العودة من حلم إلى ممارسة عملية بقلم: د. نايف جراد
تاريخ النشر : 2019-05-15
العودة من حلم إلى ممارسة عملية
بقلم: د. نايف جراد

دأبنا في الساحة الفلسطينية على إحياء ذكرى النكبة بمجسمات كبيرة لمفاتيح توضع في بوابات المدن أو تعلق في الغرف والصالات وعلى الصدور، وتنظيم المؤتمرات والندوات والمعارض، وتوزيع الدروع التكريمية واذاعة الأغاني والأناشيد وتنظيم الدبكات والرقص الشعبي، وكتابة قصص وحكايات اللجوء وشهادات التأريخ الشفوي لمن بقيوا أحياء ممن عاصروا وعايشوا النكبة، وكذلك بالحسرات والندب والخطابات الرنانة وتدبيج المقالات والكتابات التي تؤكد على التمسك بحق العودة كحق مقدس، وعلى الرغم من أهمية أي عمل يكرس ذاكرة النكبة وينشر الوعي بها ويحفظ الذاكرة الوطنية، ويؤكد الرواية الفلسطينية والحقوق والتمسك بها، الا أن المطلوب هو الاقتداء بجماهير شعبنا في الجليل والمثلث والنقب وقواها السياسية والمجتمعية الحية، وبالمبادرات الشعبية التي استطاعت أن تجعل من حق العودة مطلبا وهدفا يمارس باشتباك ميداني مع مرتكب جريمة النكبة في مكانها الذي ارتكبت فيه وتمت عبر سياسة اجرامية ممنهجة من المجازر والتهجير القسري الجماعي والحرب النفسية، والتي تؤكد أن أصحاب الأرض الأصليين باقون على أرض الآباء والأجداد متمسكين باستعادة حقوقهم، وان من لجأ داخل الوطن او خارجه لا يتنازل عن حق العودة رغم كل الصعاب، ناقلين حق العودة من الحلم والعاطفة والتأكيد على المقدس الذي لا يسقط بالتقادم إلى ممارسة عملية تجعله هدفا ومهمة قابلة للتحقيق العملي في اطار رؤية شاملة مستندة للحق والمشاركة وقيم العدالة والمساواة، مساهمين فاعلين في بناء "حركة حق العودة" من خلال مزاوجة التنظير العلمي المؤسس على الحقوق مع المشاركة المجتمعية، المعتمدة على مداخل العمل الشعبي والمجتمعي التشاركي وعلى شمولية العمل في الإطار الوطني العام.

انها تجربة تثبت بالملموس أن البيانات والأنشطة والشعارات التي تقتصر على الدعوة للتمسك بحق العودة، تبقى قاصرة عن الوصول للحق، وأن حق العودة يستدعي كغيره من الحقوق تأسيسه وبناءه والارتقاء به على أساس النهج المستند للحقوق لممارسة فعلية تعزز ثقة اللاجئين بالصفة العملية القابلة للتنفيذ لحق العودة، وبالتالي اعتماد آليات وأشكال عمل جديدة تسمح بانخراط فعلي لمجتمع اللاجئين في العودة من خلال تمكينهم من القيام بفعاليات وأنشطة ميدانية تستهدف إنفاذ الحقوق، وتكون ذات طبيعة فعالة ومستدامة، تؤكد للجميع أن حق العودة ليس شعارا، وليس موقفا تاريخيا أو محط إجماع وطني فحسب، بل معين لا ينضب للممارسة والتطبيق العملي.

وكان لنا أمل بان تشكل مسيرات العودة  التي نظمت عامي 2011 و2012 نموذجا يحاكي هذا النهج المشار اليه، وهي الشكل الذي طالما حذر عتاة الصهاينة من حدوثه ونبهوا لخطره على كيانهم، حيث يزحق اللاجئون على الحدود ومن داخل وطنهم ليعبروا عن ارادتهم الجماعية بالعودة كحق فردي وجماعي محمي بالقانون الدولي، لكنها للأسف لم تحقق الهدف المطلوب رغم الرعب الذي لحق بالكيان جرائها، واستثمرها البعض وتاجر بها. كما وتجدد الأمل مع مسيرات العودة التي انطلقت بمناسبة يوم الأرض عام 2018، والتي عبرت عن ابداع جديد على هذا الصعيد. لكن وللأسف فقد انحرفت عن اهدافها واستثمرت في غير الغاية التي انطلقت من أجلها وباتت أداة للمساومة على الحق مقابل فتات هدنة وتهدئة هشة يتحكم بها المحتل الغاصب وتبرمج على وقع دفعات الدعم المالي المسموم، مما فسح في المجال لتحويل الأبعاد السياسية للصراع مع العدو إلى سياق إنساني وبحيث باتت المساعدات الإنسانية المزعومة، أحد ملفات "الحل الاقتصادي" الذي نادت به إسرائيل والولايات المتحدة طوال الوقت، والذي تتضمنه صفقة القرن الجاري تطبيقها على الأرض.

