مخاضات المنطقة العسيرة بقلم:رقيب عبد الرحمن المطيري
تاريخ النشر : 2019-06-12
بسم الله الرحمن الرحيم
مخاضات المنطقة العسيرة
رقيب عبد الرحمن المطيري
يذهب اغلب المحللين الى اعتبار إن القرن العشرين قد شهد ما يعتبرونه تحرر لجميع دول منطقة الشرط الأوسط تقريبا من سلطات الاحتلال التي تقاسمته كغنائم حروب لم يشتركوا فيها بإرادتهم بعد أن انتهت مرحلة الحروب الكونية ورغم إن هذا التحرر كان منقوصا لان الزعامات كانت تابعة للغرب الذي نصبها أكثر من تبعيتها لأوطانها إلا إن ذلك القرن قد شهد نمو طبقة شعبية واعية ومثقفة امتلكت بشكل أو بآخر وحتى ولو بحدود ضيقة القدرة على التأثير في تشكيل الحكومات التي كانت أكثر استجابة للمطالب الشعبية فأسقطت حكومات وألغيت معاهدات كانت لا تعبر عن مصلحة الشعب من خلال تظاهرات قد يكون عدد من يشارك فيها محدود لا نجد إن مثل تلك الاستجابة تحدث في قرننا الحالي الذي نكاد ننهي عقده الثاني مع الأسف مع كل ما يرافقه من تطور وتحضر وشيوع مفاهيم ربما تعتبر خطوات متقدمة باتجاه حياة إنسانية ناضجة كالديمقراطية تستطيع التفاعل والتلاقح مع بعضها بشكل أكثر سهولة من القرن الماضي على الرغم من العودة الى مرحلة تدخل الجيش في إبدال الحكومات (الانقلابات العسكرية) كما حصل في مصر والسودان أو كالضغط الشعبي الذي حصل في الجزائر .
لقد شهد القرن الماضي تطور حركة الثقافة ومنتدياتها وتطورت الحركة الأدبية والفنية المسرحية الهادفة ودور العرض وصالات السينما وحتى في المجال الرياضي الوطني في منطقتنا بشكل ملحوظ بالمقارنة الى ما نراه اليوم وكانت نتيجته أن ظهرت الى الساحة السياسية أحزاب وحركات كانت في غالبيتها بطابع وطني نادت وأثرت في الأحداث التي كانت سائدة آنذاك وقاومت الاحتلال وأجبرته الى الرضوخ الى إرادتها ولكن طبعا بحدود ما يسمح هو (أي المحتل وحكوماته) وفي اقل تقدير تحول الاحتلال من عسكري مباشر الى إدارات سياسية ومستشارين وأنها كانت تعمل أو تدير عملائها الحكام في الظل أو الخفاء أو كما يقال من خلف الكواليس.
ليس من المناسب تسمية قوى الاحتلال بقوى الاستعمار لان هذه الكلمة مشتقة في مدلولها اللغوي من الإعمار وهو يدل على البناء والتطور الذي لم يحصل إلا في حدود ضيقة تلبي رغبة المحتل وحاجته في البلدان المحتلة التي سيطر عليها وأخضعها بقوة السلاح الى هيمنته فصادر إرادتها قبل كل شيء ثم صادر كل إمكانياتها الاقتصادية بالأخص ومن ثم الثقافية والفكرية نزولا الى الأيدي العاملة البشرية المنتجة فأحسن استثمار كل موارد البلدان المحتلة لصالحه وامتص خيراتها بشراهة من جهة وجعلها سوق لتصريف منتجاته حتى الرديئة منها وبينما هو أي المحتل يبني ويطور بلاده ويحسن مستوى شعبه ألمعاشي ويطور إمكانياته وطاقاته في الاحتلال تزاد الشعوب المحتلة تخلفا وتقهقرا فنمى العالم الغربي بالشكل المعروف بينما تخلفت بلداننا الى ذيل سلم الرقي والتحضر الذي نراه اليوم حتى باتت المقارنة ضربا من غير المعقول والمستحيل.
