لا أدري حقاً كيف أرثيك يا عبد الأمير الأعسم بقلم:أ.د.عبد الكاظم العبودي
تاريخ النشر : 2019-06-12
لا أدري حقاً كيف أرثيك يا عبد الأمير الأعسم بقلم:أ.د.عبد الكاظم العبودي


لا أدري حقاً كيف أرثيك يا عبد الأمير الأعسم 

ا.د. عبد الكاظم العبودي

الجميع سيذكر اليوم جملتنا العتيدة بحق كل من نحبهم، وحين لا نطيق الافتراق عنهم مكتفين بالقول :  [ وداعا]،  وهو اعتراف لا مناص من  الإقرار به ، كقدر مكتوب بحكمة الخالق وقراره، وهو إلزام بما نؤمن به ( إنا لله وإنا إليه راجعون) . 

هكذا قدر العراق والعراقيين، وهم في الشتات والمنافي، يسقطون كالشهب في أقاصي الكون القريب أو البعيد، وهم يتركون وميض الخلد في ذاكرة النسيان المظلمة المتكدسة، كالثقب الأسود، حيث الأجل الذي تتركز فيه كثافة الحكمة والوجود وعوالم أخرى من أطياف الأنوار في سماء الوجود والمعاني للحياة .

 حقا بتنا نخاف اليوم والغد، وبرعب يتصاعد، ونحن نعيش قلق المصير في مجاهل ذاكرتنا القريبة والبعيدة ، ونحن على يقين من أننا سوف لن نعوض هؤلاء النوابغ الراحلين تباعا الى جوار ربهم بأقران لهم او بكل ما هو متشابه لهم، أو حتى تلاميذ نجباء يعوضونهم.

كيف نقول لعبد الأمير الاسم اليوم [وداعا]، ونمشي في متاهاتنا غير آبهين أين سقط الليلة منا نيزك او شهاب على امتداد أديم أرضنا، وفي هذا الكون المتسع لغربتنا بحراك المجرة الهوجاء.

سنذهب الليلة إلى جوجول والموسوعات نستذكرها بفقيد جديد منا، فلعلها تجيب لنا باختصار التعريف بأمثال عبد الأمير الأعسم. هل نكتفي بما اختصرت عنك محركات البحث في جوجول وفي الويكيبيديا العربية والأجنبية لندونه في مجلس الفاتحة على روحك الطاهرة ؟.

هل نعود نستذكر ما ظل راسخا في قراءاتنا لك، وأنت الحاضر دائما بيننا وفي صدارة مراجعنا العلمية والفكرية، حيث نجدك وراء مدرسة موسوعية عراقية متميزة بعطائها بكل تلاوين المعرفة والعلم والبحث والتفرد، هناك يتيه بها المؤرخون والفلاسفة والمحققون العلميون، سواء في التراث والفلسفة والتاريخ العميق القارئ حتى لنقوش الحجر ورقيم الطين العراقي  وفي سبر الحضارات العراقية والإنسانية البعيدة.

قدري أني سمعت عنك مبكرا، عندما كنت أدرس في إعدادية الكاظمية للبنين قبل منتصف سنوات الستينيات من القرن الماضي، جيلك كان يسبقنا،  وحينها علمت انك والعلامة الكبير رائد علم الاجتماع الخلدوني الحديث في العراق الدكتور علي الوردي وآخرون من الأعلام العراقيين من مواليد تلك المدينة العريقة ، وبعد تخرجنا من جامعة بغداد من قسم الفيزياء بكلية التربية الذي كانت يجاور قسم الفلسفة لكلية الآداب، كان لنا إخوة وزملاء يدعوننا للحضور إلى قسمهم للتعرف على أستاذهم  المتميز عبد الأمير الأعسم. 

