أور الكلدانيين ليست في العراق ج4 والأخير بقلم: موفق نيسكو
تاريخ النشر : 2019-06-11
أور الكلدانيين ليست في العراق ج4 والأخير بقلم: موفق نيسكو


أور الكلدانيين ليست في العراق ج4 والأخير
يتبع ج3
16: يقول المحيط الجامع في الكتاب المقدس: إن أور (العراق) المدينة المقدسة للإله القمر نانه- سين، كانت جزءً من مملكة إيسن ثم مملكة لارسا وأخيراً أصبحت تحت حكم حمورابي البابلي (1718-1676ق.م.)، ولم تُعد أور عاصمة الدولة، بل ظلّت تنعم بهالة كبيرة بسبب معبد الإله سين، وفي نهاية القرن السابع ولفترات قصيرة من الاستقلال النسبي، انتقلت أور إلى سلطة السلالة الكلدائية (الكلدانية الحديثة زمن نبوخذ نصر) في بابل وصارت أور الكلدائيين كما في التوراة (تك 11 :28-31، 15 :7، نحميا 9 :7).
أمَّا التقاليد المتعلِّقة بإقامة إبراهيم في أور فهي تعود إلى القرن السادس ق.م.، وقد وُلدت لدى منفيين يهود أقاموا في بابل الجنوبية، فالمدينة الكلدائية التي كانت لهجتها آرامية وتعبد الإله الذي يُعبد في حاران، بدت للمنفيين على أنها موطن إبراهيم الأول، فمسيرة إبراهيم من أور إلى حاران أتاحت لهم فيما بعد ربط التقليد الجديد بتقليد الأزمنة الغابرة (تك 11 :31) التي كانت تعتبر أن موطن إبراهيم هو حاران، وليس أور (تك 12 :1-5، 24: 4-6، يشوع 24 :2)، فالإشارة إلى موت هاران، أخي إبراهيم في أور الكلدائيين، (ومات هاران قبل تارح أبيه في أرض ميلاده في أور الكلدانيين)، يجعلنا نفترض أنه كان هناك في القرن 6-5 ق.م. مقام (في الرها- حاران) يُكرِّمون ذكر أخي إبراهيم (تك 11 :28)، وحسب المؤرخ يوسيفوس، كان هذا المقام موجوداً أيامه (العاديات 1 :150)، ولا يبدو أن اليهود عرفوا أور (العراق) قبل النفي، لأن مدينة أور لا تظهر في لائحة الشعوب في (تكوين 10 :10) رغم ماضيها المجيد وطابعها الديني، في حين ذُكرت أكاد وأورك بصورة مستقلة.
وموقع حاران هو أسكي حاران (أي حاران القديمة) شمال غرب حاران الحالية وهي قرية صغيرة (اسمها التركي: التينباصاك) وتقع جنوب شرق أورفا أو الرها، واسم أبشالوم (حوالي 900 ق.م.) هو اسم ملك جوزان، ويشير إلى المنطقة عينها (2صم 3 :3، 13 :1-4، 22)، ولعبت حاران دوراً هاماً في تاريخ بلاد الرافدين كمركز ديني، وكان شأنها شأن أور المدينة المقدسة لإله القمر سين، وهناك نص من ماري يعود إلى هذا التاريخ يذكر معاهدة عُقدت في هيكل سين في حاران، وقد تعبَّد الآراميون للإله سين وسَمَّوه "شيا أو بعل حاران"، وتعبّد الملوك الآشوريون له أيضاً، لا سيما أسرحدون وآشور بانيبال (كانت أمّه وجدته نقيّة زكوتو آرامية من بلاد الرافدين العليا)، تعبّداً عظيماً للإله العظيم في حاران، وكذلك فعل نبونيد الذي أعاد بناء هيكل أخلخل المكرّس للمثلث القمري، وقُدِّمت في هياكل حاران ذبائح الأطفال كما يقول الكُتّاب المسلمون الذين يذكرون في هذه المناسبة السبأيين في حاران.
