبع ...وكأن القوم قد كانوا في حرب أهلية نجا فيها من نجا وأصيب من أصيب ،منهم زرياب وأصحابه. 

يتذكر يوما أنه قد تشاجر مع ولد من سكان حيه المجاور بسبب تزاحم في لعبة كرة القدم، والتي كانت تجرى مبارياتها  فوق الأحجار والحصى والتراب الخالص،الساقط والمعطوب فيها أكثر من القائم والسليم،وذلك حينما تدافعا وسقط الآخر فالتفت فسب وشتم وحصل العراك وبعده فض الاشتباك، ثم انصرف زرياب غير محترس إلى حال سبيله ،فليس به إلا وحجارة مكوَّرة صلبة مشفرة ومسنَّنة وناتئة، تصلح لتكسير اللوز وترميم الصفيح ،قد أرسلت إليه في شكل بطاقة ودٍّ، فوقعت على جمجمته مباشرة من دون واقية أو طاقية ،قد رجرجتها رجًّا حتى سقط مغشيا عليه لا يدري أين ولا كيف ولا متى ولا من،في أسئلة فلسفية معقدة ،أخذ حينها ،بل جُرّ كما يجر الكيس الثقيل بعجين دكِن  نحو المستعجلات ،حيث الانتظار والسؤال وآت وهات...

فلقد بقي على إثرها مدوَّخا شبه مغمى عليه ،ومهزوز الوعي إلى ما لا يعلمه إلا الله.فلا من يسأل ولا من يتابع ولا من يقول هل كُسّر أم دُمّر، هل ارتج مخّه أم بقُرت بطنه ؟ بل شوفي من ذاته وعولج بزمانه وطول إهماله.وهذا هو منطق مجتمعه من حيث الوعي الطبي والتضامن والسهر على راحة الغير،حتى قد يشاع كنكتة :"قيل لشخص بماذا مات أبوك ؟قال:سقط فلم ينهض"(قالّو باشْ بابكْ ماتْ ؟قالو:طاحْ ماناضْ).هذا هو الطب وإلا فلا !!!

فهذه الضربة ،ضربة لازب،قد أثارت في ذهن زرياب تساؤلا حول حال تلك الكلاب المسكينة التي تتلقى الضربات بشتى الأدوات والأسلحة من غير وقاية ولا إسعاف فيبقى الكلب يعاني عندها من آلام الكسر والعاهة المستديمة طول حياته حتى الموت أو تتلوها ضربة أخرى تكون هي القاضية ،بل الكلب ربما قد يكون أكثر تحملا، وكيف لا وقد شخص القوم قوة رأسه باعتباره أشد الرؤوس صلابة قد يكسر مبرّد السيارات (رادياتور)إن هو اصطدم بها في الطريق،إذن فلا ضير إن هو ضرب على رأسه كما يقال:"الحجّامة كَيْتعلموا في رأس اليتامى"!.

فلم يكن حينذاك يوجد بيطري ولا جمعيات حماية حقوق الحيوان ولا شيء من هذا القبيل،فأنت وحظك ،قد يقتل المرء ولا دية والحيوان ولا تعويض ،بل حتى الجن قد يعتدى عليه في بعض الأحيان بواسطة الماء المغلي وإراقته عبر حوض الغسيل،زعما منهم بأن الجن قد يحترق بهذا الفعل ،بل كثير من الحمقى من يعتقد بأن ضربة الجن وانتقامه قد يأتي من هذا المكان في المطبخ حينما لا تنتبه صاحبة الدار فتصب الماء المغلي مباشرة على الحوض ثم تتعرض للشلل النصفي أو على الوجه والفم خاصة.مع أن هذا المصاب الجلل لم يكن سببه إلا رجل الدار ومحنه وتسلطه وقمعه ،فتتراكم المكبوتات والكآبات وتتحول إلى اعوجاجات قد تقع في ناحية الفم تحديدا لأنه مركز التعبير والتعيير وذلك كرد فعل طبيعي على دكتاتورية المنازل !!!

