التصعيد الميداني في الخليج..قراءة من زاوية بعيدة بقلم:د. سمير مسلم الددا
تاريخ النشر : 2019-05-20
التصعيد الميداني في الخليج..قراءة من زاوية بعيدة  بقلم:د. سمير مسلم الددا


التصعيد الميداني في الخليج......قراءة من زاوية بعيدة

التصعيد الميداني الذي تشهده منطقة الخليج بين الولايات المتحدة وإيران وإرسال الأولى مزيدا من التعزيزات العسكرية إلى منطقة الخليج، أحدثها حاملة الطائرات "يو اس اس لينكولن" وقاذفات استراتيجية من طراز بي 52, ما زال يحظى باهتمام اعلامي صاخب على الرغم ان كل الاطراف المعنية بما فيها الرئيس الامريكي دونالد ترامب والمرشد الايراني على خامنئي قد اعلنوا اكثر من مرة انه لا يوجد رغبة لدي أي منهم في الدخول في حرب, هذا بالإضافة الى أن رئيسة مجلس النواب الامريكي نانسي بيلوسي حسمت الجدل حول هذا التصعيد في تصريح لها نقلته وكالة رويترز الخميس 16 ايار مايو الجاري, عندما أعلنت بوضوح ان "ادارة الرئيس ترامب لا تملك تفويضا من الكونجرس بشن حرب على ايران", واضافت بلوسي "ان ادارة ترامب ستقدم احاطة سرية لكبار اعضاء الكونجرس المعروفين بعصابة الثمانية حول تطورات الوضع مع ايران", ومن الجدير بالذكر انه بموجب القانون الامريكي على الرئيس الحصول على تفويض من الكونجرس في حالة اعلان دخول الولايات المتحدة في حرب مع اي جهة.
في الحقيقة ان هذه الموجة التصعيدية بين الطرفين لم تكن الاولى وان مثل هذه المناوشات لن تكن الاخيرة، وان كانت جعجعتها الاعلامية قد تبدو أكثر وهجا مقارنة بغيرها.
وجود حاملات طائرات امريكية في مياه الخليج في العقدين الاخيرين وبعد حرب احتلال العراق في 2003 هو امر مألوف وروتيني، فالأسطول الامريكي الخامس الذي توجد قيادته في البحرين يضم بين قطعه البحرية المختلفة حاملة طائرات، وكذلك الحال، تواجد قاذفات القنابل الضخمة بي 52 في المنطقة ايضا امرا ليس جديدا حيث يتواجد عدد منها في قاعدة العديد في قطر منذ سنوات، بيد ان الجديد في الامر هذه المرة هو السماح لوسائل الاعلام العالمية بنقل جانب من النشاطات الامريكية العسكرية في الخليج.
في هذا السياق, اذكر في اواخر العام 2001 ان حدة التصعيد الامريكي الايراني اتخذ منحى اكثر حدة مما هو عليه الان عندما دخلت مياه الخليج قبالة السواحل الايرانية حاملة الطائرات الامريكية جون سي ستينيس بمرافقة قوات ضاربة قوامها 9 سفن مقاتلة فقامت قوات الحرس الثوري الايراني قامت بإطلاق صواريخ باتجاه الحاملة الامريكية وكتم العالم أنفاسه وقتها ولكن الكثير من المراقبين راؤوا ان ذلك لم يكن أكثر من تصعيد اعلامي كان يرمي الى تنفيس الاحتقان في الشارع الامريكي في اعقاب الكارثة التي حدثت في نيويورك في 11 سبتمبر من نفس العام, وكذلك تخفيف حدة التركيز الاعلامي عن تلك الكارثة والذي كان يشكل ضغطا هائلا على ادارة الرئيس الاسبق جورج بوش الابن.