علينا أن نتعظ من التجربة، وان نراكم على خبرة شعبنا، وفي الظروف المستجدة بات من الملح ان نتعامل مع الأمر بمقاربة علمية جديدة للصراع الدائر كمواجهة مع شكل جديد، أكثر بشاعة من أشكال الفصل العنصري تتيح تفهما أفضل لرفض سياسة التهجير القسري وتفسح في المجال لدعم أفضل وأوسع لحقوق اللاجئين والمهجرين قسريا في العودة والتعويض واستعادة الممتلكات، ومن خلال ذلك يمكن النفاذ إلى جذر الصراع الذي يعود إلى النكبة الفلسطينية باعتبارها أكبر عملية تطهير عرقي تعرض لها الشعب الفلسطيني على يد العصابات الصهيونية ودولة إسرائيل، وهي العملية المستمرة بتأثيراتها ومفاعيلها في حاضر الفلسطينيين ولا يمكن تصفيتها إلا بالقضاء على كل أشكال التمييز العنصري الذي يتعرضون له. ولا يمكن لأية مخططات، مهما تلاعب وتفنن اصحابها بتسميتها، كصفقة أو رؤية أو عملية او خارطة طريق أو غير ذلك، أن تغيب هذا الواقع، وإن استطاعت مؤقتا ان تموهه او تسكنه وتؤجل انفجاره.

إن هذه المقاربة وسلوك المنهج المستند للحقوق المسنود بممارسة جماهيرية فعلية فاعلة لانفاذها، وتعرية سياسة التطهير العرقي والفصل العنصري المستمرة بأشكال وأساليب عاهرة، والمستندة للتنكر للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني وشرعة حقوق الانسان، ولإرادة المجتمع الدولي، من شأنها أن تعطي دفعة قوية للمطالبة بضرورة إنفاذ القانون الدولي وتأمين الحماية الدولية للاجئين ولشعبنا بأسره، وتفعيل آليات الإلزام الدولية التي تفرض على إسرائيل الانصياع لقرارات الأمم المتحدة والاتفاقات والمواثيق الدولية ذات الصلة كالقرار الأممي رقم 194 واتفاقية اللاجئين الدولية لعام 1951 وملحقها الصادر عام 1967، وغيرها من المواثيق والمبادئ الدولية المتعلقة باللاجئين والتهجير القسري، والتي تؤكد حق اللاجئين والمهجرين قسريا، فرادى وجماعة، بالعودة واستعادة السكن والأملاك والتعويض وإعادة التأهيل، وبحق الشعوب المستعمرة كشعبنا بالتحرر والاستقلال وممارسة سيادته على أرض وطنه،  وأن لا حل غير ذلك. فحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، كما نصت عليها قرارات الشرعية الدولية بوضوح، والمبينة في قرار الجمعية العامة رقم 3236 لعام 1974، لا يمكن ان تبقى عرضة للانتهاك والتنكر أبد الزمان، ولا يمكن لقوة مهما طغت أن توقف حركة التاريخ، فلا حل لقضايا الشعوب الا في سبيلين، فإما تقرير المصير الجماعي كشعب على أرض وطنه وأرض آبائه وأجداده بشكل حر وعلى قدم المساواة مع الشعوب الأخرى، أو تمتع جميع أفراده كبشر بكامل حقوقهم المتساوية مع الآخرين، و كلتا الحالتين، كما دلت تجارب شعوب عديدة، ومنها تجربتي ناميبيا وجنوب افريقيا، لا بد فيهما من تصفية نظام الفصل العنصري البغيض، وهو ما يتوجب توجيه البوصلة نحوه هنا، وبحيث يجمع ويحشد للنضال من أجله جميع من يؤمن بحرية وكرامة الانسان والشعوب.