كما أن الحادثة ستترك في نفسه شعورا بمرارة الغدر الذي يصدر من الإنسان ،قد لا يضاهيه ولا يصل إلى عشر معشار غدر الكلاب وإن هم كشروا ما كشروا من أنياب،حتى قد يقال في العلم الحديث بأن عضة الإنسان أكثر سُمّية من عضة الكلب بمائة مرة !!!.وربما بقيت تلك الرجّة يعاود أثرها دماغه بين الفينة والأخرى حتى قد تدور به الدنيا ويشعر بهوانها وضيقها وظلاميتها لا يستطيع مقاومتها،فلم يجد لها تعبيرا سوى تعبير شعبي بمصطلح كوميدي جبلي هو:"الطَّرْنونة" .أي دوخة ودوار لا يعرف سببه وخلفيته.فكلما عاودته قال :جاءتني الطرنونة وغابت عني الطَّرنونة وتطَرْنَنْت بالطّرنونة، وما تصرف منها من أفعال واشتق منها من مصادر.

فلقد ترسخ في المنطقة من الحكم الشعبية أقوال كثيرة عن الكلاب بحكم القرب والمعاملة من بينها:"الكلب يقول اضربني ولا ترعبني" وذلك عند تفسير صراخه وأنينه حينما يصوب نحوه بحجر أو حديدة وهراوة فتجده يصيح قبل أن يصيبه الهدف(كْعاوْ كْعاوْ كْعاوْ).

بحيث إنه يفضل وصول الضربة المباشرة على أن يُرهب ،إذ الإرهاب لا يحتمل سواء عند الإنسان أو الكلب.فهو مستعد للتحمل ولكن في مكان واحد ومعين ،أما أن يبقى مترقبا وهو يعيش التوقعات والاحتمالات المُرّة،إما في رأسه أو ظهره، فهذا هو التعذيب وليس التأديب،وهذا هو الظلم الذي لا يقاس ولا يطاق.لأنه بالنسبة إليه بمثابة الغدر، والكلب لا  يغدِر ولا يقبل أن يُغدَر به لأنه وفيٌّ ،ولا يأتي منه الغدر إلا إذا أوذي.والبادئ أظلم." وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ".

وفي تعذيب نفسي للكلب يقال أيضا:"الْعب معَ كَلبك يلحس وجهك"وبالدارج المغربي"الْعب مْع كَلبكْ يِشَلْهَطْلَكْ وَجهكْ".وهذا مثال شبيه بالمثال العربي القديم:"سمِّن كلبك يأكلك".

بل قد يذهب التعذيب النفسي للكلب لحد أن يمنع من قضاء حاجته فيعمل له الثّقاف !  وذلك حينما يشاهده بعض الغلمان وهو المسكين يريد أن يتخلص من فضلاته فينادي بعضهم البعض لتشبيك  أصغر الأصابع ببعضها :خنصرا بخنصر،وذلك بقوة حتى يكون مفعول الثقاف ساريا.فيتوهم حينها أن الكلب لم يتمكن من قضاء حاجته بسبب هذا الإجراء.فكان هذا هو مبدأ نشوء الشعوذة في المجتمع وتطورها من الصبا حتى الشيخوخة ،حتى قد أصبح يستغل عظمه وضرسه وشعره في السحر وما يليه !.

والعجب كل العجب من هذه النفسية التي لا تريد أن تطعم الكلب وإن هو أطعم فقد تمنعه حتى من التخلص من فضلاتها.فأي مدرسة درسوا فيها هذا العلم وهذه الأخلاق ؟ !!! 

ومع هذا الاحتقار فقد كان الكلب له قيمته في الحي، فهذا منزل العمة عْويشة وذاك منزل الخال أو عمي عْلي وتلك غرسة للاّ الصافية وهذه برّاكة السي قدّور...كل هذه الدور وأشباهها ستأخذ نصيبا من الاحترام والتوقير طالما أن بها كلبا يحرسها،بل أصحابها قد يحترمون من خلال كلابهم .بحيث يشرف الجار وتعطى له قيمة بقيمة كلبه وهيبته !

