معركة الهوية .. والحقوق بقلم:محمد السهلي
تاريخ النشر : 2019-05-19
معركة الهوية .. والحقوق
محمد السهلي
أدت عوامل عدة، ذاتية وموضوعية، إلى وقوع النكبة الفلسطينية واستمرار تداعياتها إلى يومنا هذا ونحن نحيي ذكراها الحادية والسبعين. وتوافرت، في المدى نفسه، عوامل كثيرة ،قطعت الطريق على مهندسي المشروع الصهيوني في جعل واقعة النكبة فصل الختام في حياة الشعب الفلسطيني.
ضمن هذه المعادلة، بقي الصراع قائما بين مشروعين، المشروع الاستعماري الإحلالي الذي يسعى لفرض الاعتراف بنتائج النكبة والتسليم بها، والمشروع الوطني الفلسطيني التحرري، الذي يعمل على إزالة هذه النتائج، وإعادة الشعب الفلسطيني إلى سكة تطوره السياسي والاقتصادي والاجتماعي الطبيعي على أرض وطنه، كما هو حال شعوب الأرض ومجتمعاتها.
وبين المشروعين المتعاكسين دارت جولات طويلة وقاسية من الصراع، حقق الفلسطينيون، ومن معهم، في بعضها، انتصارات وانجازات، وأصابتهم في بعضها الآخر خيبات ونكسات، وتناسلت نكبتهم كلما تفرع طريق مسعاهم الوطني نحو الاتجاهات الخاطئة.

يمكن القول إن الجولة الأولى الهامة والمفصلية التي انتصر فيها الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية كانت معركة الدفاع عن هويته الوطنية وحمايتها من التبديد. وبدأ طريق النصر في هذه المعركة مع انطلاقة ثورته المعاصرة، وانعقد له النصر تماما مع بلورة برنامجه الوطني الائتلافي في إطار منظمة التحرير التي تم الاعتراف بها، وفق هذا البرنامج، على الصعيدين العربي والدولي كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده، والاعتراف بحقه في تقرير مصيره بنفسه. وشكل هذا الاعتراف رافعة مهمة وضعت المجتمع الدولي أمام التزامه بوجوب وضع قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وفي المقدمة القرار 194 في حيز التطبيق، خاصة أنه ربط عضوية الدولة العبرية في الأمم المتحدة بموافقتها على هذا القرار وتوقعيها «بروتوكول لوزان».
وشكل هذا الانتصار في الوقت نفسه ضربة كبيرة للرواية الصهيونية حول النكبة، التي حاولت من خلالها الدولة العبرية، بدعم من حلفائها، تسويق مشاريع توطين اللاجئين الفلسطينيين في أماكن لجوئهم أو تشتيتهم في مواقع أخرى. والأهم أن هذا الانتصار ترافق مع رزمة من القرارات الدولية صبت لصالح الشعب الفلسطيني، ومن بينها قرار المساواة بين الصهيونية والعنصرية، في مرحلة اتسمت باتساع التأييد الإقليمي والدولي لتجسيد الحقوق الوطنية الفلسطينية، وفي سياق النهوض الوطني الفلسطيني، البرنامجي والميداني، في مواجهة الاحتلال وسياساته.
ويمكن القول أيضا أن ما زاد من قيمة هذا الانتصار، أنه شكل ردا قويا، ليس فقط على محاولات تكريس نتائج النكبة والتسليم بها، بل أيضا على نتائج نكسة حزيران /يونيو، التي حاولت من خلالها الدولة العبرية أن تضع الفلسطينيين والعرب أمام استحقاقات جديدة وكبيرة تقصي تداعيات النكبة واستحقاقاتها عن التداول السياسي، والانشغال بشعار «إزالة آثار النكسة».
أهمية البرنامج الوطني الفلسطيني الذي اعتمدته منظمة التحرير الائتلافية أنه ربط ما بين استحقاقات النكبة والنكسة معا، عندما كامل ما بين الحقوق الفلسطينية في العودة وتقرير المصير وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. ولذلك تركز الهجوم الإسرائيلي والأميركي على هذا البرنامج من خلال مشاريع ومبادرات تسعى للفصل ما بين هذه الحقوق تمهيدا للمقايضة فيما بينها، من نمط «الدولة مقابل العودة»، وثبت أن الهدف الإسرائيلي ـ الأميركي من ذلك هو نسف الاثنين معا.
