سراب الأمل بقلم:ياسر رافع
تاريخ النشر : 2019-07-05
بقلم / ياسر رافع

وسط الصحراء الواسعة الأرجاء وتحت لهيب الشمس الحارقه والرمال الملتهبه التى تشوى الأقدام العاريه ، يمشى طابور طويل من العبيد المقيدين بالحبال الجافه تلسع ظهورهم العاريه التى لا تداريها بقايا ملابس باليه سياط النخاسين الذين يركبون الخيل تلمع سيوفهم من بين جنباتهم والكرابيج الطويله فى أيديهم يسوقون هؤلاء البوساء إلى مصيرهم المحتوم فى أسواق العبيد حيث المصير المجهول ، وسط هذا الطابور من البوساء يمشى " خالد " عبدا تبدوا عليه ملامح مختلفه عن بقية العبيد ينال من النخاسين ضعف العذاب وضربات بالكرابيج أكثر من الباقين ومع ذلك تزداد صرخاته التى تعبر عن عذاباته " أنا لست بعبد أطلقوا سراحى ، أنا حر وقومى كلهم أحرار " ، ثم ما يلبث أن ينادى " أين أنت يا حبيبتى لكم إشتقت إليك يا " أمل " ..
إستمر هذا الحال أياما وقافلة النخاسين والعبيد تزداد توغلا فى الصحراء ، وأصبح الإعياء سيد الموقف وبدأ العبيد يتساقطون ما بين الجوع والعطش والموت الذى كان مصيره وليمه جاهزه لنسور الصحراء الجائعه ، وبقى " خالد " على حاله ما بين صراخ للحريه التى فقدها وبين حبيبته " أمل " التى فارقها قسرا عندما أغار على قومه اللصوص الذين باعوه للنخاسين ، حتى قرر النخاسين فى يوم أن تأخذ القافله راحه بعد عناء يوما شاق فى الطريق ، فتم تكديس العبيد وهم مكبلين بالحبال فى مكان بين جبلين حتى لا يسهل عليهم الهرب ، وسريعا حل المساء ، وطلب النخاسين من العبيد أن يناموا حتى يصحوا باكرا ليواصلوا المسير قبل أن تلفح وجوههم نار الصحراء المحرقه .
وبينما خلد الجميع إلى النوم من تعب المسير فى الصحراء ، ظل " خالد " ساهرا يبكى ألم الحريه وفراق الأحبه ، متذكرا أيامه الخوالى قبل العبوديه ، شابا مرحا طلقا ، وكيف كان يعده أهله ليكون مثالا لكل شباب قبيلته ، متعلما ، يشهد له الجميع برجاحة عقله وذكاءه الذى يميزه عن أقرانه ، ووقوفه يوما أمام أبيه ليطلق سراح عبيده لأنه لا يقبل أن يرى إنسانا يهان أمامه . وكيف كان يراها وهى تتدلل بين رفيقاتها فى القبيله معتزة بجمالها وحسبها ونسبها ، إنها حبيبة القلب ومنية الفؤاد إنها " أمل " .
أمل أمل أمل أمل ، ظل يردد الإسم مرارا وتكرارا وكأنما مسه الجنون ، ولكنه ضحك ضحكة جعلته يهمس لنفسه كيف نسيته ؟ ثم راح فى سبات عميق حتى تباشير اليوم التالى .
سياط النخاسين توقظ قافلة العبيد معلنة أن التحرك قد حل آوانه ، ولكن فجأة قام " خالد " صارخا فى وجه النخاسين " نحن لسنا عبيدا بل أحرار ، كفوا عن ضربنا " ، فأزداد الضرب عليه ، فأزداد صراخا ولكن موجها لزملاءه البائسين " ألم يكيفيكم ذلا ومهانه ؟ أنتم أقوى منهم وأكثر عددا ؟ هيا لنقضى عليهم ونتحرر من ضربات سياطهم وآسر العبوديه المهين " . فنظر إليه البؤساء الذين لم يتعودوا على مثل هذه المواقف مستغربين متوثبين ، ولكن سياط النخاسين قطعت عليهم الإسترسال فى التفكير .