تكرر المشهد مرات متعددة, فمثلا في 2008 في سياق الضغط على ايران لتمكين فرق تابعة لوكالة الطاقة الذرية بموجب قرار لمجلس الامن الدولي لتفتيش المنشآت الذرية الايرانية والكشف عن حقيقة برنامج ايران النووي في عهد رئيسها السابق محمود احمدي نجاد, وعندها أقامت ادارة الرئيس الامريكي السابق باراك اوباما الدنيا ولم تقعدها وارسلت قوات عسكرية امريكية الى منطقة الخليج بما فيها حاملة الطائرات هاري ترومان وكذلك حاملة الطائرات يو اس اس ابراهام لنكولن كما اعلنت حينها الناطقة الرسمية باسم الاسطول الخامس الامريكي من قاعدته في البحرين, وتكرر الامر ذاته في عام 2012 جاءت الى الخليج حاملات طائرات اكثر من مرة, وفي عام 2014 وفي عام 2016 وعام 2018 وها هو الامر يتكرر المشهد مرة جديدة ولكن يصاحبه صخب اعلامي ملحوظ كما تمت الاشارة.
تباينت التوقعات والتحليلات التي تناقلتها وسائل الاعلام بشأن مستقبل الأزمة، هناك عدد من المحللين يتنبؤون بصيف حار جدا في الخليج هذا العام، اذ يرى هؤلاء ان الحشود العسكرية الامريكية هي حشود ضخمة وتحركاتها بهذه الكيفية وهذا الكم يعني ان المنطقة تنزلق نحو مواجهة عسكرية حقيقة, ويشير هؤلاء الى الضغوط الداخلية التي يتعرض لها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكذلك التحقيقات وتهم الفساد التي تنتظر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الحليف المقرب جدا من ترامب الذي ربما يجد نفسه مضطرا للهروب الى الامام في محاولة للسعي لتحقيق انتصارات خارجية لصرف الانظار عن مشاكله ومشاكل حليفه نتنياهو.
وهناك عدد أكبر من المراقبين يرى ان التحركات الامريكية ليس إلا مجرد ضغوط خشنة على طهران لارغامها على الرجوع عن رفضها المتكرر للتفاوض مع واشنطن والجلوس على طاولة المفاوضات لإبرام اتفاق نووي جديد بديلا عن الاتفاق الذي ألغاه قبل حوالي العام الرئيس دونالد ترامب، والذي أعلن وقتها انه سيبرم اتفاقا جديدا "أفضل" مع إيران ولكنه اصطدم بالرفض الايراني فيحاول ترامب الضغط على ايران عسكريا لإجبارها للرضوخ لعقد اتفاق بشروط جديدة.
هناك فريق ثالث من المختصين يروا ان تلك الازمة ستنتهي كسابقاتها الى لا شيء.
أكثر من مسؤول امريكي صرح بأن الولايات المتحدة لا تريد حربا مع إيران بما فيهم الرئيس ترامب (كما سبقت الاشارة) الذي نفى بشدة تقرير لصحيفة النيويورك تايمز اخر الاسبوع الماضي حول خطط للبيت الابيض بإرسال حوالي 120 ألف جندي للمنطقة، وهذا عدد يمثل الحد الادنى اللازم لنجاح لحرب فاعلة ضد إيران بحسب مسؤول ملف إيران السابق في البنتاغون كولين كاهل في تغريده له عبر تويتر والذي قال "إن نشر هذا العدد من الجنود لا يمكن أن يكون إلا في حالة التخطيط لغزو، موضحا أنه ورغم ذلك فالعدد لن يكون كافيا لغزو فعال".
حتى مستشار الامن القومي الامريكي جون بولتون الذي يصفه المراقبون بالصقر والأكثر تشددا تجاه ايران, صرح قائلا في السادس من ايار مايو الجاري لموقع اكسيوس الامريكي "أن واشنطن لا تسعى إلى الحرب مع طهران وانها أرسلت حاملة الطائرات "يو أس أس أبراهام لينكولن" كي تبعث برسالة واضحة لإيران مفادها أن أي هجوم على مصالح الولايات المتحدة سيقابل بقوة شديدة ونحن على استعداد للرد على أي هجوم من قبل الحرس الثوري أو الجيش النظامي الإيراني أو عبر وكلائهم".