ومدينة بين آرام النهرين قديمة يعود ذكرها على الأقل إلى القرن الرابع والعشرين ق.م.، وتقع على نهر بليخ، وهو فرع للفرات وقد اتخذت إِله القمر، وتغرَّب فيها تارح وأبنه إبراهيم مدة من الزمن، ومات تارح هناك (تكوين 11: 31-32، و12: 4-5)، وسكنت فيها أسرة ناحور أخو إبراهيم، ولابان أخو رفقة، ويعقوب (تكوين 27: 43، 28: 10، 29: 4-5)، وحتى سهل شنعار يبدأ من شمال العراق من منطقة سنجار، والنصوص المتأخرة تدل على أن هذا الاسم في بابل، والنصوص المسمارية تعرف منطقة تُسمّى سنخر وفي المصرية سنجر، وتذكر النصوص الآشورية المتأخرة منطقة سنجر وسنجرة، ونحن نعرف منطقة جبل سنجر غربي الموصل، المحيط الجامع، ص179، 433، 731. ويرى آخرون أن سهل شنعار، هو سهل سنجار (الدكتور حسن شميساني، كلية الآداب، الجامعة اللبنانية، مدينة سنجار، ص27)، والجدير بالذكر أن منطقة الحدود العراقية التركية اسمها إبراهيم الخليل.
17: وننهي الفصل عن مدينة الرها بأحدث الاكتشافات أنها هي المقصودة بأور الكلدانيين، ليست أور العراق، حيث يقول ج.ب. سيغال، مؤلف كتاب الرها، المدينة المباركة:
كتب القديس أفرام السرياني في تعليقه على سفر التكوين في القرن الرابع أن نمرود حَكمَ إرك التي هي أورهاي، وكان بذلك يروي أسطورة الاعتقاد الواسعة النطاق في آسيا الغربية، وبعدئذٍ أمعن الكُتَّاب أكثر من هذا، فادعى القديس إيسدور (560 - 636م، مؤرخ ومبشر إسباني)، أن نمرود بعدما هاجر من بابل شيَّد أديسا (الرها)، وحكمها، وهي مدينة في ما بين النهرين، وكانت من قبل تُدعى إرك، ونحن لسنا ملزمين بتصديق هؤلاء اللاهوتيين حرفياً، إذ أنه المتبع في الشرق الأدنى والحقُ يُقال في أوربا أيضاً، أن يعزو السكان في مدينة قديمة، تأسيس مدينتهم إلى شخصية أسطورية قوية، وقد اشتهر نمرود في التوراة كشخص بانٍ، ويُطلق اسمه اليوم على عدة أماكن أثرية في تركيا، ويبدو أن عملاقاً فقط باستطاعته جمع المباني التذكارية الضخمة الباقية من عصور سحيقة، وكان على أورهاي (أُرها) وهي المكان الذي اختاره نمرود لتأسيسها أن تُثني على نفسها كثيراً في القرون اللاحقة.
ففي التقاليد اليهودية والإسلامية كان نمرود عدو إبراهيم، وباقتران اسم نمرود بأورهاي، شَجَّع الاعتقاد أن الأب الكبير إبراهيم نفسه سكن هناك، فعلى بعد أربعين كيلومتراً يقع مركز الوثنية في حاران التي ادعت أن إبراهيم أحد سكانها، وأظهرت للحجاج المسيحيين الأماكن التي سكن فيها.
وادِّعاء حاران هذا يُلاقي دعماً في نص التوراة، وهناك أماكن أثرية أخرى في هذا الإقليم ذُكرت في التوراة كفدان وأسماء شخصيات مثل سروج وتارح وناحور، ألم يكن لمدينة لأورهاي المسيحية الشهيرة حقٌّ في أب من أقوى آباء التوحيد العظام؟، فيلتصق اسما نمرود وإبراهيم بهذه المدينة وما جاورها حتى الوقت الحاضر، فالجبل الذي تجثم عليه القلعة اسمه "عرش نمرود"، والتلال الجرداء التي تقع عليها خرائب دير مار يعقوب الذي كان شهيراً، اسمه "تلال نمرود"، وهناك مسجدان بجانب بركة السمك أسفل القلعة يُسمَّيان باسم إبراهيم، والبرك يرد ذكرها في القصص الشعبية المحلية عن نمرود، ويُقال إن نمرود أوثق إبراهيم بين عمودين هائلين ما زالا قائمين على جبل القلعة، وقذف به إلى الوادي، فسقط ولم يصيبه أذى، ومكان سقوطه تُدعى "بركة إبراهيم"، والسمك الذي يسبح فيها يُسمَّى "سمك إبراهيم" وبجانب البركة أُقيم مسجد الخليل وهي كُنية إسلامية عن إبراهيم، وفي كهف قرب مسجد آخر يُدعى، مقام إبراهيم، اُخفي فيه الطفل إبراهيم ليأمن شر نمرود، وفي رواية ثالثة أن نمرود أراد أن يُهلك إبراهيم بالنار، فركع إبراهيم متسولاً، فنبع ماء من مكان ركبتيه، وأحدى البركتين سُمِّيت، بركة إبراهيم، والأخرى، بركة زليخا، وهي على اسم زوجة فوطيفار، لكن المسلمين يدعون أن زلخا هي صلخا أم نمرود.
