الكيلاني بقلم: طارق ناجـح
تاريخ النشر : 2019-06-09
عندما رآه ناجي لِأَوَّل مَرَّة في نهار يومٍ من أيام شتاء ٢٠٠٣ ، عَلِمْ أن وراءهُ سِرٌ كبير . فطريقة كلامه و مَظهَرَهُ و رائحة العِطر الذي يفوح من ملابسه الأنيقة يدل على أنه من طبقة إجتماعية أقرب للثراء منها إلى الفقر . و لكن ما الذي أتى به إلى هنا لِيُشاركهُ حُجرتهُ المتواضعة و الكائنة فوق سطح إحدي العمارات القديمة بأحد الأزقة المُتفرِّعَة من أحد شوارع عرب سلاّم بِمعْصَرَة حلوان .. و هي منطقة شعبية تبتعد خطوات عن شارع الترعة .. الشارع الرئيسي بالمعصرة . إسمه هادي الكيلاني .. صاحب وجه مُستدير وشارب أسود كثُّ ، و رأسه في طريقٍ إلى صَلَعٍ .. متوسط الطول و جسده يميل إلى البدانة و يمتلك " كِرشٌ " صغير . يبدو أنه قد تجاوز عِقَده الرابع بقليل . جاء به عم عبدالله السِّمسَار بناءا على طلب صاحب البيت بعد أن غادر أسامه ، صديقه و شريكه بالغرفة لسنوات بعد أَنْ أنهى دراسته بجامعة حلوان ، و إلتحق بقوات الدفاع الجوي ليؤدي خِدمته العسكرية . لِحق ناجي بعم عبدالله و هو يَهِّم بالنزول على السُلَّم . وضع يدَهُ على كَتِفِهُ و بادرهُ قائلا :-
- إيه الدنيا يا عم عبدالله ؟
- الدنيا تمام .
- طيب و الأستاذ هادي ؟؟
- ده راجل إبن حلال .. من عيلَّه محترمة زي ما أنت شايف كده .. بس معاه مشكلة كبيرة علشان كده مُضْطَر يبْعِد عن بيته شويّٓة لِحَد ما ربنا يسَهِّل و تتحَل .
لم يُزعِج نفسه بالسؤال عن ماهية المُشكَلَة ، لأنَّهُ يعلَم أَنَّ عم عبدالله لن يُفْضي إليه بهذا السر رغم علاقته الجيدة به . و إن كان يحترم فيه هذا المبدأ .
حاول هادي أن يبدو مُتماسِكاً في الشهور الأولى من مشاركته الغرفة ، و قد توطدت علاقته بناجي . بدأ يحكي له عن جُزءٍ مِنْ ماضيه . قال له أنه كان يعمل مُحاسباً بإحدى كُبْرَى الشركات في مجال المقاولات . تزوج من فتاة أنيقة من عائلة ثرية على الرغم مِنْ أنه يعتبر عائلته مِنْ الطبقة المتوسطة التي إنقرضت مع عصر الإنفتاح في السبعينيات من القرن الماضي . فوالده خرج على المعاش على درجة وكيل وزارة " بوزارة الشئون الإجتماعية " . لديه اخ و أخت أصغر منه .. الأخ مهندس ميكانيكي بإحدى شركات البترول ، و أخته دكتورة صيدلانية . رزقه الله بإبنة جميلة تبلغ من العمر الآن سبع سنوات . لديه شقة وسيارة حديثة الطراز . مَرَّت الأيام كئيبة و ثقيله على هادي إلى أن جاءه عم عبدالله ذات يون ليُخبِرهُ أنَّه سيلتحق بإحدى المستشفيات الخاصة القريبة للعمل بالوردية الليلية بالإستقبال . كان ناجي يذهب إليه تقريبا كل ليلة ليشرب معه الشاي و يُدَخِّن السجائر و يتبادلا أطراف الحديث مع الدكتور سعد " النبطشي " الذي يبدو أنه في منتصف عِقْدَه السادس . كان يحكي لهما عن عمله بمطلع شبابه في تونس . و كيف أنه أمضى ثلاثة سنوات مرّٓت عليه كالحلم بين المستشفى و الدار الذي منحته إياه إدارة المستشفى ليقطُن بِه لوحده . فلم يكن قد تزوج بَعد . و كان البحر يبعد حوالي كيلومتر عن منزله حيث كان يلتقي مع بعض من زملائه لتمضية السهرة أو الذهاب للسينما مع أحدهم .
