قلم ذي ألوان بقلم:أ.عبدالعزيز أمين عرار
تاريخ النشر : 2019-06-11
قلم ذي الوان
في احد الليالي القمرية وفي الأيام الأولى من شهر آب اللهاب من عام 1978 كنت قد فرغت منذ ساعتين من سماع اغنية" انا مين اللي صحاني في عز النوم " وسماع صوت الثورة الفلسطينية وعدد من اغانيها."كلاشينكوف ما في خوف طول ما ارصاصك بالعالي"

ومن ثم خلدت إلى النوم ولكن في منتصف الليل حيث كانت الساعة تبلغ الواحدة والنصف شعرت بشيء ما يصقل رأسي حتى استيقظت مفزوعا وإذ بجنود الاحتلال منتصبو القامة يقفون من حولي والمختار يقف في منتصف البيت,قمت بسؤال احدهم بغضب : أين الإنسانية أهكذا توقظون الآخرون من نومهم,فقال لي من غير مبالاة:
-اقعد بلا فلسفة يا لله قوم
-ومن ثم انتشروا في غرفتي كأنهم جراد متزاحم يفتشون الكتب ويصادرون ما لا يعجبهم ك كتاب عن ليلى الخالد والفدائيين الفلسطينيين وكما أخذ بهم الاستغراب لتنوع كتبي ما بين الدينية والقومية والماركسية حتى كتاب مناحيم بيغن " التمرد" .

اعتقلوني وقاموا بأخذي في سيارتهم وهي جيب عسكري, ريثما نقلوني إلى قلقيلية ومنها جاؤوا بمناضل من الجبهة الديمقراطية وخرج جامعة عدن ، ومن ثم نقلوني إلى سجون طولكرم ومجدو ونابلس على الترتيب ما بين وجبات من التعذيب والتحقيق والتهديد والوعيد بجلب أبي وأمي وأسرهم وبعد مرور شهر تقريبا على تلك الحالة قاموا بإلقائي في غرفة رقم واحد التي تقع في الزاوية الجنوبية من سجن المقاطعة بمدينة نابلس, وهي غرفة كانت قد استوعبت من قبلي حوالي 54 وجمعت بين ظهرانيها معتقلين اداريين وغيرهم ممن اعترفوا وينتظرون ريثما تتم محاكمتهم وجمعت بين عدة تنظيمات كفتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وجبهة التحرير العربية .
أن تكون معتقلا ام سجين هو أن تكون منتصبا وثابتا قادرا على المواجهة وتحمل الصعاب,أن تتحلى بالشجاعة والمسؤولية والصبر دائما وابدآ,في السجن لا تنتهي الحكايات حتى وإن لم يرويها اصحابها تجد الوجوه والأعين تتكلم بوضوح عن اشتياق او قهر او الم او حتى أمل,و إن لم تعلمك السنين كيف تكون قائدا بشخصية قيادية سيعلمك السجن. حيث كان على المساجين تنظيم انفسهم وحياتهم وقضاء الزمن في عمل نافع وفي ظلال هذه التجربة امكنني الاطلاع على عدة انشطة ومهمات وشاويش الغرفة في السجن والجلسات الحزبية وقيّم المكتبة الدكتور سامي الكيلاني ، ومسؤولي المطبخ ، وممثل المعتقل والناطق باسمه أمين مقبول كما ان بعضهم تخصص في تجليد الدفاتر لاستخدامها في كتابة التحليلات والمبادئ والنظريات ،وبعضهم يغزل شالات من الصوف ويهديها لامه او اخته ، وتجري مسابقات ثقافية ناهيك عن التسلية في لعبة الشطرنج والزهر النرد وأحسن المعتقلون استغلال الوقت في المحاضرات والندوات وبين هذا وذاك جاء ترتيب الوضع الاجتماعي للمعتقل عبر وجود شاويش للغرفة وقيادة للمعتقل ممثلة من عدة فصائل ورصد ثوري يتحرى اخبار المعتقلين وأحوالهم الامنية ويحدد العلاقات مع رجال الشرطة من اليهود والدروز وقد وصل بهم الحال الى فرض مقاطعة على الضابط عبد اللطيف ابو لطفي عندما اساء ادبه وعلاقاته مع المعتقلين في احدى المرات ،فقد استهزأ بصديقين كانا متكاتفين مع بعضهما البعض، ووصفهما بالعشاق، وعندها فرض عليه المساجين عقابا ومنعوا مخاطبته والكلام معه وصدر تعميم فيه فاضطر لإبداء أسفه والتراجع عن خطأه .
وفي خضم الأحداث تلك,اعتلتني رغبة قوية في كتابة مقالات وتحليلات وقصص وأدبيات فكرية سياسية بعثية لإعداد مجلة "الثائر العربي"التي كانت بحاجة إلى إعداد جيد وألوان ومقالات متنوعة,ولكن سرعان ما شعرت بخيبة في داخلي حيث لا يسمح لنا باستخدام أقلام فلوما ستر وأقلام حبر جافة ملونة عدا اللونين الأزرق والأسود.
ولكني كنت قد عزمت أمري وعقدت الرأي والمشورة في المحاولة بالحصول على قلم ذي قصبات وألوان,فطلبت من أبي وأمي بإحضاره لي في المرة القادمة عند حضورهم برفقة أختي الصغرى ثريا حيث كنت أكبرها بأعوام,وبعدما مضي اسبوعان كان موعد حضورهم قد حان...جاءت معهم والقلم بحوزتها ومن ثم اهدتني إياه بعدما قامت بإدخاله من أسفل الحاجز الشبكي,وحينها في تلك اللحظة شعرت أنني امتلك العالم بأسره فقد سئمت قلم "البك" الازرق ، ولكن فرحتي لم تدم طويلا فقط بضعة أيام,حيث بلغنا أمر ادارة السجن في عمل تفتيش لأمتعتنا وفراشنا وغرفتنا وأمرونا بالذهاب إلى باحة السجن,شعرت ببعض القلق والتوتر ونظرت من حولي علني أجد مخبأ مناسب ومن ثم قررت أن أخبئه في وسادتي ومعه مجموعة قصص كتبتها بعد أن ضاقت بي السُبل ولا اجد مكانا يشعرني بالطمأنينة, وشعرت أن ساعة القبض على قلمي الملون ودفتري قد ازفت .