والأمثلة قد تضرب في حق الكلب كما هي في حق الإنس وذلك عند سلوك معين ،إلا أنه سيأخذ بعدا قاسيا غايته التهميش والإهانة والقمع ،وحساب المسافات بحسب المقامات.أي تأسيس الطبقية والعنصرية ومبدأ التعالي والنرجسية وما إليها.و هذه الأمراض قد لا توجد في الكلب المسكين، وإنما هو محب لصاحبه وفيٌّ في صحبته له لا يتخلى عنه وقت الشدائد والمحن مهما كان الثمن...فحتى التعبير عن الحب وما يختلج الوجدان قد يمنع عليه !!!...

إلى جانب هؤلاء القوم وتناقضاتهم ،بالرغم من قسوتهم المتوارثة والمتراكمة والتواصل والتوادد النسبي من جهة أخرى ، فقد كان يوجد كلاب ،وذلك طبيعي عندما تكون الزرائب(أو السياج من القصب) على مقربة من الدروب،وقد تفضل الكلاب المقام هناك،تطل على القوم لمَّا تجوع وتغيب حينما تشبع،بل منها من قد يقتات على فضلات بطون القوم عندما يشح الطعام ،والذي قد كان شحيحا في المدينة بشح طبيعتها وشح أهلها اشتهارا ،تماما كما ذكر الجاحظ عن أهل مروة بفارس وعموم بخل أهلها،فيما يشاع ويذاع.ولقد أحسن البعض التعبير كما يحكى عن هذا الشاب الصوفي من مدينة بلَخ الأفغانية حينما سأل أبا يزيد البسطامي عند الحج :" ما حد الزهد عندكم؟فقلت:إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا ! فقال:هكذا عندنا كلاب بلخ !،فقلت له:فما هو عندكم؟،فقال:إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا". 

فكم من مرة ستهجم هذه الكلاب في شكل استعراضي على أزقة الحي وطرقاته تريد قوتا وتلتمس صدقة أو صداقة حينما يضيق بها الحال ويطول صبرها إلى ماطل الآجال ،فمنها المحظوظة  ومنها البائسة ومنها المعذبة ومنها المكلّبة المدرّبة.كل له مقام بحسب اليد التي تتناوله أو تطاله وتنهال عليه .

وكم من شخص يكون حاله معها إما محظوظا أو معضوضا ،بحسب الحال وطريقة الاستقبال.فالويل ثم الويل لمن مرّ بزريبة أو سياج حقل أو حائط حديقة أو باب منزل جله من القصب والقصدير !فليست إلا برهة حتى يفاجأ بنباح كلب ،هذا إن كان محظوظا ،أما غير ذلك فليس له سوى الصبر أو  الهرب ثم الضرب إن بقيت له شجاعة ،حيث الكلاب من ورائه والسياج أو الحائط من أمامه.

زرياب مع هذا الاحتكاك الطبيعي قد كان يحب الكلاب بالرغم من عيوبها ويسعى إلى اقتنائها ولو لفترة بسيطة ،بحكم الطفولة وبراءتها، بل قد يساوم عليها ويأخذها قراضا ومعاوضة، سرعان ما يهملها ويتركها لأن البيت ليس بالمتسع لاستقبال الكلاب ،كما أن أفراد المجتمع ينظرون إليها على أنها نجسة وطاردة للملائكة بالاستناد إلى أحاديث وعظهم بها بعض الخطباء النقلة في المساجد.ولكن مع ذلك فالكلاب فارضة وجودها بالرغم من رفضها ،لأنها كائن حي يتغذى وينمو وله الحق في مشاركة القوم في ما تنتجه الأرض وما يستخرج من البحر وينبع من العيون !

