الموجوعون.. وأطباء القبيلة بقلم:د. محمود عبد المجيد عساف
تاريخ النشر : 2019-06-15
الموجوعون.. وأطباء القبيلة بقلم:د. محمود عبد المجيد عساف


الموجوعون...... وأطباء القبيلة
بقلم د. محمود عبد المجيد عساف

عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين

بعيداً عن التبلد الذي ينتاب كل ما فينا وما حولنا، وحالات البؤس التي وصلت إلى أوج صورها والأحلام التي اهترئت، بل ماتت في عيوننا، ونزيف العقول التي تموت خلاياها كل ساعة، وتناقضات البرامج السياسية بين الحكومة والأحزاب، وبين مصلحة الوطن ومصلحة المواطن، وبين إدعاء القيم، وشيطنة الأفعال من وجوه تغني للحب وهي أصل الحقد والكره، يبقى الإنسان يبحث عن كرامته، يعاني القهر ويدعي الصبر ثم يموت مبتسماً .

وبعيداً عن قضم الحقوق، والتفاهات المشهورة، عن تزوير الوعي وتشويه صورة الواقع لتحقيق  مصالح شخصية، لا أعتقد أنه فينا أو بينا من لم يتأثر سلبياً بنسب متفاوتة وصلت إلى حد الفناء في مستوى الخدمات الصحية، رغم كل محاولات الصمود، ومقاومة كل مسببات الموت، الأمر الذي دفع البعض إلى الجرأة في الاعتداء على الكوادر الطبية العاملة في المجال الصحي، بفرض أو بنية أن يأخذ حقه بيده بعدما عانى من التقصير ما عانى .

فمن المنظور الاجتماعي، يعد الأمر الذي تطور إلى ظاهرة له أسبابه، لكن أصوله قيمية مرتبطة بالأخلاق ومراعاة الضمير سواء من طرف ذوي المريض أو الكادر الطبي الذي حلف القسم على خدمة الوطن والمواطن، ولعل من هذه الأسباب على سبيل المثال لا الحصر :

1-  تكدس ذوي المريض معه في المستشفى مهما كانت حالته، وجهلهم بحقيقة العمل الطبي خاصة في أقسام الطوارئ، فقد يظنون وهم في كامل الفوضى أن هناك خللاً طبياً يحدث وهو غير موجود .

2-  قلة الخبرة من قبل الكادر الطبي في التعامل مع المواقف الحرجة، أو نقص العدد منهم مما قد يربك العمل، ويحمل الطبيب أو الممرض أكثر من طاقته ويؤثر على دافعيته للعمل.

3-  قلة وعي الجمهور في التعامل إعلامياً مع الحالات التي قد يحدث فيها اعتداء من حيث التفخيم، وتعدد الروايات وعدم تحري الدقة، الأمر الذي يؤثر على ثقة الناس بالكوادر الطبية، ويسيء إلى السمعة المحلية، إضافة إلى تراجع دور المثقفين في تأصيل الوعي بعيداً عن تأثيرات الشارع حول الموضوع .

وبعيداً عن تحليل الأسباب، والمبررات لمثل هذه الظاهرة فلا أعتقد أن هناك عاقل يختلف على سمو وإنسانية المهن الطبية، ولا يوجد من يحرم الاعتداء على الكوادر الطبية المخلصة، فالأمر وإن كان  يعتريه  نوع من اللامبالاة أو التقصير القسري، فهو يتنافى مع القيم والأخلاق مهما كان نوع الاعتداء (لفظياً- جسدياً -... وغيره).

ومهما كانت مبررات كتابتي لهذا المقال، فإن السؤال الذي لا يغادر جمجمتي، هو: لماذا لا تتم هذه الاعتداءات في معظمها إلا في مستشفيات القطاع العام؟ ولست هنا بصدد ذكر الأحداث والإحصاءات حولها في فلسطين أو الدول العربية، والتي تزايدت في الفترات الأخيرة، إلى الحد الذي اشترك فيها أفراد الأمن، لكني أعتقد أن الأمر مرتبط بظاهرة الاستقواء من قبل المواطن، أو الاستهتار من بعض الكوادر الطبية بمستوى الخدمة الواجب تقديمها للمواطن لأنها شبه مجانية.

 ومن الناحية القانونية، فصحيح أن أغلب القوانين تجرم الاعتداء على الطواقم الطبية، وتعتبره التشريعات جنحة اعتداء على موظف عام يعاقب عليها كحد أقصى بالحبس (3 سنوات)، إلا أن معظم الفقهاء ينادون بتغليظ العقوبة  أسوة بالقوانين الأوروبية والخليجية، ففي استراليا مثلاً قد تمد العقوبة إلى (14سنة)، وفي السعودية قد تصل إلى (10) سنوات مع غرامة قد تصل إلى مليون ريال، لكني أرى أن الأولى من المناداة بذلك هو تعزيز وعي الجمهور بحساسية العمل الطبي وتعظيم المساءلة القانونية حول التقصير الطبي، وتحسين الخدمات المقدمة لتوازي حجم الانتهاك أو الاعتداء.

        ويؤسفني جداً القول أن ما يحدث هو نتاج الفساد الذي ينادي أنصاره بالمحافظة على النسيج الوطني والصمود، ذلك الفساد المرتبط بسوء استثمار العنصر البشري أو حتى الاهتمام به، الفساد الذي يقدم خدمة المسؤول وتفخيم شأنه على حساب صحة السواد الأعظم من المستضعفين، وإن كان من مخلص، فيجب العمل على تجنيب الخدمات الطبية أية خلافات سياسية أو تجاذبات حزبية، وعدم المساس برواتب الموظفين العاملين في القطاع الصحي، بل وصرف لهم مكافآت على سبيل بدل المخاطرة، لتكون الدافعية نحو العمل غير منقوصة، ويحمل فيها المقصر وزر ما قصر، وإلحاق الكوادر الطبية العاملة في أقسام الطوارئ بدورات تدريبية تعزز مهاراتهم في التعامل مع حالات الاعتداء المفاجئ، ورفع مستوى الوعي الجماهيري بحساسية العمل الطبي من خلال تنظيم العمل الصحي وفق الاختصاص بعيداً على الواسطة والمحسوبية، وإلزام الأجهزة الأمنية بالتعامل مع الشكاوي بصورتها القانونية بعيداً عن الطبطبة والتطبيل لعمرو على حساب زيد .