على ضفاف نهر الحُب (٣) بقلم: طارق ناجـح
تاريخ النشر : 2019-05-11
على ضفاف نهر الحب (٣)
-----------------------------------
تناول الأربعة العشاء ، وأثناء تناولهم الشاي ، الذي إحتضنته أيديهم في لهفة وشوق ، ليبعث بعض الدفء في أطرافها المتجمدة ، وفي أبدانهم المرتعشة من شدة البرد القارص الذي سيجعل ليلَّهُم طويل جداً .. نظر عم إبراهيم إلى مهران موجِّهاً له الحديث :-
على ضفاف نهر الحب (٣)
- ده بقى يا سيدي يبقى يوسف ناجي .. من الصعيد .. وطالب في السنة النهائية بكلية التجارة اللِّي في عين حلوان ، ومعنا هنا بالليل !!
فقال مهران مرحباً :- يا أهلاً وسهلاً بِيكْ يا أخ يوسف معانا .
فأومأ له يوسف برأسه إمتناناً لترحيبه ، ولأنَّهُ أيضاً أبو ياسمين .
عم إبراهيم ناظراً لفرسانهُ الثلاثة :- يَلَّا بقى يا جماعة علشان ورديِّتنا بدأت .. وَزَّعوا نَفْسُكم .. يوسف مُرّْ على الجنب الغربي اللي على البحر ( يقصد النيل ) ، ياسر ! إنت الجنب القبلي علشان السور واطي ، أمَّا إنت يا سعيد فَمُّر على الجنب الشرقي من بَرَّه على الشارع .. وأنا هاستنَّاكم عند البوابة .. هَلِّم لكم شوية خشب علشان نِدَفَّى ولو ملقيتش يبقى نكسر بقى العجلة الخشب الكبيرة اللي كان ملفوف عليها الكابل اللي خِلِص .. ولو إنَّها هتتعبنا لحد ما نفككها من بعض .
إنصرف كل واحد في إتجاه ، ليجتمعوا مرة أخرى بالقرب من البوابة بعد أن تأكدوا إنه حتى الآن لا يوجد دخيل بالمكان ، ولا يوجد أحد سوى مهران وأسرته الذين ولابد أنهم قد لاذوا بفراشهم ليحتموا من البرد تحت الغطاء الثقيل بعد أن غادر إبراهيم وفرقته ، و أحمد الخَرَّاط الذي يعمل على ماكينة الخراطة ومساعده حسين ، وعبدالله الكهربائي والذين يعملون بوردية الليل .
كان عم إبراهيم يعلم جيداً أن فريقه لن يستطيع الصمود حَتَّى الصباح مستيقظاً مِثلهُ فقال لهم :- يَلَّا يا يوسف شوفلك ركن وناملك ساعتين ، و بَعدك ياسر ، أما أنت يا سعيد فهتستَنَّى للآخر .
سعيد :- اللي تشوفه يا أبو ياسر .
******************************
مضت الليلة الأولى ليوسف في مكان حراسته الجديد مثل ليالي كثيرة أمضاها في حراسة أماكن أخرى ، وإن كانت هذه الليلة لها عبق ورائحة "الياسمين" .. فلقد دق قلبه لمرءاها .. وأصابه سهم عشق رقتها ومحياها .. ولو كان بيده لم أطلق كلمة أنثى على سواها .. فالأنثى في نظره ماهي إلا مزيج من الخجل والحياء .. الرقة و السحر والضياء .. جمال الجسد والروح ، وعقل يشع ذكاء ..
ودَّع يوسف رفاقه إلى لقاء في المساء . وخرج من البوابة وإتجه يساراً ليتناول إفطاره على إحدى عربات الفول الخشبية المتناثرة على الكورنيش قبل ذهابه إلى حجرته الكائنة بأحد أسطح المنازل المٌتاخمة لسور المصنع الحربي بالمعصرة ، ليغير ملابسه ويتجه إلى كليته بعين حلوان . وأثناء خروجه من البوابة مسرعاً كاد يصدم فتاة تحمل بيدها كوب معدني كبير ، ويدها الأخرى مطبقة فيما يبدو على نقود معدنية أيضا . وبعد أن تمالك نفسه وقدم إعتذاره وهو مطأطئ الرأس ، ورفع بصره ليرى من كاد أن يصدمها ، فإذا بها هي !! نعم هي !! إنها من المرات النادرة التي يسعده الحظ فيها ، ويَهِبه لحظات من السعادة النادرة الحدوث .
يوسف مُحيياً :- صباح الخير يا أنسة ياسمين .
ياسمين وعيناها حائرة تنظر ذات اليمين وذات اليسار وكأنها تخشى أن يراها أحد :-
صباح الخير يا أستاذ يوسف .. مش يوسف برضه ؟؟
يوسف وهو يَهِّم بالسير ليلحق بها :- أيوه يوسف . شكلك كده رايحة تجيبي إفطار ؟!
ياسمين :- كالعاده ..
يوسف :- ده أنا محظوظ إني هاشوفك كل يوم الصبح .
ياسمين :- إنت بتبالغ يا أستاذ يوسف !!
يوسف :- طالما هنشوف بعض كل يوم .. و هَنفطَر من نفس قدرة الفول .. يبقى بلاش كلمة أستاذ ، وأنا كمان هقولك يا ياسمين من غير أنسة .
ياسمين ، وقد إحمرت وَجنَتاها :- خلاص ماشي .
وضع لها عم محمود .. بمريلته التي كانت في مضى بيضاء ، ولكن بقع الزيت والسلطة والفول أحالتها إلى لون داكن من الصعب تحديده .. بعض الفول في كوبها المعدني والبخار يتصاعد منها ،وأعطاها أيضا قرطاس ملئ بالطعمية ، وبضع أرغفة .. هذا كله دون أن تنطق ببنت شفة ، وأبتسم لها وهي تضع النقود في يده ، ولسان حاله يقول ، وقد التقطت أذناه بعض حديثها مع يوسف : - والله .. وكبرت يا ياسمين .
نظرت ياسمين إلى يوسف الذي يضع لقمة تلو الأخرى في طبق الفول ومن ثم تغيب في جَوفِه ، وقالت له مودِّعة :- سلام ..
توقف يوسف عن الأكل ليقول لها :- سلام .. هشوفك بالليل إن شاء الله .
وشيعها ببصره إلى أن أبتعدت عنه عشرات الأمتار لتغيب عن بصره خلف الجدران البشرية ..