ربما تختصرك اليوم الكتابات المفجوعة بخبر رحيلك إلى جوار ربك وقد يهرع كتاب المراثي وحتى الاصدقاء والطلبة والزملاء الى موسوعات محركات البحث في جوجول وغيرها ليلتقطوا شيئا يسعفهم للتعريف بك،  وهم على لهاث  بنقل سرعة نبأ رحيلك،  فينقلون لنا  بعضا من سيرتك العلمية وسيقولون  بانكم : ( ...  مؤرخ وفيلسوف عراقي ، ولد في الكاظمية عام1940 وأكمل دراسته الجامعية الأولية في جامعة بغداد ،ونال شهادة الماجستير من قسم الدراسات الفلسفية بجامعة الإسكندرية، وحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كامبريدج في بريطانيا عام 1972  تحت إشراف المستشرق الشهير " آرثر جون آربري" [ رئيس قسم الدراسات الشرقية في الجامعة المذكورة] )  .

ومما سيذكرون أيضا من عناوين كتبك، سيكون قليل التعداد،  قياسا إلى ذلك الكم الهائل المنثور والمنشور بين ثنايا المجلات العلمية الرصينة والأبحاث المتخصصة أو في تلك المحاضرات العلمية والمداخلات القيمة التي لا حصر لها، والتي ربما لم تصل بعد إلى جمع كل تراثك العلمي ولكتابة كامل سيرتك العلمية ، فاختصر البحث السريع ، بتوصيفكم بفيلسوف ومؤرخ وحتى محقق في التراث .

ما يؤسفني حقا إني لم اقرأ كل مؤلفاتك، بسبب بعدي واغترابي قرابة نصف قرن، ولكن وصل لي منها، وأعجبت يومها بها ولا أزال،  أيما إعجاب بكتابتكم الرائدة حول تاريخ الفكر السياسي في العراق القديم  الذي وصلني من رصيف شارع المتنبي صدفة، بجزأين ، خلال تحضيري لرسالة الدكتوراه في فلسفة الاخلاق بجامعة وهران 2011،  أيقنت من خلاله إن الحضارة العراقية الرائدة لم تكن حضارة حجر أو طين او مجرد اكتشاف لحرف مسماري أو نقوش الواحة ورسوم في كتابة تدوينية تركها الأقدمون؛ بل كانت حضارة إنسانية سامية فعلا، تختلج  وتتفاعل بالفكر الإنساني وتصيغه بدقة وتكتبه للعالم ، وبما تركته وراءها من علوم فلسفية وحياتية عميقة الجذور في كافة مناحي الحياة ، كان عبد الأمير الأعسم يعرف كيف يستخرج مكامن التفكير العراقي والإنساني ويترجمه ويعيد صياغته نقلا وتفاعلا معاصرا مع تلك العصور الغابرة والمنسية .

وفي كل إصدار لعبد الأمير الأعسم، كان له صداه،  وان قلنا لك الليلة [وداعا]  سيعود الصدى حقيقة تذكرنا بك دائما وأبدا، فأنت ممن كتب :  (الصلة بين التصوف والتشيع)، والذي ترجم إلى الإنكليزية والتركية والفارسية و(كتاب الحب العذري)، و(صفحات مكثفة من تاريخ التصوف) و(البهلول الكوفي سيد عقلاء المجانين) و ( رباعيات الخيام) باللهجات العامية العربية), و( العجلي العضلي)، أول مظلي في التاريخ و( ديوان القومة وديوان الدوبيت)،  الذي نال جوائز عالمية وعربية و ( الفكر الشيعي والنزعات الصوفية ) وحققت  رواية (  دون كيخوت)  و( ديوان الحلاج) و( كتاب الطواسين) , وحققت كذلك ( ديوان الكان وكان)  و( ديوان الشبلي البغدادي), وعلى أثر هذه التحقيقات لقب الشبلي بعاشق المهمشين في التاريخ.وهو القائل:

