حياة بائسة بقلم: مهند كمال باكير
تاريخ النشر : 2019-06-15
حياة بائسة

جنون الدنيا التي تأخذ معها حياةٍ عامرة ذات جسد ينبض ببهجة وحيوية، فيموت الجسد ومعه كل معاني الرحمة .. انها والدة الفتاتين رحلت الى ديار الحق مخلفة ورائها يتيمتين بلا قربى تكفلهما ...

سارة وايناس فتاتان في مقتبل العشرينيات وان كانت الاولى تكبر الاخرى بعام وبضعة اشهر .. تنطق ملامحهما بذلك الوهج الشاب ويفيض جسديهما بنتوء الصحة والجمال .

بلا مال ولا حتى أقارب، وإن كانتَا فى الحياة مازالتا تتنفسان وكان قد مات ضمير من يجب عليه كفلهما، فسرعان ما أعدتا العدة وطلبتا الرحال إلى شقةٍ كان المرحوم الوالد قد اشتراها فى السادس من أكتوبر واستقر بهما المقام فى تلك الشقة، وفى غمرة البحث عن حياة جديدة وجدت "ايناس" عملا بأحد المحلات التجارية والأخرى عملت فى إحدى المحطات الفضائية ومالبثت الحياة أن أخذت مجراها الطبيعى لايشوبها جديد سوى نظرات الناس التى بدأت تحوم حولهما كذئاب جائعة ونظرات مسمومة ترتاح على ظهريهما فى رواحهما للعمل وغداتهما منه إلا أن ذلك لم يكن بالأمر الشديد والقاسى فقد تعودتا لطمات الدنيا فجلدتا على أثرها وانطلق العمر يجر فى سنينه جرا والفتاتين فى ذلك قد صقلتهما مواطن الضعف فى نفوس الغرباء غير الحاجة لكل شىء إن كان مالاً أو أماناً أو حتى رحمةٍ.

في اثناء جلوسهما وسط الشقة قالت "سارة" في انشراح منكفىء على لون وجهها البض :

- انا احب يا ايناس !

أطاحت الكلمة بهدوء "ايناس" التى كانت تملك عقلا راجحا ورثته عن والدتها وقالت بهدوء لا يناسب ما يتأجج بصدرها من خوف وقلق فردت قائلة :

-  ومن هو !؟ .

-  زميل لى فى المحطة يدعى "نوفل" وستحبينه فهو طيب وكريم ويعاملنى بصدق .

-  وما كل هذه الثقة التى تولينها له ؟

-  عرفته عاماً كاملاً ولم أر منه سوى كل خير .

-  ألم يحدثك فيما يخص الزواج أوشىء من هذا !!

-  بلى ولهذا أقول لكِ.. ما رأيك ؟

صمتت تتأمل هنيهة تحدث نفسها ( آه منك يا دنيا... أَخَيْراً تخبئين أم شراً كعادتك ؟ ) وقالت بغمغمة مسموعة : أخاف عليك يا سارة فنحن ضعفاء وكما تعرفين وليس لنا أحد حتى جيراننا يستعفون منا ككلاب .

بحماس مشوب بأسى بدا جليا بصوتها ردّت سارة :

-  لا تخشين عليّ ياعزيزتي سترينه ومافيه الخير يكون .

كان لقاء "ايناس" و "نوفل" كلقاء الكبار لا يشوبه كدرٍ سوى مزاح سارة التى تمتلىء حيوية وبهجة لم تكسرها الأيام ولطماتها ووجدت فيه الاخت الكبرى شاباً كريما تنطق سريرته بالصدق وروت له ظروفها هى وأختها ولم تدهش حين علمت أنه يتيما مثلهما لم يعهد للحنان طعما فى حياته القصيرة وعرفت سر قبوله لوضعهما شبه الشاذ .. خطبا نوفل وسارة بعضهما وكانت ليلة رائعة ترتسم فيها الفرحة دموعا وطمأنينة لم تعهدها الفتاتين منذ زمنا ليس بالقليل .

                         ***

السماء تنذر بغضب فى ليلة شتوية قد تراكمت فيها الغيوم واختفى القمر ولم يعد ثمة سائر فى تلك الظلمة سوى شبحين أحدهما لشاب والآخر لفتاة ولم يكونا سوى سارة وخطيبها الذى ودعها عند باب العمارة وتركها عائدا لحاله وهناك من بعيد لاح أربعة شباب قد اتخذوا من الأرض مجلسا وصفت أمامهم زجاجات الخمر وفى أيديهم تنفث دخانها الأزرق سجائر الحشيش، تتهادى ضحكاتهم وسبابهم الفاجر ولم يزالوا على حالهم حتى مر أمامهم الشاب الذى مر منذ قليل مع فتاة يعرف أحدهم أنها تسكن واختها بمفرديهما ودون اتفاق تناقلت الأعين إشارة ما ونهضوا من موضعهم ومضوا الى العمارة فدخلوا الشقة عنوة ولم تكد تراهم سارة حتى ارتفع صراخها لولا أن امتدت يد وكتمت فاها وخرجت ايناس من غرفتها على أثر الصرخة المكتومة فانقض عليها الشباب وحدث ماحدث .

خوف وهلع من أن تعرف الجريمة التى ينطق جسدى الفتاتين الصامتتين ودماء وسحجات زرقاء أو سوداء وشواهد أكثر وهروب الشباب الى الخارج مشاهد لن تنسى كغمامة سوداء قد سطرت بالدموع فى القلب .

وهذا مشهد آخر يقف فيه نوفل أمام خطيبته الى تعطيه خاتم الخطوبة و مشهد آخر لها وهى تقدم استقالتها ولا سبب معروف، ومشهد آخر لإيناس وهى تدخل على أختها غرفتها وتراها مسجاة على الأرض جثة هامدة ومشهد أخير لقصاصة من جريدةٍ ما تطير فى الهواء وتبدأ فى التهاوي لتستقر على الأرض .. وقد لاح فيها خبرا له عنوان 

" انتحار فتاتين فى شقتهما بالسادس من أكتوبر ".