ما زال ذئباً في لباس حمل، أتُغيّر البدلة وربطة العنق كُنه مُرتديها بقلم: السفير منجد صالح
تاريخ النشر : 2019-07-11
ما زال ذئباً في لباس حمل، أتُغيّر البدلة وربطة العنق كُنه مُرتديها بقلم: السفير منجد صالح


ما زال ذئبا في لباس حمل، أتُغيّر البدلة وربطة العنق كُنه مُرتديها

في المشهد السياسي، العام، وحتى الخاص، غالبا ما تتشابك الأحداث والصور. الى حدّ إندماج الصور القديمة، بالأبيض والأسود، مع الصور الحديثة الملوّنة المنمّقة، متقنة التصوير والإنتاج والإخراج. لباس الزي العسكري المغبرّ من وقع وآثار المعارك، مع لباس البدلة، الجوخ أو الصوف أو الترجال، وربطة العنق الأنيقة، باللون الأحمر أو الأزرق أو الخمري. 

من لبس الجلد والوبر والمخالب البارزة والأنياب الحادة، الى التدثّر بفرو الأرنب أو صوف الحمل، الدافيء الملس السلس. يُخفي، تحتها وفي ثناياها، المخالب والأنياب التي ما زالت بارزة وما زالت حادة. تظهر في الوقت المناسب. حين تتغيّر الظروف والمواقف والوقائع. أو حين يُطلب منها تمثيل الدور "الدموي" القادم، المطلوب والضروري. تعليمات تأتي من مصدرين لا ثالث لهما: من قمة رأس تمثال الحرية. ومن "لسع" وهج الشمعدان ذو الرؤوس السبعة، المنقوش عليه نجمة سداسيّة. 

أرجو أن لا يُعيل صبركم من هذه المقدّمة التي يكتنفها بعض من "التكتُّم" و"المراوغة" والغموض وبعض من "الّلف والدوران"، للوصول الى لب الموضوع. ولعدم التريّث أو الإبطاء أو التأخير أكثر، في "بق البحصة"، حتى لا نُشتّت الإنتباه، ولا نستغّل كرم صبركم.

المقصود، في ما نُريد أن نقول، هو شخص قديم جديد متجدد في الأخبار، في المناسبات، على الشاشات. أول حرف من إسمه، سمير جعجع. "زميل" و"رفيق" و"صديق" "المرحومين" إيلي حبيقة وبشير الجميّل؟ هل هناك ذاكرة، وسعة صدر، وإهتمام وإستيعاب لما نورده، وننفض بعضا من الغبار المتراكم عليه؟؟

سمير جعجع حالة غريبة عجيبة في عالم السياسة والأجتماع والمجتمع. حالة تعدّت وإعتدت وإنتهكت و"مزّقت" مجموعة النظم والتقاليد الأخلاقية المتعارف عليها بين الشعوب والأمم والاقوام في هذه المعمورة.

عندما يتقدّم شخص بسيط الى وظيفة "مراسل" في دائرة رسمية، حكومية، أو ربما خاصة. يُطلب منه "حسن سلوك" أو "عدم محكوميّة"، من الجهاز الأمني القضائي في الدولة المعنية. هذا يعني أن لا يكون هذا الشخص البسيط "متورّطا". أن لا يكون قد إرتكب على مدى أيام حياته جريمة أو جُنحة أو جناية أو "نزوة" أو شبهة أو "سلوك مشين" أو "فعل فاضح" في الشارع العام أو تعدّي على "خلق الله والناس". حتى يُكمل هكذا مسوّغات تعيينه "بدرجة مراسل". 

سمير جعجع، الشخص غير البسيط، لم يترك واحدة من "الهفوات"، "الزلّات"، الكبائر، الموبقات المذكورة أعلاه إلا وإرتكبها عن سابق إصرار وتعمّد وترصّد. وهو بكامل قواه العقلية والذهنية والبدنية. بشحمه ولحمه وبدنه وأنيابه ومخالبه. ومع كل هذا، وأكثر، فقد قفز من السجن، باللباس البرتقالي، الى الفضاء الرحب الفسيح، الى عالم السياسة البهيج، على رأس حزب "القوات اللبنانية"، ببدلة "السموكن" السوداء، وبربطة عنق حمراء من الحرير الطبيعي فاخر الجودة والتصنيع.

قفز من السجن، عام 2005، "بعفو عام". "هرطقة" قامت بها الطبقة السياسية حينذاك، وخاصة التصويت على ذلك في مجلس النواب، وتبنّيه، بأغلبية. لعبت دورا محوريا في ذلك النائب، رئيس كتلة القوات اللبنانبة، "ستريدا جعجع" زوجة "المتّهم". في حين لم يوافق على القرار نوّاب حزب الله، والنوّاب القريبين منهم ومن توجّهاتهم الوطنية الصائبة.