أفلم يقرأوا القرآن ويتدبروه أم أنهم لا يرون إلا من زاوية أنفسهم وقياسهم المقوَّس؟ففي سورة الكهف دليل على حضور الكلب مع الإنسان حتى في قبره وربما قد يدخل معه الجنة ،يقول الله تعالى:" وَتَحْسبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا"" سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا".

فالكلب ملازم لأهل الكهف بالمصاحبة كما هو داخل معهم في العدد إضافة قارة حيث به يكمل الرابع والسادس والثامن.فهو منهم ومعهم بحكم الحساب والرياضيات والنحو والحيوانية وحكم الشرع،وهو الحارس الأمين الذي لا يتخلى عن صاحبه في أحلك الظروف وأشدها ويسهر على حمايته إن هو نام،يجود بنفسه من أجل صاحبه مهما كلفه الدفاع من ثمن. 

ومن هنا فأخلاق الكلب هاته قد تتجاوز سلبيات نجاسته المحتملة والمؤولة على غير وجهها الصحيح.لكن القوم أبوا إلا أن يسقطوا عيوبهم على الكلب المسكين ويحملوه ما لا يحتمل ،بل يؤذوه أشد مما يؤذيهم ويرموه بالنجاسة أفظع مما يرميهم.فهل رأيتم كلبا يأكل أخاه ميتا و يتلذذ به حتى كرهتموه؟ !!! 

كانت المدينة العليا التي يسكنها زرياب تحيط بها الجبال وتتسلقها من جميع الجهات، أو قل جبلين ممتدين وحاصرين للسكان ومتنفسهم،ولم تكن بها سهول تذكر أو تستغل  سوى قربها من الشاطيء البحري الذي يقع في غالب سواحله من الشرق الشمالي. وحينما تهب رياح شرقية تجعل من المدينة وأهلها مزاجا كئيبا عصبيا وعصيبا، ومثبطا للعزائم والهمم ،قد يؤخر الاستيقاظ ويجرُّه لدى غالبية السكان إلى وقت متأخر .

وهذا فيه خير، ولكن للكلاب فقط ،لأنها قد تجد الفرصة للتجول في المدينة من غير إحراج أو زحام وتنغيص وئام. فتطلب القمامة بحثا وبعثرة وتقسم المهام فيما بينها على شتى المجموعات والفصائل ،حتى إنها قد تتزوج وتتعرّس وتفرح في تلك الفترة على غفلة من أهلها البشر مصدر النكد والكدر بالنسبة إليها.

وفي كثير من الأحيان قد تفاجأ وهي بعد لم تتم مراسيم عرسها الجماعي فلا يكاد يتفرق القوم إلا على وقع الحجر والهراوات والركل،فينقلب عرسها إلى مأتم وألم ومن فرح إلى قرح،وتمنع من حقها الطبيعي ومقتضيات غريزتها المشروعة.ولربّما في بعض الأحيان وبين فينة وأخرى قد تتعرض للخطف والقنص مبكّرا بواسطة عمال البلدية المتخصصين في صيد الكلاب شنقا وليس بالرصاص كما هو الأمر حاليا،بحيث تنصب لها مشنقة بحبل مثبَّة على عود حديدي لا يكاد يدخل منها رأس الكلب حتى يقع أسيرا فيها فيرمى به في الحاوية أو العربة المخصصة لذلك ،ثم تنفيذ حكم الإعدام من غير محاكمة أو مراجعة الملف أو ظروف التخفيف فلا تسمع عندها إلا عويلا وآخر نبحة وصعقة  !!! 

هذا الجو الكئيب لدى الإنسان والحيوان قد يدفع الكثير من السكان إلى قضاء فترات من الاستجمام والراحة وعند العطل المدرسية الصيفية خاصة خارج المدينة ،وبالتحديد في البادية الملاصقة لها عند مطلع الجبل المواجه للمدينة حيث يفصل بينهما الوادي السابق ذكره  بما فيه وعليه من واجبات وحقوق وفوائد وعوائد.