اعتذار من عمي الجزار بقلم:جهاد الدين رمضان
تاريخ النشر : 2019-06-17
اعتذار من عمي الجزار  بقلم:جهاد الدين رمضان


اعتذار من عمي الجزار

   صحيح أنني كنت في طفولتي شقياً، و لاسيما أيامي الجميلة في حارة دار شجرة زهر العنقود، حارتي القديمة في حي السكري الشعبي جنوب حلب، كذلك كان رفاقي من أولاد الحارة ، لكن معظم مقالبنا لم تتجاوز التسبب في كسر رجل "حمودة" ابن الجيران، و ذلك عندما دفعنا بعربة جارنا "أبو أمين" و هو عليها مع بعض الأولاد نزولاً باتجاه الشارع الرئيسي، و لمّا قفز من فوقها انكسرت ساقه ، أما الحيوانات التي كانت محل عنايتنا في التعذيب، فلم تتجاوز قتل بعض الذبابات و النملات و كثير من الصراصير، و رغم براعتي أنا و ابن عمي خالد - شريكي في المغامرات - في استخدام "الجطل" أو ما يسمى بالنقيفة أو الشُعب، و هو مقلاع خشبي على شكل حرف   Y يتخذ من غصن صغير لصيد العصافير، فإننا لم نتصيد به العصافير، كنا نستخدمه لرجم الأعداء من الحارات المجاورة لحارتنا، و أحياناً للانتقام من السمان "حج نجيب" أو "أبو بشير" الفوّال ، و بعض الأشرار .

في أحد الأيام طلب مني أبي – رحمه الله – أن أشتري كيلو لحمة "راس العصفور" من عند القصاب "أبو علاء" و كيلو كباب للشواء، استغربت طلب أبي ذلك اليوم – أول مرة اشتري فيها لحمة رأس العصفور – و قلت له :

• لماذا لحمة رأس العصفور فقط؟ و لماذا لا تكون لحم العصفور بأكمله؟ و هل تباع رؤوس العصافير مفصولة عن بدنها؟

قاطعني أبي و زجرني قائلاً :

• بلا كثرة أسئلة و فزلكة ، روح قل للقصاب مثل ما قلت لك تماماً و هو يعرف شغله.

أعطاني عشرة ورقات (ليرات) و قال لي :

• قل له أيضاً أن يعطيك شوية دهنة للشوي مع لحمة راس العصفور ، هيا خذ النقود و انصرف من وجهي.

أخذت النقود  منه و خرجت من الدار كالذاهب إلى النار، تباطأت في طريقي إلى محل العم ابي علاء (الجزار) و أنا أهجس بقصة العصافير و رؤوسها المقطوعة، قلت في نفسي : هل يكون ابن جيرانه "مصطفى" الشقي هو  من  يزوده برؤوس العصافير بعد أن يتصيدها بشِعبه الخطير؟ فقد شاهدته و معظم أولاد الحارة و قد ربط قطة مسكينة من رقبتها بحبلٍ طويل، و أخذ يلولح بها في الهواء على شكل دوائر تتسع و تكبر و ترتفع حتى زهقت روحها و انفصل جسدها عن رقبتها، قلت ربما يفعل بالعصافير مثل ما فعل بالقطة ! يقطع رؤوس العصافير، و يعطيها لجارهم أبي علاء الذي أيقنت أنه فعلاً "جزار" كما علمونا في المدرسة، و ليس "قصّاباً" كما نسميه في الحي ، و "الجزار" أبو علاء يبيعها لغريبي الأطوار مثل أبي "أبو ضياء" ..

دخلت إلى محل القصاب الجزار، و سلمت عليه بخوف و حذر ، و قلت له حرفياً ما قاله لي أبي، مع تحياته و السلام و العشر ليرات ، تناول العم أبو علاء – رحمه الله - مني النقود، و سألني :

• هل اللحمة للطبخ أم للشواء؟ و هل أفرمها قطعاً صغيرة كطلبكم المعتاد على "سيخ المعاش" ناعمة جداً، أم أقطعها قطعاً كبيرة بالسكين الصغيرة دون فرم على الدفّ ؟ 

• و الله ما بعرف يا عمي أبو علاء، بابا قال لي جيب كيلو كباب و كيلو راس العصفور و شوية دهنة للشوي مع رؤوس العصافير، و قال لي أن أقول لك ذلك و أنت تعرف شغلك. 