من جهته, وزير الخارجة الامريكي مايك بومبيو والذي لا يقل تشددا عن بولتون مع الملف الايراني صرح بان "الولايات المتحدة لا تريد حربا مع ايران" واضاف في مؤتمر صحفي مع نظيره الروسي سيرجي لافروف في منتجع سوتشي يوم الثلاثاء 14/05/2019 سنرد فقط في حال تعرضت مصالحنا للخطر"
وفي السياق نفسه, عندما طلب أحد الاعلاميين من الرئيس ترامب خلال مؤتمر صحفي له الاسبوع الماضي في البيت الابيض التعليق على الاعتداءات على ناقلات النفط السعودية والإمارتية في مياه الخليج قبالة شواطئ الفجيرة قال: "لن يكون الايرانيون سعداء اذا ثبت تورطهم في هذه الاعتداءات", من جهتها ايران نفت بشدة مسؤوليتها عن تلك الاعتداءات بل ادانتها باقوى العبارات, فيما أشارت دوائر استخبارية غربية واقليمية الى وجود اصابع اسرائيلية خلف تلك الاعتداءات بهدف مزيد من التأليب الامريكي ضد ايران, وهذا ما حدا بالمرشد الايراني على خامنئي للقول الثلاثاء 14/05/2019: "ان الولايات المتحدة لا تريد الحرب وايران لا تريد الحرب ولكننا لن نتفاوض مع الامريكان".
ما سبق (في لغة السياسة) يشير الى ان الولايات المتحدة غير جادة في ما تقوم به من تصعيد ميداني.
أما استراتيجيا, فهناك قراءة أخرى مختلفة لتفسير ما يجري فوق السطح.
إيران لها تاريخ طويل مع التكنولوجيا النووية منذ زودتها الولايات المتحدة الامريكية بهذه التقنية منذ الخمسينات في عهد الشاه، فالمسألة لم تعد مجرد مسألة تكنولوجيا نووية فحسب، بدليل ان ادارة براك اوباما توصلت لاتفاق حول هذه المسألة مع إيران وانتهت القصة.
ان التصعيد الامريكي على إيران يهدف الى منع تصدير النفط الايراني كما قال وزير خارجية الولايات المتحدة الامريكية في مؤتمر جمعه الاثنين 13/05/2019 في بروكسل مع فردريكا موغيريني مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الاوروبي، وهذا الاجراء بحسب هؤلاء يهدف بالدرجة أهم منافسي الولايات المتحدة التجاريين، وأعني الصين بالدرجة الاولى.
نعم، التصعيد الامريكي في الخليج له علاقة مباشرة بمواجهة الرئيس دونالد ترامب مع منافسيه التجاريين، واقصد الصين بالطبع وهي أكبر مستورد للنفط الايراني وبأسعار منافسة حسب موقع ستاندرد اند بورز جلوبال بالانس المختص بشؤون النفط، ومن ثم الهند وتركيا واليابان بدرجة ثانية.
يهدف منع إيران من تصدير نفطها الى حرمان الصين من الحصول على ما يقارب مليون برميل من النفط الايراني يوميا بأسعار خاصة واجبارها حسب المخطط الامريكي على البحث عن مصادر بديلة وطبعا بأسعار اعلى مما يعني رفع تكلفة المنتجات الصينية وبالتالي خفض قدرتها على مناسفة المنتجات الامريكية في الاسواق العالمية، علما بأن ايران هي الدولة النفطية الوحيدة التي تزود ايران بالنفط بأسعار خاصة وفي تقدير خبراء إستراتيجيين ان اهم بنود الاتفاق الجديد التي تتطلع اليه ادارة ترامب مع ايران سيكون سعر النفط الايراني المصدر للصين.
ويأتي ذلك في سياق الحرب الاقتصادية التي تشنها على الصين ادارة الرئيس الامريكي دونالد ترامب والتي ترى انها (أي الصين) تشكل تهديدا حقيقيا على زعامة الولايات المتحدة للاقتصاد العالمي.
