حيٌّ في باطنِ الأرض بقلم:سارة ريان
تاريخ النشر : 2019-06-18
أتذكر ذلك اليوم ، الذي اشتريت فيه أخيرًا ملابس العيد بعد جدال مع أمي ، بين هذه ماركة مقلدة وهذا قميص أبيض يتسخ بسرعة ، وهذا بنطال لونه ليس بالجميل . . لا بأس ، المهم أنّي استطعت إقناعها واشتريت أخيرًا ما أريد . . عُدنا إلى البيت فناديت على أشقائي ، وطلبت من أخي الصغير أن يذهب وينادي رفيقنا أمجد الذي بمثابة أخ رابع لنا ، ثمَّ طلبت من أخي أنْ يُخبر أمجد بأن ينتظرنا عند زاوية الملعب الغربية ، بدّلتُ ملابسي ولبست الزي الرياضي ، وأخذتُ الكرة ثمَّ طلبتُ من أشقائي فعل ذلك أيضًا ، ثمَّ خرجنا من البيت سويّة والتقينا بأمجد . . لا أدري ، لقد شعرتُ بأنَّ أمجد حزين ، لكنه لم يكن يُظهر ذلك ، فلمّا سألته علمت بأنّ والده لم يستلم راتبه وعليه أن ينتظر إلى بعد أيام العيد حتى يتسلمه ، وبذلك لن يستطيع أمجد شراء ملابس العيد ، فأخبرته بألا يقلق فلقد اشتريت أكثر من قميص وسأعطيه واحد ، فرح أمجد بذلك كثيرًا ، ثمَّ لعبنا بالكرة إلى أن خيم الظلام على الملعب فعدنا إلى المنزل ، فطلبت منّا أمي أن نذهب لننام ، لأنه يجب علينا النهوض مبكرًا حتى نرتب المنزل فلم يبقى للعيد سوى أيام قليلة . . تلك الليلة لم نَنَمْ أصلاً فلقد بدأت الطائرات الحربية بالقصف على مدينتنا الحزينة ، أصوات انفجارات هنا وهناك . . صوت راديو جارنا أبو محمد وصل إلى غرفتنا . . المراسل يقول : لقد بدأ التصعيد على مدينتنا . . انفجرتُ بالبكاء ، فلقد كنت طفلاً صغيرًا حينها ، ثمَّ نظرت إلى ملابس العيد المُعلقة فبكيت أكثر .. فللأسف لن أستطيع لبسها ولن أستطيع الذهاب إلى الأماكن التي أحبها ، ولا أحد يعلم إن كنا سنخرج أحياء ، أو سنموت ونُدْفَن بجوار أعمامي الذين استشهدوا في الحرب الأخيرة . . كنت أنا أكبر أشقائي سنًّا ، ناديتهم واختبأنا جميعًا في ركن الغرفة ، ومع كل صوت انفجار كنا نزداد بكاءً . . ذهبت أمي لتصلي وتدعو الله ، لقد كانت أمي خائفة أيضًا ، لكنها لم تكن تظهر لنا ذلك ، حتى لا نزداد خوفًا . . مرَّ يومان على هذا الحال وأصوات الانفجارات تزداد فلقد بدأوا بالقصف بشكل عشوائي . . لا أحد يعلم مصيره ، الجميع صامتون لكن قلوبهم تبكي . . قبل العيد بليلة واحدة فقط ، أتانا خبر مؤسف لقد قصفوا منزل صديقي أمجد واستشهد هو وعائلته بأكملها ، حين سمعت ذلك الخبر ، لم أستطع أن أتوقف عن البكاء ولو لثانية واحدة ، لقد مات أمجد ، مع من سأجلس وألعب بعد الآن ! . . لقد دُفِنَ أمجد وعائلته في أول أيام العيد ، عيد حزين مرّ على مدينتي .. المفترض في أيام العيد أن يزور الأقارب بعضهم لتهنئتهم بقدوم العيد ، لكن هُنا في مدينتي الناس يزورون بعضهم لتعزئتهم . . أصوات البكاء في كل المنازل والشوارع ، في ثالث أيام العيد عاندنا أمي أنا وأشقائي ولبست قميصي الأبيض وذهبنا لنزور قبر أمجد ، فأتت غارة على المقبرة ، لقد نجونا منها بحمد الله لكن قميصي الأبيض تلطخ بدماء أخي الصغير فلقد أُصيب بشظية في ساقه . . عندما عدنا إلى حيِّنا لم نجد منزلنا . . أين منزلنا ، ثُمَّ أين أمي !!سِرتُ كالمجنون أصرخ بأعلى صوتي ، أمي أمي.. منزلنا !! إلى أن جاءني جارنا أبو محمد وأخبرني بأنَّ منزلنا قد قُصِف . . لا زالت تفاصيل تلك الأيام تلاحقني وتسري في عروقي كالدم ، مغروسة في ذاكرتي وكأنها تتكرر كل يوم كي لا أنساها . . . وأخيرًا من أنا ؟ أنا الحي في باطن الأرض.

- سارة ريان.