وهذا ما يفسر الرفض السياسي الفلسطيني الواسع لاتفاق أوسلو من زاوية أنه فتح الباب أمام هذه المقايضات عندما غيب قرارات الشرعية الدولية عن أساس التسوية السياسية، واعتمد آليات تفاوض وزعت البحث في القضايا الأساسية على مسارات تفاوضية متعددة، وقصد تهميش هذا البحث بما يخص قضيتي اللاجئين والنازحين الفلسطينيين، ووضع البحث في مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967 رهن مفاوضات ماروتونية مديدة في ظل تغييب أية شروط تمنع دولة الاحتلال من مواصلة الاستيطان.
لذلك، من الصحيح القول إن فرض تسوية سياسية من نمط «أوسلو» على الشعب الفلسطيني لا يأتي بعيدا عن محاولة تل أبيب وواشنطن الرد على هزيمتهما في معركة «الهوية» التي سبق وانتصر بها الفلسطينيون في سبعينيات القرن الماضي على الصعيدين الإقليمي والدولي. فمن المعروف أن دولة الاحتلال وحلفاءها لا يقرون بهزيمتهم في أية جولة، بل يعتبرونها معركة مؤجلة بانتظار ظروف أخرى، كما حصل عند اعتماد القرار الدولي الذي ساوى ما بين الصهيونية والعنصرية، لتعود واشنطن وتل أبيب إلى فرض التراجع عنه عندما تغيرت الخريطة السياسية العالمية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية.
وهذا يعني أن معركة الهوية التي سبق وانتصر فيها الفلسطينيون لم تنته بعد بالنسبة للدولة العبرية وحلفائها، كما أن فصول النكبة الفلسطينية لم تنه أيضا بالنسبة لها. وعلى هذا الأساس تمارس سياستها التوسعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وإذا كان مسألة الهوية محسومة لدي الفلسطينيين فيما يخص انتمائهم وتاريخهم ومسعاهم الوطني، فإن المشروع الصهيوني يشتغل أولا على تغيير«هوية الأرض» باعتبارها جوهر الصراع القائم. ويسعى عبر ذلك لفرض واقع «اللاهوية» على الشعب الفلسطيني، مع يقيننا بالفشل المحتوم لهذه المحاولة ، وهذا ما تؤكده الوقائع الميدانية وخاصة مع تحول فعاليات إحياء ذكرى النكبة إلى برنامج نضالي سياسي وشعبي كما تعبر عنها على سبيل المثال مسيرات العودة وكسر الحصار في قطاع غزة، وفي المسيرات والفعاليات التي يقيمها الفلسطينيون للمناسبة في أراضي الـ48 ، ويشارك في جميع هذه الفعاليات وفي جميع الأماكن، مختلف أجيال الشعب الفلسطيني وخاصة الجيل الفتي في تأكيد على فشل المقولة الصهيونية «الكبار يموتون والصغار ينسون».
ومن ضمن سعي الدولة العبرية المحموم للرد على الانتصار الفلسطيني في معركة الهوية الوطنية يمكن قراءة الضغط الأميركي ـ الإسرائيلي الموحد على الحالة الفلسطينية كي تتخلى عن أبرز صانعي الانتصار في هذه المعركة وهم الشهداء والجرحى والأسرى وعائلاتهم وعدم تخليد ذكراهم وبطولاتهم. ومن هذه الزاوية تأتي الإجراءات العدوانية الأميركية والإسرائيلية عبر قرصنة أموال المقاصة الفلسطينية وقطع المساعدات عن المؤسسات الفلسطينية، وعن الأونروا احتجاجا على مناهجها التعليمية وخدماتها التي تساعد اللاجئين على الصمود في تمسكهم بحق عودتهم وديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها منذ العام 1948.
إنها معركة الهوية .. وهي أساس معركة الحقوق.وكما انتصر الفلسطينيون في الأولى، يمكن أن أن ينتصروا في الثانية، عندما يستعيدون زمام المبادرة تحت راية البرنامج الوطني التحرري ، في إطار منظمة التحرير ممثلهم الشرعي .. والوحيد.