عناوين وأضواء من تاريخ الصحافة في تونس بقلم:د. محمود حرشاني
تاريخ النشر : 2019-06-17
عناوين وأضواء من تاريخ الصحافة في تونس بقلم:د. محمود حرشاني


عناوين واضواء من تاريخ الصحافة في تونس
جريدة الشباب لمحمود بيرم التونسي..
كيف قاومت الاستعمار بالازجال والاشعار والمقالات الساخرة

بقلم الدكتور محمود حرشاني*

- جريدة "الشباب" من أهمّ الجرائد الأسبوعية التي صدرت بالبلاد التونسية في الثلاثينات من القرن الماضي، وقد أنشأها الشاعر والصحفي محمود بيرم التونسي أثناء فترة نفيه من قبل السلطات الاستعمارية من مصر إلى تونس، بعد أن ضاق
الاستعمار به وباشعاره ذرعا وما كانت تحتوي عليه من تحريض على مقاومة المستعمر والدفاع عن كرامة المواطن المضطهد....

- ونودّ أن نشير في البداية إلى أن محمود بيرم التونسي الذي جمع في انتمائه الوطني بين الجنسيتين المصرية والتونسية، لأن والده مصري وأمه تونسية، يعد من كبار الكتاب والشعراء الذين عرفهم القرن الماضي... وقد اشتهر كشاعر وكاتب أغاني وناثر وصحفي وزجّال، وكان يميل في أشعاره إلى السخرية وتعرية الواقع...
و غنّى من أشعاره كبار المطربين امثال ل أم كلثوم وفريد الأطرش الذي غنى له رائعته الشهيرة بساط الريح.

- وانتبه النقاد والدارسون إلى أهمية أدب محمود بيرم التونسي شعرا ونثرا فراحوا يدرسونه ويسلطون عليه الأضواء، وصدرت بشأنه عديد الدراسات والمقالات الصحفية والكتب.

- ولقّب محمود بيرم التونسي بألقاب عديدة مثل شاعر الشعب والكاتب الساخر وبودلار الشرق.
- لما ضاق الاستعمار ذرعا بأشعار محمود بيرم التونسي قام بنفيه إلى فرنسا ثم إلى تونس وقد سجل يوميات نفيه في كتاب جميل يحمل عنوان "يوميات المنفى" جمع بين الصدق والطرافة في سرد الأحداث وروايتها. فهو يحدثنا في هذا الكتاب عن
مظاهر العنف والضياع والتشرد التي عاناها في فترة نفيه وخصوصا في فرنسا، والليالي الطوال التي كانت تمر عليه بدون أكل، فيلتجأ إلى شيي بصلة ليسد بها رمقه.

- وقام الاستعمار بنفي محمود بيرم التونسي مرة ثانية إلى تونس وكان ذلك في فترة الثلاثينات من القرن الماضي.

- وتعد فترة إقامته بتونس من أهم الفترات في حياته، فلم يشعر فيها بالعزلة أو الغربة ولا بأنه منفي عن وطنه فهو بين أهله وذويه،

واقترب محمود بيرم التونسي من الوسط الأدبي التونسي وخصوصا جماعة تحت السور التي تاسست في الثلاثينات وكانت اشيه بالرابطة الادبية والثقافية لعدد من كبار الكتاب والاعلاميين التونسيين مثل الهادي العبيدي وعلى الدوعاجي ومصطفى خريف ، وتعرّف إلى أبرز رجالات الفكر الأدب والشعر في ذلك الوقت واطمأنت نفسه.. ومن هنا فكر في إصدار جريدته التي اختار لها عنوان "الشباب".

- صدر من جريدة "الشباب" التي أنشأها محمود بيرم التونسي أثناء فترة نفيه واقامته بتونس عشرون عددا واستمرت تصدر بانتظام من العدد واحد إلى العدد عشرين.

- صدر العدد الأول يوم الخميس 29 أكتوبر 1936 وصدرت تحت شعار "الشباب تصدر ضاحكة، عابثة، مازحة" أي أنها اختارت النهج الفكاهي لتكون جريدة قريبة من اهتمامات الناس.

- ويبدو أن جريدة الشباب كانت تعتمد على البيع المباشر فقط، لأنها تنص في أعلى صفحاتها الأولى من اليمين، أن الاشتراكات ممنوعة، وأن ثمن النسخة الواحد هو خمسون صانتا، وكانت إدارتها بنهج سيدي بن قريصة عدد 25 تونس.

- صدرت جريدة الشباب في ثماني صفحات، وحافظت على صفحاتها الثمانية في كل أعدادها وكانت تحلي صفحاتها الأولى برسم كاريكاتوري يمثل ثلثي الصفحة، في حين تخصص عمودها الأول على اليمين للافتتاحية.

- أما بقية أركان الجريدة فتتوزع عبر الصفحات الداخلية ومن أشهر هذه الأركان، نذكر الأبطال بالريشة والقلم .يا سلاك الواحلين، وأبناء وبنات الفن ومن القراء وإليهم – ومذكرات المنفى وإعلانات مبوبة. وتودع الجريدة قراءها في صفحتها
الثامنة والأخيرة برسم كاريكاتوري آخر يحتل ثلث الصفحة وبقصة اجتماعية أو قصيدة ناقدة.