وقد جاء ذلك "العفو" الغريب العجيب، "المبهم"، الذي صادق عليه رئيس الجمهوريّة. في خضمّ بحر من الإلتباسات والإضطراب والتباينات، على أثر إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي لم تكن دماؤه قد جفّت بعد.

نعود للمهم وللمتّهم. كان آخر "إنجازاته"، إنجازات سمير جعجع، قائد مليشيا القوات اللبنانية، في بحر جرائمه الزاخر بشتى أنواعها، ثلاث تهم: تهمة تفجيره لكنيسة راح ضحيّته 11 شخصا. وتهمة قيادته لفريق إغتيال من القوات اللبنابية، قام يتصفية النائب طوني فرنجيّة، "زميله السابق"، نجل الرئيس السابق سليمان فرنجية، فيما عرفت فيما بعد ب"مذبحة إهدن"، عام 1978، حيث قام جعجع وفريقه من تابعيه بإغتيال النائب فرنجية وبعض من أفراد عائلته ومرافقيه، بينهم أطفال.

والتهمة الأبرز، يا سادة يا كرام، هي قتل رئيس الوزراء رشيد كرامي عام 1987. والمرحوم رشيد كرامي كان من أهم وأعرق السياسيّين على الساحة اللبنانية، وأكثرهم مناهضة ومقتا للطائفية. وقد حُكم على جعجع، أحد أمراء الطوائف، بالإعدام على "مجموع" جرائمه. لكن هذا الحكم تم تخفيفه الى سجن مدى الحياة. لكنه لم يدوم في السجن إلّا أحد عشر عاما، قفز بعدها من غياهب السجن الى نور الحياة السياسية الرحب. وكأن شيئا لم يكن. وكأن الرجل كان في رحلة صيد وعاد وعاود حياتة الطبيعيّة كالمُعتاد. هل هكذا تورد الإبل في لبنان؟؟!!

نعود للأهمّ والمُتّهم. الى عام 1976، حيث حُوصر مخيّم تل الزعتر للّلاجئين الفلسطينيين، في بيروت. ما بين شهري حزيران وآب. حاصرت قوات اليمين اللبناني آنذاك، اليمين الشوفيني العنصري "الأبيض"، القوّات المارونية، المكوّنة من حزب الكتائب بزعامة بشير الجميل ومليشيا النمور التابعة لحزب الوطنيين الاحرار بزعامة كميل شمعون ومليشيات جيش تحرير زغرتا بزعامة طوني فرنجية (الذي نحره فيما بعد سمير جعجع)، ومليشيا حرّاس الأرز. وبتواجد القوّات السوريّة، قوات الردع العربية، في الجوار.

وكان من أهم وأسوأ "أبطال" القتل والإغتيال والإعدام، المُحاصرين للمدنيين في تل الزعتر، الثلاثي الدموي المجرم: بشير الجميّل، وسمير جعجع وإيلي حبيقة.

لا أحد ينسى مناظر القتل والسحل والإعدام التي مارسها الثلاثة و"جنودهم" ضد المدنيين الفلسطينيين المُحاصرين في المخيّم على مدى شهرين من المعاناة والألم والأنين والعطش والظمأ والجوع، وصلت حدّ "الفتوى" بأكل بعض من لحوم القتلى الشهداء حتى يستمر الشهداء الأحياء على قيد الحياة. وكم من طفل وطفلة وإمرأة فقدوا حياتهم وهم يُحاولون الوصول الى "الحنفية المكسورة" في أحد أزقّة المخيم شديد الحصار، كي يحصلوا على قنّينة من الماء، يوزعونها على عائلاتهم بواقع قطرتين لكل طفل تشققت شفاههم من شدة الجوع والظمأ.

كان قنّاصوا بشير الجميّل وسمير جعجع لهم بالمرصاد، يصطادونهم على الحنفية المكسورة في زقاق المخيم، وتبقى شفاه الأطفال مشققة، دون مياه ودون أكل ودون أمل في البقاء على قيد الحياة. 

سقط مخيّم تل الزعتر يوم 14 آب 1976. القلعة الحصينة التي أنهكها الحصار. دخلوه "أشاوس" بشير الجميّل وسمير جعجع وحلفائهم. وسمير جعجع وإيلي حبيقة، وإرتكبوا أفظع الجرائم: هتك الأعراض وإغتصاب الفتيات، وبقر بطون الحوامل وذبح الأطفال وهدم البيوت، وشرّدوا من بقي من سكانه عن بكرة ابيهم وألحقوا المخيم بذات مصير مخيّمي "جسر الباشا" و"الكرنتينا" اللذين أبادوهما قبل ذلك.