قام الشرطي بالتفتيش في الوسادات والأغطية التي أًحيكت من الصوف, واخرج منها القلم والدفتر، وصادرها وأعطى اوامره بنقلي الى ادارة السجن وكان يومها الضابط عباس المعروف بعجرفته ، وما هي سوى دقائق وإذا بالقيادي محمد قزمار جاؤوا به بعد ان عثروا معه على قلم هو الآخر .
سؤل من أين حصلت على القلم . أجاب من عند الله سقط علي .
رد عليه: ربنا ما بسقط قلام هذه كذبة .
وبادر بسؤالي من أين القلم الذي معك .
قلت : احضرته من الخارج .
رد علي وهو ينظر لزميلي الرفيق محمد قزمار: اصلح انت صادق لا تكذب لان الاقلام لا تسقط من السماء. طيب اسمعوا اقلكم غير هذه المرة اذا بتكرروا تهريبكم للأقلام ستتلقون عونش : أي معاقبة لمدة اسبوعين في الزنازين .بقيت مندهشا ينهش الحزن جزءاً مني وكانت تلك خيبتي للمرة الثانية,مر في بالي ذكرى استعدتها لمناسبة أخرى كانت جهودي قد باءت بالفشل فيها , فقد سجنت قبل عامين في طولكرم ، وشاءت الاقدار ان جمعت الوانا مختارة من ابيات وقصائد من الكتب وأخرى من اغاني المعتقلين ، وصنع لي احد الرفاق دفترا وأخاطه بنفسه وجلده كالمخطوطة الجميلة ، وفي يوم الافراج عني حملته لأخذه معي ظننا مني أن الاحتلال لن يلقي له بالا ، ولكن احد رجال الشرطة عاجلني وأخذه مني ,وهناك في تلك المناسبة التي ضاعت بين أجزاء ذاكرة مكسورة ,كانت خيبتي للمرة الأولى.
ادركت يومها ان الاحتلال عدو الحرية والفكر والإبداع ولا يروق له استخدام القلم والدفتر داخل السجن ويعتبره سلاحا فتاكا كما السلاح ، وكأنه يتحقق من الاية الكريمة (نون والقلم وما يسطرون ) . فقد اجرى تفتيشا عدة مرات لاعتقال اقلامنا ودفاترنا وصحائفنا وحرمنا من مواصلة افكارنا سوى قراءة جريدة "الانباء" العميلة . لقد جاءت خسارتي فادحة ، فقد خسرت قلمي ودفتري ، وما كتبته من قصص جميلة وقصيرة ، والغريب انني كلما حاولت اعادة كتابة ما صادروه عجز قلمي عن الكتابة، وفي اعتقالات متكررة وجدت انني كلما شّبت لدي براعم فكرية وثقافية ونبتت في حقلي جذور لأفكار جديدة ، جاء من يخطفها من جنود الاحتلال وضباطه بمصادرتهم لما نكتبه,ولطالما حاولوا دوما الحيلولة دون امتهاننا لمهنة الكتابة وأدب السجون .ولأن صدمتي قد احتلت على فكري وداخلي شعرت بخيوط عقلي غير قادرة على نسج ما هو جديد أو مميز شعرت بالكلمات باهتة كأن صدمتي منعتني من رؤية بريقها,حتى بعد محاولاتي في اعادة كتابتها عدة مرات في اعتقالات لاحقة وخارج المعتقل ، ولكنهم ربطوا على عقلي وقلمي في هذا الامر ، فما العمل يا الله؟