إن تعريف أورهاي بإرك يأتي بلا شك من سفر (تكوين 10: 10) وكان ابتدأ مملكة نمرود..إلخ، وتشابه الأسماء عند المعلقين أمراً لا يُقاوم، والنظرية لا يمكن تأيدها طالما لدينا أورك تقع جنوب وادي الرافدين، لكن النظريات الحديثة عن أورهاي ليست أقل استحالة.
لقد عُرفت أورهاي بمدينة أور الكلدانيين التي وردت في التوراة ليس من علماء فقط، بل من شخصيات عصرية محترمة في أورفا مع أن مطران المدينة لم يكن يتمسك بها، وأقدم مؤرخ سرياني عَرَّف أورهاي أنها مدينة أور الكلدانيين، هو المطران باسيل بارشومانا صديق زنكي.
وكان هناك مدن أخرى في بلاد ما بين النهرين تُدعى أورو أو أور، وثمة مدينة بهذا الاسم كانت خاضعة للحثيين، وأخرى شمال شرق بين النهرين، ونقرأ عن أور الكبرى وأور الصغرى، وهما بالكاد تُعرَّفان بأورهاي، وحسب ملاحظة المطران باسيل، كلمة أور لم تكن تعني سوى مدينة، والحق أن استعداد القديس أفرام وكُتَّاب آخرين لمساواة أورهاي مع إرك، يوحي أن الشكل القديم لاسم أورهاي هو URH أو URK (ج.ب. سيغال، الرها، المدينة المباركة، ص3-6).
ويُعلِّق المطران يوحنا إبراهيم مُحقق كتاب سيغال على كلام سيغال: في القرن الرابع الميلادي يُسمِّي مؤلف كتاب شهداء الرها مدينة الرها (إرك) في حديثه عن شمونة وكوريا فيقول: في أيام قونا مطران إرك، ويعقوب السروجي في مقاله عن سقوط الأصنام يُشير إلى نمرود أن أحد آلهة حاران هو بارنمري، ويذكر يعقوب الرهاوي نهاية القرن السابع أن الكلدانيين يعني وثنيّ حاران، وابن العبري يعزو تأسيس أورهاي لأخنوخ، وفي مكان آخر يعتبر نمرود باني الرها، ثم يذكر مقام إبراهيم الخليل في أورفا (الرها)، وميخائيل الكبير ينقل عن المطران بارشمومانا أنه بعد الطوفان بنى نمرود مدينة الرها وسمَّاها أور، أي مدينة، والكلدان الذين عاشوا هناك أضافوا، "هاي"، أي، "تلك التي للكلدان"، تماماً كما أضافوا أور شالم إلى مدينة شالم (القدس). (نفس صفحات المصدر السابق، وانظر، تاريخ ميخائيل الكبير، ج3 ص256، عربي، وانظر ج1 ص402، وهي هوامش ميخائيل في النص السرياني حيث يقول: إرك هي الرها وشيَّدها نمرود).
18: يقول الطبيب والرحالة آنسورث سنة 1842م في كتابه، الرحلات والبحوث في آسيا الصغرى وميزوبوتاميا الكلدانيين وأرمينيا: إن أور الكلدانيين هي الرها (أورهاي أو أورفا) وقد أشار إلى ذلك قديماً ومنذ بداية المسيحية أكثر من مؤرخ، وإلى عصر حديث في الحروب الصليبية تُسمَّى مدينة حاران (أورها، الرها، أورفا) أي مدينة الكلدن، ويُسمِّي شمال العراق، كردستان، كلديا. (Travels and researches in Asia Minor Mesopotamia، chaldea and Armenia. ج2، ص104-108).
وشكراً/ موفق نيسكو