هناك تحليل اخر يذهب الى وجود تحالف وطيد غير معلن بين الولايات المتحدة وايران يهدف الى ابقاء المنطقة مشتعلة على الدوام تناغما مع الاستراتيجية الامريكية التي ارست دعائمها في المنطقة منذ اكثر من ربع قرن مستشارة الامن القومي ووزيرة الخارجية السابقة كوندليزا رايس واطلقت عليها الفوضى الخلاقة لابقاء المنطقة في حالة دائمة من اللاستقرار والفوضى بهدف دفع انظمة الحكم في المنطقة للهرولة الى الولايات المتحدة طلبا للحماية من السقوط في دوامات تلك الفوضى التي تشكل تهديدا خطيرا لتلك الانظمة والتي عندئذ سيكون من السهل اخضاعها للأجندة الامريكية بما في ذلك ابتزازها والحصول على مقدراتها والسيطرة على خيراتها وثرواتها, ناهيك عن تمرير السياسيات الامريكية بغض النظر عن تطابقها او حتى تعارضها مع المصالح الوطنية.
وهذا هو الدور القذر الذي قامت الدول الاستعمارية بقيادة المملكة المتحدة (قبل تسليمها راية زعامة الدول الاستعمارية للولايات المتحدة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية) بإنشاء اسرائيل من اجله، أي ان دور اسرائيل في المنطقة هو بحسب توصيات مؤتمر كامبل بانرمان رئيس وزراء بريطانيا عام 1907 هو بقاء الدول العربية في حالة دائمة من الاضطراب والفوضى وعدم الاستقرار والضعف ليسهل على الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة السيطرة تلك الدويلات الضعيفة وعلى مقدراتها وفي نظير ذلك تقدم الولايات المتحدة دعما اقتصاديا وسياسيا وعسكريا لا محدود لإسرائيل مقابل تلك الخدمات الاستراتيجية, وهذا ما يفسر الدعم اللامتناهي واللامنطقي التي تتلقاه اسرائيل من الولايات المتحدة التي ورثت بريطانيا في زعامة المنظومة الاستعمارية كما اشرنا, وأذكر في السياق في عام 1991 ابان ترتيب مؤتمر مدريد للسلام بين العرب واسرائيل أن الولايات المتحدة ضغطت على إسرائيل للحضور الى المؤتمر بوقف ضمانات قروض بقيمة 10 مليار دولار كانت تسعى للحصول عليها حكومة اسرائيل برئاسة سيئ الخلق والخلقة اسحق شامير الذي صرح حينها "أن اسرائيل تقدم خدمات استراتيجية للولايات المتحدة قيمتها تفوق قيمة ما تقدمه الاخيرة لنا من مساعدات" في اشارة منه الى تلك الخدمات القذرة كما ذكرنا آنفا.
اسرائيل ترى ان ايران منافسا خطيرا لها في خدمة المصالح الامريكية (نشر الفوضى وعدم الاستقرار) في المنطقة، وهذا بالنسبة لإسرائيل مسألة حياة او موت, لان ظهور منافس بحجم ايران قد يؤدي الى تآكل الاهمية الإستراتيجية الفائقة والاستثنائية التي تحظى اسرائيل لدى الولايات المتحدة التي تشكل سر بقاء اسرائيل في الوجود وشريان حياتها, وهذا الامر هو سر العداء الحقيقي بين اسرائيل وايران وليس أي شئ اخر بما فيها الاسلحة النووية الايرانية المحتملة والتي قال عنها الجنرال جون أبي زيد رئيس اركان الجيوش الامريكية سابقا والسفير الامريكي الحالي في الرياض "القبلة النووية الايرانية لا تعني لي شيئا" علما ان اسرائيل لديها حوالي 200 قنبلة نووية كما كشف الخبير النووي الاسرائيلي السابق الذي عمل في مفاعل ديمونا لمدة 9 سنوات مردخاي فعنونو لصحيفة الصنداي تايمز عام 1985 قبل ان تخطفه المخابرات الاسرائيلية.

اخر الكلام:

على الارجح حسب المعطيات التي اوردناها، فان الولايات المتحدة تهدف من وراء هذا التصعيد في المنطقة الى المزيد من "الحلب" وليس الحرب.

د. سمير الددا
[email protected]