• طيب يا ابني روح اسأل أباك هل اللحمة الكباب للشوي أم للطبخ ريثما أجهز لك لحمة راس العصفور. 

حملت حالي و رجعت للبيت، و قطعت الطريق من رأس الحارة حتى منتصفها بأكثر من خمس دقائق، و هي لا تكلفني أكثر من دقيقة واحدة إذا ما  مشيتها بأقل من مهلي، كل هذا بسبب انشغال تفكيري بمجزرة العصافير، فقد شاهدت العم أبا علاء يذبح الخراف في وقفة عيد الأضحى المبارك، و رأيته كيف يحتفظ بالرؤوس و الأحشاء و المقادم و أحياناً الجلد بصوفه لنفسه كأجر الذبح، و خطر في بالي بأنه هو من يذبح العصافير التي يزوده بها ابن  جيرانه مصطفى الشرير، فيعطيه لحم أجساد العصافير، و يحتفظ  برؤوسها لنفسه كأجور كما يفعل حين يذبح الخراف للناس قبيل العيد ، وما طلب مني أن أعود إلى أبي وأسأله هذا السؤال إلا كي يبعدني عن مسرح الجريمة ، فلا أكشف هذا اللغز الذي يحيكه مع مصطفى الشرير! و لسوف يفعل ذلك لا محالة في غيابي، و هذا ما عزز اقتناعي بفكرة "الجزار" بدلاً من القصاب، فقتل العصافير و ذبحها للانتفاع برؤوسها هو حقاً مجزرة حقيقية و ليس مسرحية ، و من يفعل ذلك هو جزار حقيقي بكل معاني الإجرام . 

دخلت البيت و أنا أنظر إلى أبي نظرة إدانة و لوم غاضب ، كيف يستسيغ شيّ و أكل رؤوس العصافير المغردة بأجمل الألحان لإسكات زقزقة عصافير بطنه الجائعة ؟ نظرت في الأرض بأسى، و لم أرفع وجهي بمواجهته لخجلي من تصرفه المشين، و فوق هذا اختارني أنا لأكون رسوله إلى شريكه في الجريمة "أبو علاء" الجزار؟.. قلت له و أنا مطرق الرأس :

• أبو علاء يسلم عليك و يقول هل لحمة الكباب للطبخ أم للشوي؟ و هل تريدها ناعمة بدون دهن كالعادة، أم يجعلها مدهنة قليلاً و مناسبة للشيّ ؟

• أما قلت لك اللحمة للشوي؟ 

• اي نعم قلت لي لحمة راس العصفور مع قليل من الدهنة للشوي، و الكباب ما قلت لي لماذا هو، للطبخ أم للشوي مع الدهنة و رؤوس العصافير؟ 

• لك يا غشيم اللحمة كلها للشوي، و اسأل عمك القصاب أبا علاء إذا بقيان عنده "موزات" خلّهِ يعطيك بباقي العشر ليرات منها، و سلم لي عليه. 

• لكن يا بابا القصاب ما عنده موز، لا يكون قصدك اشتري الموزات من عند جاره الخضرجي "العجلة" الذي يبيع كل أنواع الفاكهة و الخضار؟ هذا البياع تجد عنده حتى البندورة عندما تختفي من سوق الخضار، فقد رأيت الموز و البندورة على بسطة العجلة قدام محل القصاب، لا في محل القصاب يا أبي . 

عندما سمع أبي مني هذا الجواب، ضحك من كل قلبه رغم عبوسه و غضبه الذي استقبلني به لدى عودتي بدون اللحم، و فهم أبي أن بيني و بينه سوء فهم واضح ، و فهم أنني ظننت موزات اللحم على أنها أصابع  فاكهة الموز المعروفة، و أنني فهمت لحمة راس العصفور على أنها رأس العصفور الطائر المغرد بذاته، و ليس مجرد اصطلاح في علم القصابة. 