لقد أتاحت فترة احتلال بلداننا في القرن الماضي الفرصة لشباب ذلك العصر الذي كان مصرا على التطور والاقتباس العلمي والثقافي بالانتقال الى أوربا والحصول على مبتغاه وقد سمحت دول الاحتلال بذلك مرغمة ليس من اجلهم بل للمساهمة في إفراغ البلدان المحتلة من طاقاتها الخلاقة والمبدعة والمطورة من جهة وللاستفادة منها ومن إمكانياتها في بلدانها ومن جهة ثالثة كانت تأمل في إجراء عمليات غسيل لأدمغتهم وها هي الكرة تعاد مرة تلو الأخرى اليوم باستثناء إن طاقات الأمس قد عادت الى أوطانها فساهمت في نهضاتها التي أطلقنا عليها في بداية هذه السطور المثقفة والواعية التي طورت وقارعت الحكومات آنذاك بينما من خرج منها اليوم من الصعوبة أن يعود للفارق الكبير في طبيعة الحياة واستقرارها بين الغرب وبين بلدان المنطقة ولان حكومات اليوم تتشبث بالسلطة ولا تسمح لها بالعودة رغم أنها ذاتها اغلبها كانت في أوربا وتربعت على كراسي السلطة كما حصل في العراق بعد الاحتلال الأمريكي له عام 2003 أو في باقي البلدان التي حصل فيها تغير السلطة أثناء حركات الربيع العربي فلم تفكر في بناء أو إصلاح مجتمعاتها بقدر ما صارت أسباب للفتنة والاقتتال فيها ونقلت أسوء ما تعلمت هناك وانشغلت بتعويض فترة حرمانها التي عاشتها من خلال سرقة كل ما يقع تحت تصرفها من ثروات وتناست إن التاريخ يسجل لهم سوء أفعالهم ولن يلحقهم هم عوائلهم منه إلا اللعن السب والشتم لان دوام الحال من المحال وان الشعوب الحية لا تصبر طويلا على الضيم ولا يصح إلا الصحيح.
إذا كانت الغاية من تسجيل التاريخ هي دراسة واقع معين في فترة زمنية ماضية هي استخلاص الدروس والعبر فإننا في اغلب الدول العربية والإسلامية لم نتمكن من الاستفادة من تجاربنا السابقة بقدر ما يستفاد منها المحتل فيحسن التعامل مع الأجيال اللاحقة من الأبناء على خلفية تعامله مع الآباء بينما نحن نستثقل منها ونعيبها ونتنكر لرموزها ولا نحسن الاستفادة من ماضينا ودلالة ذلك ما يحصل اليوم من إيغال في الخطيئة بحق الشعوب وتزايد حدته واتساع الهوة بين الحكومات وشعوبها وكلما حصل تحرك شعبي ابتدعت الحكومات أساليب جديدة في امتصاص زخمه وحولته الى خدمتها.
الطبقة المثقفة الواعية موجودة اليوم في وقتنا هذا لكنها مغيبة وغير قادرة على التأثير في مجتمعاتها لأنها مبعثرة وغير قادرة على رص صفوفها فإنكفأة وتقهقرت لا نقول إنها منهزمة ولكنها منطوية على نفسها وتجتر ما لديها دون تطور بفعل قوة وتلاحق الصدمات التي أصابتها في فترات العقود الأخيرة وحتى التيارات اليسارية التي كانت تقودها تعتبر نفسها إنها قد خسرت المعركة مع معارضيها بعد الفشل الذي أصابها فغابت عن ساحة الصراع مع خصومها لأنها لا تمتلك مقومات ديمومة الصراع وتركت شعوبها تواجه قدرها لوحدها .
إن شعوب منطقتنا تعيش الآن حالة قصوى من محاولات قاسية جدا تدفع بها الى التجهيل وتغيب العقل والاستسلام بقناعة الى الموت والتحول الى أشباح ودمى كارتونية تتحرك بإرادة غيرها وهذا ما يمكن اعتباره مخاض عسير سينتج عنه حتما في القريب طبقة وطنية منقذه تقودها الى بر الأمان إن شاء الله بدلالة حركات الضغط الشعبية الشبابية التي تحدث على التوالي في بلدان المنطقة وهي تحتاج فقط الى الثبات على نهجها وإبعاد محاولات مصادرتها.