هنا قرر النخاسين أن يجعلوه مربوطا فى آخر الطابور حتى يستقيم الصف وقاموا بتكميم فمه أيضا بجانب يديه ، وصارت القافله حتى توسطت السماء الشمس المحرقه التى جفت تحتها الحلوق ، هنا سقط " خالد " مغشيا عليه فظن النخاسين أنه مات فحلوا وثاقه والكمامة حول فمه وحاولوا إفاقته ، فتمتم بكلمات ينادى فيها على محبوبته " أمل " ، فظن أحد النخاسين أنها سقرات الموت فأقترح أن تستمر القافله وتركه وحيدا يلقى مصير الموت ونسور السماء الجارحه .
وما أن تحركت قافلة العبيد البؤساء حتى فتحت عينى " خالد " المسخن الجراح المتعطش للماء وللحريه ، وبدأ فجاه يتحرك ووقف منتصبا فرحا ، فقد رأى أمامه محبوبته الجميله تناديه، وأزداد حماسة أن يذهب إليها بعدما حلت قيوده ، فمشى متثاقلا تعبا يمشى ويقع ثم يقف ويمشى ، ينادى عليها ولا يبدوا أن المسافه تسعفه ، هنا نظر أحد عبيد القافله وآشار لأحد النخاسين أن " خالد " حى يجرى فى الصحراء من خلفهم ولم يمت .
فوقفت القافله التعسه عن المسير وتشاور النخاسين سريعا فى أمر " خالد " وقرروا أنه لم يعد صالحا ولن ينجوا من الموت جوعا وعطشا ، ولكن أحدهم آشار لقتله حتى يكون عبرة لغيره .
رجع أحد النخاسين على حصانه يحمل قوسا وسهما قاصدا " خالد " الذى إقترب من لقاء محبوبته التى تناديه شوقا وطربا ، وما أن هم بالإرتماء فى أحضانها حتى سقط على الأرض بفعل سهم النخاس الذى إخترق ظهره ، فحاول أن يحبوا ويمد يده إليها وهى تمد يديها إليه وتقول " أصمد خالد فلم يعد إلا القليل ، حتى نكون سويا أحرار " ..
ولكن الدماء سالت من فمه وما زالت يده تطلب " أمل " وسقط على وجهه ، ولكنه سرعان ما قام ، ولكنه لم يجد محبوبته التى ألهمته الصبر والمقاومه وإنغراس السهام فى جسمه على أمل الحريه ، وظل يدور حول نفسه كالذبيح غير مصدق أن " أمل " كانت سرابا ، الدماء تنزف من جسمه ينظر للقافله من بعيد وهى تبتعد بعدما ربط النخاسين أعينهم لكى لا ينظروا خلفهم . هنا سقط " خالد "على ظهره يقاوم حشرجات الموت وينظر للسماء تختلط الصوره أمامه ، نسر يحوم تحت قرص الشمس ينتظر فريسه شارفت على النهايه ، وصوت " أمل " الجميل يناديه " لست سرابا يا حبيبى ، قم وتعالى نلهو ونمرح بين بساتين القبيله ، نملئ من البئر أيادينا ماءا عذبا رقراقا ، ثم تلامس شفتانا أيادينا لنشربه ، تعال تعال تعال .. "
فمد يده إليها فتلاقت اليدين ثم وقف ينظر إليها ثم إحتضنها ، ثم صعدا إلى الأعلى ، يغنيان سويا لحن الحريه الأبديه تزفهما حوريات السماء ، ووقف النسر الجائع على رأس الجسد المسجى الشاخص العينين يشيعهما بنظرات شاخصه ، ثم ينحنى فجأة ويفقأ العينين فينطفئ السراب ، ويحل الظلام .