- أما اللغة التي كانت تكتب بها فصول الجريدة وأشعارها فقد كانت تجمع بين اللغتين الفصحى والعامية وكانت الجريدة تحلى كل الفصول والأخبار التي تنشرها برسوم كاريكاتورية معبرة.

- وفي ركن الأبطال بالريشة والقلم، قامت الجريدة بالتعريف بعديد الأسماء من الوسط الثقافي والفكري والسياسي حيث كانت تنشر رسما كاريكاتوريا للشخصية المقترحة مع تقديم بيانات ضافية عنها وعن نشاطها. ومن الشخصيات التي نزلت
ضيوفا على هذا الركن نذكر الادباء والكتاب والسياسيين امثال زين العابدين السنوسي والبشير الصافي ومحمد الرصاع والطاهر صفر ومحمد الورتاني والشاذلي السنوسي وغيرهم.

- لو تقرأ لنا مقتطفات مما كتبته الجريدة عن الأستاذ زين العابدين السنوسي في ركن " الأبطال بالريشة والقلم" في العدد الثاني من الجريدة.

- احتل هذا المقال نصف الصفحة الثالثة وقد كتب محرر الجريدة معرفا بزين العابدين السنوسي ما يلي :

- من عائلة فرعها في السماء، يعرفها العالم العربي بأفرادها المتكاثرين كالنجوم في مصر والأستانة وطرابلس ومراكش، وهو الأرستقراطي الوحيد الذي يشتغل بالصحافة العربية ويدير مطبعة تطبع المجلات والكتب والفواتير الخ... مل الرجل حياة الذوات، حياة الراحة والبذخ والتألق ويقتحم العمل جدير بأن نتأمله
وسينتهي تأملك للأستاذ زين العابدين السنوسي بتقديم كل ما نملكه من الاحترام والإجلال بين يديه وتحت قديمه.

- كان في استطاعته أن يكون قائدا من أكبر القياد أو موظفا من أعظم موظفي الإدارات بل كان في استطاعته إذا أراد العمل الحر أن يكون من أعظم تجار الواردات والمنتوجات الوطنية لما يملك من ثروة ضخمة. ولكن نفسه الكبيرة ابت عليه التماس الرزق من تلك الأبواب المبتذلة المفضوحة لكل طامع في جمع المال
فاختار الصحافة وهي تجارة خاسرة وسلفة بائرة وأسس مجلته العالم الأدبي وصاحبها منذ 12 عاما إلى اليوم وهو يصارعها وتصارعه وكلاهما قد فعل بصاحبه الأفاعيل ولا يريد تركه.

- ومن بين الأركان الأخرى التي كانت تصدر بجريدة الشباب ركن "رجالات تونس" وفيه تعريف بالشخصيات الوطنية ودورها في التوعية والتوجيه.

- كما نشر صاحب المجلة ومؤسسها محمود بيرم التونسي على حلقات مذكرات منفاه بفرنسا، وكانت هذه المذكرات تصدر تحت عنوان مذكرات المنفى.

- ومن الأركان الأخرى الطريفة بجريدة الشباب ركن أبناء وبنات الفن وهو ركن جمع فيه صاحبه الأخبار الفنية الجديدة ويقدمه للقراء بأسلوب ساخر..

- كما نجد بجريدة الشباب ركن يهتم بالإجابة عن أسئلة القراء المختلفة وكان ينشر تحت عنوان "من القراء وإليهم" وركن "إعلانات مبوبة".

- ما رأيك الآن لو نتصفح عددا من أعداد جريدة الشباب لنقدم فكرة ضافية عن محتوياتها.

- في العدد الأول من جريدة الشباب الذي صدر يوم الخميس 29 أكتوبر 1936، تطالعنا أولا افتتاحية العدد، وقد جاءت تحت عنوان "من الشباب إلى الشباب" وكتبها صاحبها بأسلوب ساخر طريف، يتهكم فيه على الاستعمار ونهبه لثروات البلاد
وتجويع الشعب وحرمانه من حقوقه السياسية والمدنية وقد ورد في هذه الافتتاحية بالخصوص ما يلي :

- وبعد فأضحك أيها الشباب، لأن كل شيء حولك يسير على ما يرام، بلادك تجود للعالم بأكبر محصول الزيت المبارك، وتخرج أجود أنواع التمر الشهي ومقادير هائبة من القمح الممتاز وفيها مناجم غنية بالفسفاط والرصاص والبترول ولكن آباءك وأعمامك هؤلاء يضعون أيديهم على خدودهم ويقولون والدموع تنهمر من
أعينهم، الله غالب، بلادنا فقيرة، معدنه، مجدبه، بائسة، وهم صادقون، فهذه المباني الشامخة المؤلفة من عشر طاقات ولا تخذه في الزيادة والامتداد، وهذه الفيلات الضخمة المحاطة بالحدائق الغناء، وهذه السيارات الخصوصية التي تبلغ عشرات الألوان، كل هذا جلبه الإفنرج في حقائبهم من الخارج ووضعوه فوق أرض تونس.