لو ان العالم من يسمع   //// كم نادت الدنيا على اهلها

وجامع فرقت ما ما يجمع///  كم واثق بالعمر واريته

وقد جمعت وحققت ( ديوان الحلاج ) لتصدر طبعته الأولى في بغداد 1974  ثم أعقبت ذلك بشرح لديوان الحلاج (دراسة ونصوص محققة وشرح) ، صدر في بيروت العام نفسه، وفي العام 1984 أصدرت الطبعة الثانية من (ديوان الحلاج). وكانت تلك الطبعة مميزة بخط الحاج يحيى سلوم العباسي ورسوم الفنان المتصوف شاكر حسن آل سعيد وتخطيطات الفنان ضياء العزاوي الذي رسم غلاف الديوان). وكان قد صدر لك أيضا في العام 1977 كتاب (الحلاج موضوعا للآداب والفنون العربية والشرقية قديما وحديثا....دراسة ونصوص محققة ورسوم).

كان كتابك (الصلة بين التصوف والتشيع)  لنيل درجة الماجستير في الآداب بدرجة جيد جدا من قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية في آب 1958،وأنجزت الطبعة الأولى من هذا الكتاب (في ثلاثة أجزاء) وصدرت في بغداد على التوالي 1963، 1964، 1966 ثم صدرت الطبعة الثانية (في جزأين) طبعا في القاهرة وبغداد، وصدرت الطبعة الثالثة والأخيرة (في جزأين) بيروت 1982 ضم الجزء الأول (العناصر الشيعية في التصوف) والثاني (النزعات الصوفية في التشيع) وهذه الطبعة كانت مراجعة ومزيدة وملحق بها كتاب (الفكر الشيعي والنزعات الصوفية حتى مطلع القرن الثاني عشر الهجري) الذي كان قد صدر ببغداد 1966. . وترجم الكتاب عام 1975 إلى الفارسية ترجمة ملخصة بقلم الدكتور علي أكبر شهابي الأستاذ في جامعتي طهران ومشهد. 

وأيضا إهدائه لديوان الحلاج إلى والده وكتاب الصلة إلى أستاذه النشار ( ديوان فن القوما) في الشعر الشعبي العربي القديم الصادر في بغداد 2000 وهو من سلسلة خزانة الفنون الشعرية ومن كتبه الأخرى (الطريقة الصوفية ورواسبها في العراق) بغداد 1967 و(الحب العذري ومقوماته الفكرية والدينية حتى أواخر العصر الأموي)بيروت 1997 و (نشأة التصوف الإسلامي) بيروت 1997، كما حقق وجمع العديد من الدواوين الشعرية منها (ديوان أبي بكر ألشبلي)  بغداد 1967 و (ديوان الفلك المحملة بأصداف بحر السلسلة) بغداد 1977. و(ديوان الدو بيت في الشعر العربي في عشرة قرون) وهو من منشورات الجامعة الليبية 1972  . أما ما صدر له فهو كتاب في موضوعه وشخصيته عنوانه ( البهلول بن عمرو الكوفي .. رائد عقلاء المجانين) الذي صدر عن المكتبة العصرية في شارع المتنبي ببغداد عام 2004..

 وما سيجده القارئ من كتبك على معظم رفوف المكتبات العربية في مشرق ومغرب الوطن العربي وعلى الانترنيت ،  مراجع قيمة مثل ( تاريخ ابن الريوندي الملحد) و( أبو حيان التوحيدي..كتاب المقابسات تحقيق وضبط عبد الأمير الأعسم ) و ( مقاربات فلسفية في تشريح العقل عند العرب) و ( الفيلسوف الغزالي: إعادة تقويم لمنحنى تطوره الروحي) و ( رسائل منطقية للفلاسفة العرب) و( ابن رشد وفلسفته بين التراث والمعاصرة) و( المصطلح الفلسفي عند العرب) و (مكانة العقل في الفكر العربي).