هل يختلف، سيّداتي وسادتي سمير جعجع عن شارون؟؟!! وهل تختلف قوّاته "القوّات اللبنانية" عن حرس الحدود "المشمار كفول" الإسرائيلي؟؟!! أعتقد أن الشخصان متطابقان وأن القوّتين شُكّلتا لنفس الهدف: قتل الفلسطينيين.

هل أصبح مطلوب منّا في هذا الزمن العربي الرديء، أو هل أصبح من مهامنا وإهتمامنا أن نغسل له يديه الموغلة في سفك دمائنا بصابون بالموليف. وأن ننظف له أنيابه التي نشبت في مسامات أجسادنا، في لحمنا، في عظامنا، وفي "حفّاظات" أطفالنا. بأيدينا، بفرشاة ناعمة ندهنها بمعجون كولجيت أو معجون كولينوس. 

هل مطلوب منا أن نلبس الدشداشة أو البدلة بربطة عنق منمّقة وأن نشدّ على أيدي قاتلينا، الذين لم يُتعبوا أنفسهم أو "يُكلّفوا خاطرهم" بالإعتذار لشعبنا، للعائلات الثكلى، التي بكت دموعا ودما على فراق ذويهم القسري على أياديم  المُلطخة؟؟!!

هل أصبحت ذكرى مجازرنا تُزعجنا بدل أن تؤرقنا؟؟ ننظف بدلات من قتلنا من الغبار بأيدينا أو نبعثها للتنظيف في "الدراي كلين" على حساب جيوبنا وجيوب شهدائنا وضحايانا وبعض منهم لم تجف دمائه بعد، وجميعهم لن تجف ذاكرة وحسرة ذويهم وعائلاتهم وأقاربهم وشعبهم، على فراقهم الماساوي المؤلم. 

هل يريد أحد أن يُنسينا الصور والمناظر المأساوية لأطفال وبنات ونساء يُقتلون وبُعدمون أمام الكاميرات، من قبل قناصة سمير جعجع وبشير الجميل، على "الحنفية المكسورة" في زقاق المخيم، طلبا لنقطتين من الماء يطفؤون بها ظمأ طفلين تشققت شفاههما من شدة العطش.

في يوم 11 أيّار (مايو) عام 1960، نجح عُملاء الموساد الإسرائيلي في إختطاف النازي أدولف إيخمان، قائد الجهاز النازي الجستابو، من الأرجنتين. ومن ثُمّ تمّت محاكمة في إسرائيل. وأُعدم عام 1962.

هل يقول لنا لكم هذا شيئا، أم أنّه مجرّد خبر قديم في الأخبار؟؟!!

عام 2004، إستضاف المعهد الدبلوماسي الهندي التابع لوزارة الخارجية، في نيودلهي، عشرة دبلوماسيين فلسطينيين، في دورة تدريبية لمدة شهر. كانت الدورة زاخرة بالمعلومات وبالتّجارب. 

جاءت أستاذة (بروفيسورة) هندية، من جامعة نيودلهي حتى تُعطي للمجموعة محاضرة حول القضية الفلسطينية.

جلست البروفيسورة في صالة المحاضرات أمام وفي مواجهة الدبلوماسيين الفلسطينيين العشرة. لمدة حوالي ثلاث دقائق لم تنبس ببنت شفة. كانت سيّدة نحيلة، ربما نحيفة جدا. في عقدها الخامس أو السادس، وجهها نحيل شاحب، لكن عيناها برّاقتين متقدتين. تلبس ساريا متواضعا.

وعندما أفطرت من صمتها. قالت بصوت عميق أنها ربما تكون "مجنونة"، لأنها ستعطي محاضرة عن القضية الفلسطينية لعشرة دبلوماسيين فلسطينيين!!!

ولكن، وبصدق، وبمنتهى الصراحة، لم أسمع في حياتي محاضرة عن القضية الفلسطينية أفضل وأجود من هذه محاضرة البروفيسورة الهندية. محاضرة في غاية الإبداع والروعة والإتقان و"الحنان" تجاه شعبنا. 

علّمتنا بأننا نحن الفلسطينيون والعرب لسنا الشرق الأوسط، بل أننا غرب آسيا. وأن الشرق الأوسط ما هي إلا تسمية أطلقها علينا ونستون تشرتشل، وهو يدخّن غليونه على شرفة منزله في لندن. وقسّم المنطقة مع دخان غليونه: هذا الشرق الأوسط، وهذا الشرق الأدنى، ... وهكذا. 

وقد تمنّت علينا في آخر المحاضرة، وشجّعتنا وأوصتنا، أنّه، وفي حياتنا العملية، وفي عملنا الدبلوماسي. وإذا ما واجهنا موقف، نُخير فيه بين أن نكون دبلوماسيّتن أم فلسطينيّين. فعلينا أن نختار أن نكون فلسطينيين أولا وثانيا وثالثا، ثم بعد ذلك أن نكون دبلوماسيين.