الصَّومُ بينَ ضبطِ الحاجاتِ والاستعلاءِ على الرَّغباتِ بقلم:زعيم الخيرالله
تاريخ النشر : 2019-05-16
الصومُ بينَ ضَبطِ الحاجاتِ والاستعلاءِ على الرغباتِ
-------------------------------------------------
زعيم الخيرالله
--------------
هناك حاجاتٌ لدى الانسان ليس في وسعه الغاؤُها ، بل لابُدَّ من الاستجابةِ لندائها واشباعِها . والحاجةُ في اللُّغَةِ هي مايفتَقِرُ اليهِ الانسانُ ويَطلبُهُ . والحَوجُ الافتقارُ.
والحاجاتُ الانسانيةُ التي لايستطيعُ الانسانُ الفكاكَ منها حاجاتٌ مُتَنَوِّعةٌ منها حاجاتٌ بيولوجيَّةٌ ومنها حاجاتٌ نفسيّةٌ ، ومنها حاجاتٌ عقليَّةٌ ، واخرى حاجاتٌ وجوديةٌ كالحاجة الى الارتباطِ بالمطلق حسب تعبير الشهيد السيّد محمد باقر الصدر رضوانُ اللهِ عليه.
والانسانُ بحاجةٍ ماسَّةٍ الى ضَبطِ هذهِ الحاجاتِ والسيطرةِ على جِماحِها ، وكبحِ غَلوائِها، ومنعِ فَلَتانِها.والصومُ يُحّقِقُ هذهِ الغايةَ.
أَمّا الرغبةُ في اللُّغَةِ ، فقد جاءّ في لسانِ العربِ :
( الرغبةُ : الحرصُ على الشَّيءِ والطَّمَعُ فيهِ . ورغبَ في الشيءِ رغباً وَرَغبَةً ارادَهُ، وَرَغِبَ عن الشيءِ تركهُ مُتَعَمِّداً ، وزَهدَ فيهِ لم يُرِدهُ . يقالُ: رغبتُ بفلانٍ عن هذا الامراذا كرهتُهُ له ) .
امّا الرغبةُ فلسفيّاً فعرَّفها لالاند في معجمه الفلسفيِّ بانَّها :
( مَيلٌ عفويٌّ واعٍ نحوَغايةٍ معلومةٍ او متخيّلّةٍ ، وضدها النفور) .
الاستخدامُ القُرانيُّ لمفردةِ الحاجةِ
-------------------------------
وردت مفردةُ الحاجةِ في القرانِ الكريمِ في مواضعَ :
قوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ۚ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) سورة يوسف : الاية : 68.
وقولهُ تعالى : (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ).غافر: الاية : 80 .
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) . الحشر : الاية : 9.
الرغبةُ والحاجةُ عندَ ميلاني كلاين
--------------------------------
ميلاني كلاين محللة نفسيّة ، اهتمت بدراسة علم نفس النمو عند الاطفال ، وفي حديثها عن الحاجةِ والرغبةِ ترى كلاين : ( أَنَّ اولَ موضوعٍ يتعاملُ معهُ الطفلُ هو ثديُ امهِ ؛فيحقق من خلالهِ حاجاته ورغباتهِ معاً . والحاجةُ عندَ ميلاني كلاين تَتَعَلَقُ بما هو بيولوجي عضوي ( الغذاء) ، في حين ان الرغبةَ ترتبطُ بما هو نفسيٌّ (الامن) .
وانا اقرأُ هذهِ المقولةَ لهذهِ العالمة النفسيّة في مقاربتِها للحاجة والرغبةِ ن تذكرتُ قوله تعالى : (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ). قريش: الاية : 4.
فهناك حاجة للطعام لسدِّ حاجة الجوع ، وانا اختلف مع كلاين في اعتبارها ان الامن رغبةٌ وليسَ حاجةً . فالامنُ حاجة ؛ الا انّه ليس حاجةً بيولوجيّةً وانما هو حاجةٌ نفسيّةٌ .
ومشكلةُ كلاين انها قصرت حاجات الانسان على الحاجات البيولوجية.
ماسلو ونظرية تعدد الحاجات
---------------------------
عالم النفس الامريكي اليهودي ابراهام ماسلو تحدث عن تدرج الحاجات ، وقدمَ نظريةً نفسيّةً في ورقةٍ بحثيّةٍ حولَ نظرية الدافع البشري عام 1943م ، تحدثَ فيها عن حاجاتٍ انسانيّةٍ متعددة منها : حاجات الانسان الفسيولوجيّة ، وحاجات الامان ، والحاجات الاجتماعية ، والحاجة للتقدير ، والحاجة الى تحقيق الذات.
الرغبةُ في القران الكريمِ بينَ الصُّعُودِ والهبوطِ
-------------------------------------------
هناكَ رغبةٌ ساميةٌ مُتَعاليّةٌ ، وهي الرَّغبةُ الى الله تعالى ، وهي اسمى الرغبات واعلاها ، وهذه الرغبةُ لم يتحدث عنها علماءُ النفس ؛ لان بحثهم انصبَّ على جسد الانسان وحاجاته وغرائزه وميوله الهابطة الا القليل منهم امثال ماسلو.يقول الله تعالى :
(عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ). القلم : الاية : 32.
فهناك رغبة هابطة هي رغبةُ البقاء في الحياة ، والتخلف عن رسول الله (ص) كما في قوله تعالى :
( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).التوبة : الاية : 120.
وهناك رغبةٌ عن ملة ابراهيم الخليل ، وهي رغبةٌ عن الحنيفية والاستقامة، ومن يرغب عن ملة ابراهيم وصفه القران بالسفه ، يقول الله تعالى :
( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين). البقرة : الاية : 130.
وهناك رغبة هابطةٌ ، رغبةٌ في الاصنام التي لاتضر ولاتنفع ، ورغبةٌ عن الله الغنيّ المطلق. يقول الله تعالى على لسان آزر وهو يخاطب ابراهيم (ع) :
( قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).مريم : الاية: 46.
الصومُ بينَ الضبطِ والاستعلاءِ
-----------------------------
من اهمِّ وظائفِ الصومِ هي ضبط الحاجاتِ وكبحِ جماحها ، وَوَضعِها في حُدودها الصحيحة ؛ فحالةُ التَرفِ التي هي : اطلاق العنان للحاجات لتتجاوز حدودها ، وتنفلت عن ضوابطها ، وفي نفس الوقت يُعلي الرغبات ؛ لتكونَ رغباتٍ ساميةً تُحَلِّقُ بالصائمين في افاقٍ بعيدةٍ عن تطلعاتِ المادةِ واوحالِ الطين.
الصومُ يضبطُ حاجاتِ الانسانِ من الانفلات والتخريبِ والتدميرِ ، ليجعَلَها حاجاتٍ بنّاءَةً، ويعلي من شان الرغبات ، ويحرك في الانسان رغبات كامنة تتطلعُ الى السمّو، ويجعل الصائمَ يستعلي على رغباته الهابطة ولايكون اسيراً لها.