ولعلني لا أضيف الليلة اكثر مما اوجز به علماء وكتاب العراق الأفاضل ، ممن سارعوا بتقديم عبارات وداعكم الأليم اليوم الثلاثاء 11 حزيران/ جوان،2019  وخاصة ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الستار الراوي، وما تسعفنا به الويكيبيديا العربية والدولية المختصرة بحقك،  ولكن استأذنا عبد الستار الراوي،حفظه الله وأطال بعمره،  وبحكم تواصله ومعرفته الأقرب من غيره مع عبد الأمير الأعسم، اوجز رثاءه بمقالة اليوم وباقتدار القول:




(...   الدكتور عبد الامير الأعسم نال الدكتوراه من جامعة كمبردج ، انتظم أستاذاً في قسم الفلسفة بجامعة بغداد العام 1972، أصدر جملة مؤلفات بلغت أكثر من ثلاثين كتابا وأنجز عشرات الأبحاث والدراسات ، وتقلد العديد من الوظائف الأكاديمية والإدارية . كتب عنه حميد المطبعي و الدكتور علي الجابري والدكتور حسن مجيد العبيدي، والدكتورة نضلة الجبوري وكاتب السطور. إنه باحث فلسفي ومحقق من طراز متقدم، وبرغم انشغاله بقضايا التراث ، فإن ثمة رؤى فلسفية عرض من خلالها رأياً في العديد من الإشكاليات التراثية والمعاصرة. في العام 1995 كنت أعد بحثاً تحت عنوان (خارطة الفكر الفلسفي في العراق)، تحدثت فيه عن أساتذتي وعن الزملاء في قسم الفلسفة بجامعة بغداد ووجدت لدى الأعسم حلماً عربياً، يعرض فيه مرئياته، عبر جملة من المبتدئات الأيديولوجية والفلسفية، كثف فيها القول عن (العقل والسلطة) لينتهي إلى مشروع تحت عنوان (عقلانية الخطاب العربي المعاصر)، سعى من خلاله، أولاً، إلى توكيد التنوير الثقافي عن طريق الكشف عن إشكال الوعي الزائف القائمة في الواقع العربي المعاصر، وفي مقدمتها دوجماتيات التعصب الفكرية). 

( إن عقلانية الأعسم تنبع من تصورات العقل وسلطويات الحياة المختلفة، الإنسان والقيم، والإيمان بالعقل مع مسحة متشائمة بسبب ارتيابه من النشاطات المغتربة، الناشئة عن تصادم مقولات الحرية والاستبداد والتقدمية والرجعية، والتنوير والتحجر والمعاصرة والتراث، وأكثر ما كان يخشاه الفقيد التمييز والظلم الاجتماعي وغياب المنهج، لذلك دعا إلى تحكيم العقل وتوازن متطلبات وعي الماضي والحال والاستقبال، واستعادة الهوية وكشف مثبطات الواقع) .

 ويضيف الأستاذ عبد الستار الراوي: ( برفقة الدكتور الأعسم أمضيت سنوات مديدة من العمل الأكاديمي المشترك، بدأت أواخر السبعينيات، إذ تعرفت عليه زميلاً في قسم الفلسفة بجامعة بغداد، وضمتنا لجان مناقشة أطاريح ورسائل الدراسات العليا في بغداد والكوفة وعملنا سوياً على تأسيس جمعية العراق الفلسفية، وكنت نائباً له لدورتين متعاقبتين، وضمتنا لجنة الفلسفة في المجمع العلمي برئاسة الأب الراحل يوسف حبي، ومعنا الدكتور حسام الآلوسي، والدكتور علي الجابري، وبعد أن التحقت بوظيفتي الدبلوماسية كان بيت الحكمة البغدادي آخر المرافئ الأكاديمية، ومنذ عام الحزن 2003 لم ألتقه، قبل رحيله بأقل من أربعة أشهر نزل عمان ينشد علاجاً يخفف عنه وطأة أوجاع القلب، تحدثت معه هاتفياً عبر الصديق سلام الشماع، كان صوته واهناً (أوصاني بصحتي خيراً)، وتلك كانت آخر الكلمات.. تحية إلى روح الصديق عبد الأمير (أبي مهند) في رحلته الأبدية).

رحم الله الراحل عبد الأمير الأعسم وعوض الله العراق من طلابه ما يسدون فراغا يصعب تعويضه وإنا لله وإنا إليه راجعون.