استراتيجية الفشل والمساحات المغلقة بقلم:بكر أبو بكر
تاريخ النشر : 2019-05-25
استراتيجية الفشل والمساحات المغلقة بقلم:بكر أبو بكر


استراتيجية الفشل والمساحات المغلقة
بكر أبو بكر

          الوقوع في الحفرة لا يكون إلا عن عمى أو ضلالة، لذلك فإن اختيار الطريق هو الأصل ومن خلاله نتحلى بالقدرة على الوصول للهدف، وحتى لو كان الطريق مليئاً بالمطبات والحفر فإن رسم المسار عبر الطريق المحدد يشكل قدرة على التجاوز ومن ثم تحقيق الهدف.

          الوقوع في الحُفَر لا يكون إلا عن عمى بصر أو ضلال بصيرة، ما يعنى أننا تركنا التخطيط وراء ظهورنا أو افتقدنا الرؤية والقدرة على استشراف المستقبل، أو جعلنا من السراطية (الاستراتيجية) نسيًا منسيّا، فكل مرحلة من مراحل النضال تحتاج لخطة، ومجمل المراحل تحتاج قدرات على التوقع والتنبؤ في سياق فهم عوامل القوة والضعف والطريق الممكن السير فيه وصولا للهدف بأقل الخسائر.

          الدول والمنظمات والشركات والمؤسسات والجيوش والتنظيمات السياسية لا تسير بلا دليل أوعلامات ارشادية، كما إنها لا تسير مترقبة الأحداث للتعليق عليها بل تفترضها، تخترعها، تتخيلها وتضع من البدائل للتعاطي معها ما يجعل اختيار الطريق يحقق الأفضل أو الأيسر أو النجاة بأقل الخسائر.

          سارت الثورة الفلسطينية في طريق الآلام، طريق الحفر والمطبات والأزمات، ولكنها كانت في كثير من المفاصل تجد لها الطريق المناسب والدليل فترسم السراطية (الاستراتيجية) بعمق التفكير الاستشرافي، وقدرة التحليل الواقعي، فما بالنا اليوم؟

            لم تعد فلسطين الجغرافيا والسياسة فقط هي ساحة المواجهة الوحيدة للقضية الفلسطينية فهي قضية غربية وعالمية المنشأ والاستمرار، ونمت وكبرت مع المتغيرات العالمية لتأخذ أبعادها الوطنية والعربية والدينية والانسانية العالمية، والاخيرة أي العالمية هي المساحة الأوسع اليوم والتي تطل منها قضيتنا على العالم، فلم يعد ما يحصل في أقاصي الأرض بعيد عنا، كما لم يعد مما لا يهمنا بل إن ما يحصل في القدس أو حيفا أو نابلس يؤثر فينا، كما الذي يحصل في نيوزلندا أو ايرلندا أو أمريكا أو السويد أو البرازيل،وتشاد وغيرها حيث حطّ "نتنياهو" رِحلَه في غفلة من الأمة.

          من زاوية النظر للقضية الفلسطينية بشكل متسع فإن العالم وفي ظل تقلصه داخل الهاتف النقال من ناحية تقنية، وفي سياق توسع وتقلص مساحات النفوذ العالمية جغرافيا وسياسيا أوجبت علينا هذه الحالة من عولمة الفكرة والقضية، أن نتسلح بمفاهيم واستراتيجيات وأدوات مختلفة ولا نظل أسرى أدواتنا وطرقنا القديمة.

          إن جاز لنا الحديث في المساحات، فلقد مرت على القضية الفلسطينية 4 حالات انتقلت فيها دوائر أومساحات النفوذ من الانغلاق الكلي حيث كنا خارج المعادلة، لننتقل لمساحات مغلقة علينا، لنا، ومساحات مغلقة في وجهنا، ضدنا، فكانت الأمة العربية والساحة الافريقية والآسيوية والدول الاشتراكية في ظل المعسكرين باحتنا الخلفية، ومع تفتت الاشتراكية حافظنا على تأمين الساحة العربية والافريقية والآسيوية في المرحلة الثانية حتى دخلنا في المرحلة الثالثة حين افترضنا باختيار الطريق الأمريكي فتحًا لنا واتساعا لمساحات الحركة، وهو ما قد يكون قد حصل في بدايته بحيث عُدّت العلاقة مع أمريكا وأوروبا نصرا للسياسة العربية والفلسطينية إلا أن هذه المرحلة التي توّجت بالحرب على العراق وتدميره ثم الدخول في مسار مدريد أوسلو واشنطن مع ما رافقه من ضغوطات انتج انشقاقا في المنهج واختلالاً في المسار أوخلخلة وحلحلة للمفاهيم.

  المحرّم قد وقع، والتعاطي مع الآخر قد فتح شهيّة الآخرين من العرب وغيرهم لأكل الثمرة المحرمة بغض النظر عن الاضطرار الفلسطيني والممر الاجباري الذي حُشرنا أو زُنقنا به عبر اتفاقيات أوسلو، أي إنه في المرحلة الثالثة مرحلة خلخلة المفاهيم بدأت قيادات في الأمة العربية والدول الافريقية تتساءل في ظل مصالحها الخاصة الضيقة ورؤيتها الكسيحة بالافتراق عن فلسطين، بدأت تتساءل لم لا؟ فتحاول أن تتجاوز القاسم المشترك الأعظم وهو فلسطين بادعاء أننا لسنا ملكيين أكثر من الملك! فها هم الفلسطينيون يقيمون مع أعدائهم العلاقات فلم لا نكون نحن أمثالهم؟

جاءت المبادرة العربية التي وافق عليها الرئيس أبو عمار وهو محاصر في المقاطعة في رام الله لتوقف عملية الخلخلة في المفاهيم ولترسم استراتيجية عربية من الألف الى الياء، فلا علاقات الا بعد قيام الدولة الفلسطينية.