مسح أبي دموعه التي سالت من كثرة الضحك، و قال لي و هو يغالب معاودة نوبة الضحك :

• لك يا ابني، يا روح قلبي، الموزات لحمة "هبرة" خالية من الدهن تكون على شكل أصابع الموز في عضلات الخروف، و راس العصفور لحمة مفرومة قطعاً  صغيرة بحجم رأس العصفور، و هي اللحمة "الشِقَف" التي تُشوى مع الدهن و البصل و البندورة إلى جانب الكباب ، روح ارجع لعند عمك أبي علاء و اطلب منه ما قلته لك، و شوف بعينك لحمة الموزات و راس العصفور. 

ابتسمت و أنا أرفع وجهي للنظر في وجه أبي بسرور طافح ، و بمزيد من الرضا و الحبور قلت له و أنا أخرج من البيت :

• تكرم يا أبي يا طيب يا حنون، دقائق و أعود بالمطلوب. 

وخرجت فرحاً مسروراً بعد أن زال الشكّ من عقلي حول ذبح العصافير و قطع رؤوسها و بيعها للناس الشواذ كما توهمت، و كم زاد فرحي و سروري عندما رأيت العم أبا علاء قد جهز لي كيلو لحمة من الهبر الذي يخالطه القليل من الدهن، على شكل حبات بحجم رأس العصفور، قائلاً لي :

• هي لحمة الشقف على قدّ راس العصفور كما طلبت ، ايش بدك بعد؟ 

...................................................................... 

   يا الله كم فرحت باكتشافي أن مجزرة العصافير مجرد وهم و خيال ، و أيقنت براءة المتهمين فيها من مصطفى ابن الجيران، مروراً بأبي علاء القصاب، و انتهاءً بأبي ضياء والدي الحبيب.. و كم خجلت من سوء ظني بجارنا القصاب أبي علاء، و إطلاقي تسمية الجزار عليه ، و عرفت بعدها أن الجزارة و لقب الجزار لا يليق به رغم ذبحه للخراف ، فهذه مهنته التي تزودنا بلحوم الحيوانات اللذيذة المرخص ذبحها بأمر الرب، و ليست قتلاً للإنسان بغير حق و لو زعموا العكس ، إنها مهنة "أبو حسين الجزار" الأديب الشاعر الذي قال :

لا تلمني يا سيدي شرف     الدين إذا ما رأيتني قصّابا 

  كيف لا أشكر الجزارة ما     عشت حفاظاً و أرفض الآدابا 

                     و بها أضحتْ الكلاب ترجوني     و بالشعر كنت أرجو الكلابا *

   نعم إنها لمهنة أشرف من مهن بعض الناس الذين يتخذون ألقاباً و أسماءاً براقة توحي بالإنسانية و اللطف و العطف، لكنهم جزارين مجرمين بالفعل، عرفت كثيراً منهم و أنا في هذا العمر، و اكتشفت أن كل المجازر التي ارتكبها عمي "أبو علاء" بحق النعاج و الخراف، لا تشكل نقطة في بحر مجازر أولئك الناس، الذين يبتسمون و يقهقهون و هم يذبحون أطفال بلادي على مرأى العالم المخصي الأصمّ ، و لعمي أبي علاء "الجزار" أُدين بالإعتذار ، و كل الاحترام . 

جهاد الدين رمضان 

        في فيينا ١٤ حزيران ٢٠١٩ 

*أبو الحسين الجزار شاعر و أديب معروف، اتخذ الجزارة مهنة يتكسب منها بدل الشعر، عاش في أواخر الدولة الأيوبية ، في عصر حاكم دمشق شرف الدين عيسى بن سيف الدين أحمد، و الأبيات المذكورة في النص قالها في معرض رده على لوم الحاكم شرف الدين ( و هو أديب يقرض الشعر و له كتاب في العروض) له لأنه هجر الشعر و تحول للقصابة .