عاد ناجي ذات يوم ليجد هادي جالساً على سريره و جسده يهتز مِن شدة البكاء .أسرع ناجي ناحيته محاولاً تهدِئته . جلس إلى جواره ، و هو يُرَبِّتَ على كَتِفُه قائلاً :-
- إيه اللي حصل يا أستاذ هادي .
- بِنتْي يا ناجي .. بنتي ..
- مالها كفى الله الشر ..
- وحَشِتني قوي .. و أنا مِشْ قادر أشوفها أو حَتَّى أسمع صوتها في التليفون .
- معلهش يا أستاذ هادي .. إن شاءالله كل حاجة هتبقى تمام .. قوم إغسل وِشَّكْ و إدعي و قول يا رَّبْ .
- يا رَّبْ .. أنا غلطت وبَصِّيت لفوق ، وكنت فاكر إن ما حدِّش يقدر يكشفني ..
- إحنا مِشْ ملايكَه يا أستاذ هادي .. إحنا بَشَرْ بنغلَط و نخطئ .. و ربنا رؤوف رحيم .. و إن شاءالله ترجع بيتك قُريِّبْ .
- يارَّب ، يا ناجي .. يارَّبْ ..
مَرَّتْ ثلاثة أَشْهُر على هذا الحوار قبل أَنْ يغادر ناجي القاهرة للعمل بإحدى فنادق الغردقة . وبعد مرور ثلاثة سنوات و في زيارة للقاهرة مَرَّ على المقهى الذي إعتاد عم عبدالله الجلوس عليه منذ عشرين عاماً . و بالفعل وجده جالساً يشرب الشاي بحليب و يُدَخِّن النَّارجِيلَه (الشيشة) . إستقبله بإبتسامة و حضن سائلاً عن ماذا فعلت به الدنيا في الثلاث سنوات الماضية .
- الحمد لله يا عم عبدالله على كل حال .. أهي ماشية ..
- الحمد لله يا ابني إنها ماشية .. علشان دي لمَّا بتُقَف بتبقى حاجة وحشة قوي ..
- جمال .. أخباره إيه ؟؟
- الحمد لله ربنا هداه بعد الجواز .. بَطَّل إستهتاره .. و بقي من البيت للشغل .. و ساب شِلِّة الهلس
- و يوسف .. عامل إيه ؟؟
- يوسف إشتغل سوَّاق في شركة أوراسكوم للمقاولات بِتَاعِة ناصف ساويرس .. إنت أكيد عارفه .. مِشْ إنت شَغَّال في الغردقة !!
ناجي ساخراً :-
- آه طبعاً .. دا صاحبي و بَقَضِّي الويك إند معاه على اليخت بتاعه في الجونه .. ههه . أعرفه مِنْ إين يا عم عبدالله !! أنا بسمع زي كل الناس ما بتسمع . المهم .. هوَّ الأستاذ هادي أخباره إيه ؟؟
- الأستاذ هادي مشكلته إتحلَّت بعد ما أنت مشيت بِسِتْ شهور .. و أخواته و مراته و بنته جُم لحد هنا و أخدوه .. بعدها بكام شهر .. جِه هو و مراته و بنته علشان يشكرني علشان وقفتي جنبه .. و قالي إنه إحتمال كبير يهاجر كندا و يبدأ حياته من جديد هناك .. و من وقتها لا إتصل ولا شفته .. شاكله عملها و سافر ..
- ربنا يوفَّقُه يا عم عبدالله .. هو في الحقيقة إبن حلال و طيب .. يمكن يكون ضعف قدام حاجه .. أجدع واحد فينا بيضعف قُدَّامهَا .. هي و الجنس اللطيف .. إنت أكيد عارفهم يا عم عبدالله .. هه هه ..!!
- قَصدَّك كنت عارفهم .. من عشرين .. تلاتين سنة ..ههه ؟؟
- ربنا يدِّيك الصحة يا عم عبدالله ..
ودَّع ناجي عم عبدالله الذى كان بالنسبة له الأب و السند على مدار ثمانية أعوام قضاها في القاهرة منذ أن قدِمَ من الصعيد ليُكمِل تعليمه الجامعي ، متمنياً أن يسعِده الحظ بلقاءه مرَّة أخرى قبل أَنْ يُبعِد القدر أحدهما عن الآخر .. بُعد السماء عن الأرض .. و الحياة عن الموت .