 وكان حُسن الظن الفلسطيني أن تستمر هذه الحالة ممثلة للسِراطية "للاستراتيجية" أو الطريق المؤدي لحل القضية مما يمكننا من الحفاظ على المساحة العربية والآسيوية والافريقية، ومع تمددنا الإيجابي في ساحة أوروبا التي كانت مغلقة على الاسرائيليين، ولكن الحسابات لم تستقم فحسابات الحقل لاتتطابق مع حسابات البيدر، فالفكر الاستعماري الغربي المتحالف مع الغطرسة الأمريكية والعنصرية الاستعمارية الصهيونية أجهد نفسه في اختراع الأعداء مع انهيار الكتلة الشرقية فقفزت المنطقة منطقة الشرق الاوسط لدائرة الضوء ثانية سواء باختراع الأعداء فيها ممثلا بالإرهاب أو العنف أو"الجهاد" ومن خلال المسلك الاستعماري الأصيل أي عبر التدمير والتفتيت والتركيب للدول والطوائف والقوميات والمعسكرات لنصل متعبين مرهقين في المرحلة الرابعة التي نحن فيها الآن، وهي مرحلة تقلص المساحات واختراقها عبر الطرق الالتفافية التي استخدمتها ثلاثية الاستعمار والعنصرية والصهيونية فخلخلت وحلحلت الجسد العربي وأشعلت في كل بيت حريقا وقدمت لإفريقيا وآسيا الهدايا المسمومة فأصبحنا نفقد مساحاتنا المغلقة علينا شيئا فشيئا.

بكل بساطة انتقلنا من المساحات (الجغرافية السياسية) المغلقة علينا أي تلك التي لنا الى مرحلة الخلخلة حين افترضنا أن الممر الاجباري نهايته الدولة المستقلة عام 1999، وفي الحقيقة الواقعة أننا قد دخلنا في معادلة (شامير/ بيرز/ نتنياهو) في المماطلة والكذب والتسويف وانخرطنا بفعل وصراع داخلي لم نرفع رؤوسنا منه الا ونحن خارج المساحات اذ أنها إما تلاشت أو تقلصت أو اختُرقت.

  فقدنا أجماع الأمة كما فقدنا ألق القضية لدى الآسيويين والأفارقة، ومع قدرتنا على اظهار المضمون الانساني والسياسي لأوروبا ما شكل منجزا فلسطينيا باهرا إلا ان متغيرات القرن 21 قرن تعملق الارهاب والعنصرية قد أوصلتنا لفقدان تدريجي حتى للوعي الأوروبي المكتسب.

إن التحليل الاستراتيجي هو محاولة لاستكشاف الثغرات في الطريق ومحاولة لفهم لماذا لم نستطع أن نتجاوز المطبات أو الحفر، ومحاولة أيضا للتفكير بمنطق استراتيجي يجيب على السؤال ما السبب وما العمل وكيف لنا ان نستشرف المستقبل؟ في العلوم السياسية والادارية وعلى التنظيم (المنظمة) السياسي أوغير السياسي هنالك من أدوات التحليل الكثير التي منها التحليل الرباعي الذي ينظر للبيئة الداخلية (بيئة المنظمة) والبيئة الخارجية من حيث كوامن القوة لدينا ومكامن الضعف ومن حيث المخاطر أو التحديات التي تواجهنا من المحيط ومساحة الفرص المتاحة.

 وهذه المركبات الأربعة (قوة وضعف ومخاطر وفرص) تشكل بعض أدوات التحليل العلمي لمن أراد الخروج من مأزق الانسداد أو تقلص المساحات أو فقدان الدعم وهو أول المتوجب علينا-علينا كجماعة وكفريق وكمؤسسة وكمنظمة وليس كفصيل أو كشخص أي شخص لوحده أو بعينه- الإقدام عليه بكل شفافية تنقلنا نقلة ايجابية لرسم السيناريوهات (البدائل) الاستراتيجية فنختار منها المتوافق والمتناغم مع أهدافنا السياسية الكبرى أو المرحلية فنكون بذلك قد كرسنا الفكر والنظرية الاستراتيجية ونكون قد خلقنا مفاعيلا تحقق لنا الاستراتيجية العليا والاستراتيجية المرحلية.

 نحتاج لرسم سِراطيتنا أو استراتيجيتنا الجديدة في ظل رؤية تنبثق من 5 معطيات رئيسية هي: البرنامج السياسي الجامع، والادوات (الموارد البشرية) القادرة على تحقيق البرنامج السياسي، وطرق ووسائل العمل المتفق عليها لاستعادة مساحات الصراع وزيادة مساحات التأييد والدعم فيها والانقضاض على الخصم، ثم الالتفاف لأمر التمويل الذي بدونه لا تسير الجيوش ولا تتحرك الأدوات ولا تتقدم المشاريع، وفي المعطى الخامس والجذري فإن الائتلاف الداخلي أأسميناه مصالحة أو وحدة ووطنية أو لقاء فصائلي هو أمر لا بديل عنه في بناء أي استراتيجية كي لا يُنظَر الينا بازدراء واستهانة واستخفاف.