- ولك أيها الشباب مجلس نيابي يجعل بلادك مساوية للبلاد البرلمانية من أنقلترا إلى موناكو يمثلك في هذا المجلس نواب توفرت فيهم كل المزايا اللازمة للنواب الأكفاء كالجهل بالقراءة والكتابة والتجرد من الوطنية الصادقة والكاذبة، والاستهانة بتونس ومن عليها، وقد قاموا لك بواجبهم النيابي على أكمل وجه،
فاستطاعوا تأجيل ما عليهم من الديون وزوّجوا بناتهم وطهروا أولادهم، وعلّقوا شهاداتهم وتشرفوا بمعرفة كبار الموظفين.

- وحولك أيها الشاب متاجر ومخازن ودكاكين كلها على أساس متين ونظام حسن، فالقراج اليوم يتول إلى اسطبل أو صالة غناء، ودكان الحجام إلى حمام ودكان العطار إلى فطايري أو خضار أو مكتب عدل، وبسبب هذا التقدم المطرد والحركة الدائبة اكتسبت تونس ثقة البيوت المالية مثل الكريدي الليوني والكنتوار
ناسيونال وبنك فرنسا.

- ولك نقابات وجمعيات يدخل فيها من بناء من الناصابين الإشراف والجواسيس المخلصين، والعاطلين العباقرة، وتتمتع هذه الهيئات بنعمة الخلاف والتناحر والانشقاق لتصل بتونس إلى أوج المجد والعز كسائر التي تسير تحت الشمس.

- هذا هو محيط الذي تعيش فيه أيها الشاب، فاضحك إذا شئت سافر منه، مودعا له أقبح توديع، أو اضحك إذا شئت مبتهجا يستقبلك السعيد الذي هو أمامك والذي هو لك وحدك أضحك على كل حال.

- الإمضاء، افتتاحية العدد الأول من جريدة الشباب 29 أكتوبر 1936.

- من الأركان التي كانت جريدة الشباب تحافظ عليها في كل عدد، نشرها لقصيدة اجتماعية تحت عنوان "يا سلاك الواحلين".

- ما زال بي شوق إلى معرفة الكثير عن جريدة "الشباب" وما كانت تنشره من أخبار ومواضيع متنوعة، فيبدو من خلال ما قدمناه إلى حد الآن أن هذه الجريدة كانت الجريدة الشعبية الأولى في ذلك الوقت.

- نعم... رغم كثرة الجرائد الهزلية التي كانت تصدر في ذلك الوقت، فقد كان لجريدة الشباب خطها المميز الذي عرفت به... فهي لم تكن نسخة من الصحف الأخرى... وهذا يعود إلى أن منشأها هو في نفس الوقت شاعر وزجال وشخصيته طريفة، فهو الذي كان يكتب جل مواضيع جريدته وكان يستعين بثقافته الواسعة وخياله الخصب في كاتبة مواضيع جديدة وطريفة تنفرد بها جريدة الشباب.

- وكان كاريكاتير الصفحة الأولى واجهة يطل من خلالها صاحب الجريدة على الواقع السياسي والاجتماعي للبلاد وكان لصاحب الجريدة الجرأة في كتابة مواضيع حساسة، لا يخاف ردّة فعل المستعمر.

- كما قامت هذه الجريدة بدور وطني متميز في الدفاع عن قضية الشعب الأولى، وهو حقه في الحرية واستقلال بلاده، وهو ما عكسته رسائل التقدير لزعماء تونسيين مثل الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كتب لأسرة الجريدة مهنئا بقوله : "عزيزي بيرم رأيت جريدتك الشباب من خيرة الجرائد التي ينتفع بها الشعب التونسي فسر على بركة الله..." وكذلك الزعيم المرحوم محمود الماطري الذي كتب لأسرة الجريدة مهنئا بقوله : " إني أقرأ جريدة الشباب كل أسبوع وأعتقد أنها من أحسن الصحائف لتربية
الشعب وتثقيفه مع تسليته..."

- وقد أوردت الجريدة شهادة الزعيمين الحبيب بوقريبة ومحمود الماطري في عددها الرابع الصادر في 29 نوفمبر 1936.

- قبل أن نختم جلستنا مع جريدة الشباب لمحمود بيرم التونسي، بودّنا أن نتوقّف عند بعض الإعلانات التي كانت تنشرها هذه الجريدة : في عددها السابع نشرت جريدة الشباب هذا الإعلان :

* سيحتفل قصر الجمعيات الفرنسوية يوم الخميس 17 ديسمبر على الساعة التاسعة و45 دقيقة حيث سيغني لأول مرة المطرب الماجد الأستاذ علي الرياحي الشخصية الوحيدة الذي تفتخر به تونس في عالم الغناء، التذاكر تباع عند السيد محمد خاتم وتوجد
في شباك قصر الجمعيات الفرنسوية.


كتبه الدكتور محمود حرشاني
فصل من كتاب بعنوان مجلات افلت للكاتب