الصديقان الطيّبان بقلم: السفير منجد صالح
تاريخ النشر : 2019-05-09
الصديقان الطيّبان بقلم: السفير منجد صالح


الصديقان الطيّبان

صباح يوم 31 آذار. يوم ربيعي شبه صاف. الطقس بارد نسبيا. ما زال تأثير الشتاء واضحا. هذا الشتاء كان قاسيا، باردا ماطرا، مدرارا.  دخل مجدي على صديقه د. جُبران، في مكتبه. حيّاه بحرارة ومودّة:

- صباح الخير دكتور.

قام د. جُبران من خلف طاولة مكتبه، ومدّ يده مصافحا صديقه، بنفس الودّ والحرارة:

- صباح النور يا مجدي. أهلا وسهلا يا صديقي. شرّفت. تفضّل. وأشار بيده الى المقعد الجلّدي أمام طاولته، المقعد الجلّدي ذو اللون الأبيض الناصع.

وقبل أن يستدير مجدي، كي يتّخذ له من المقعد الأبيض الوثير مجلسا، سمع د. جُبران يهتف ضاحكا:

- ألا تُهنّيني؟؟

- مبروك. هل كسبت قضية الشقّة مع أخيك؟؟

- لا...لا، ليس قضية الشقة. صديقتي أصبحت أمس رئيسة للجمهورية.

- مبروك. توقيت جميل. لقد أصبحت صديقتك رئيسة في ذكرى يوم الأرض. في 30 آذار. يا له من توقيت!! ستحتفل معنا بذكري يوم الأرض. ونحن سنحتفل معها في ذكرى يوم نجاحها وفوزها في الأنتخابات، وإعلانها رئيسة للبلاد.

جُبران كان قد درس  في دولة إشتراكية في وسط أوروبا الشرقية. في دولة متقدمّة صناعيا وإقتصاديا وحضاريّا وثقافيا. وفي صناعة الأسلحة، فالبارودة التي كانت تُصنّعها منذ أوائل القرن الماضي، كانت معروفة ومشهورة، وتضاهي أو ربما تبُزّ البارودة الإنجليزيّة المتينة. 

وقد تخرّج في أواسط الثمانينات من القرن الماضي. وحصل على دكتوراة في الإقتصاد، ودكتوراة في الهندسة الميكانيكية؟؟

وكان خلال دراسته في الجامعة وتخرّجه منها مبرّزا، الى درجة أنّه شارك في وضع خطّة الدولة الإقتصادية الخمسيّة الثامنة. ودرّس في الجامعة. وأشرف على رسائل ماجستير ودكتوراة لطلاب أجانب ومحلّيين. 

وقد أتقن ببراعة اللغة السلافية، اللغة الأم التي تنطق بها دول الإتحاد السوفييتي سابقا، (روسيا والجمهوريّات الأخرى)، وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا ويوغسلافيا. وما زال يُتقنها ويتكلّمها بطلاقة، ويكتب بها المقالات والأبحاث ويحاضر بها في الجامعات والمنتديات. وسبق أن كتب بها شعرا.

ومن أهم ما كتب بها شعرا قصيدة بعنوان: منتصف الطريق. وفحواها أنّه كان سائرا ذات ليلة من ليالي الشتاء البارد القارص. في طريق طويل. يزيّنه هطول ندف الثلج الابيض كالقطن. ثلجا ناصع البياض. تشبه حبّاته حبّات "البوشار" المتناثرة. متساقطة بكثافة من خلال شعاعات نور مصابيح الأعمدة الكهربائية. لوحة طبيعية بديعة في غاية الروعة. متحرّكة. تبدو حبيبات الثلج الخفيفة تتطاير أمام ومن حول مصابيح النور وترسو على إشعاعاتها بتؤدة وحنان. ثمّ تترنّح وتهبط على مدرج ناصع البياض، من الثلج المتراكم على مدى ساعات. منظر يبعث على الإرتياح والسكينة.

ولكن الشاعر لم يكن مرتاحا، بل كان مضّطربا، منفعلا، ضائعا قليلا. فهو في منتصف الطريق بين الشرق والغرب. لا هو بقي شرقيا خالصا ولا هو أصبح غربيا تماما. هو في منتصف الطريق. هو بين بين. هو نصف شرقي نصف غربي. شرقي الأصل والطباع والعادات يمارس عادات عملية غربية. فلا هو راض الآن عن شرقيّته ولا هو راض عن غربيّته. لقد أصبح بوتقة إنصهر فيها الشرقي والغربي.  شرقيّته المتأصّلة في أعماقه، ما زالت تطغى على غربيّته الجديدة، وربما الجميلة. يشعر بالتناقض، بالضياع بين الشرق والغرب.

وتشذّ المجر، أو هنغاريا، في لغتها عن باقي الدول السلافية الإشتراكية سابقا في وسط أوروبا، إذ ينطقون باللغة المجرية (ماغار). وهي لغة صعبة لفظا وقواعدا، وتشبه الى حد ما اللغة التركية أو اللغة الفنلنديّة أو لغة الداتش، ثاني مكوّن لشعب رومانيا. حيث أن الشعب الروماني مكوّن من الداتش واللاتين. 

ولّغة رومانيا هي الرومانيّة (رومانيشتي)، إحدى مُشتقّات اللغة اللاتينية القديمة، الى جانب أخواتها الإسبانية والبرتغالية والإيطالية والفرنسية. واللغة الرومانية هي الأقرب الى اللغة الإيطاليّة. والإسبانية والبرتغالية هما توأمان. متشابهتان الى حد التطابق تقريبا.  وإسم السيارة القومية الرومانية "داتشيا"، نسبة الى أصولهم من قوم الداتش.

أمّا جمهوريّات آسيا الوسطى الإسلامية التي إنسلخت عن الإتحاد السوفييتي في التسعينات، بعد أن كان جوزيف ستالين قد ضمها في الثلاثينات. قيرغيزستان وإذربيجان وطاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان، فتتدحدّث لغاتها القومية الى جانب الروسية. ولغاتها القومية تتراوح بالشبه بين اللغة الفارسية، وبين اللغة التركية.

وفي ظل أجواء الإشتراكية والشيوعية التي كان يُدين بها "حلف وارسو" ودوله وشعوبه، بزعامة الإتحاد السوفييتي، ومع أن جُبران كان طالبا نجيبا ويحوز على إحترام زملائه، إلا أنه كان بنظرهم وحسب مفهومهم، يُعتبر الى حد ما "مناهضا للشيوعية"، كونه كان صادقا معهم، وربما قارئا للمستقبل، مستقبلهم. عندما كان يوجّه النقد "البنّاء" لهم وللنظام الإشتراكي الشمولي، بشقيه الإقتصادي والسياسي. وبضرورة أن يقوموا بأصلاحات كان هو يراها ضروريّة لهم ولبقائهم ولتحسين نظام حكمهم ونظامهم الإقتصادي والعقائدي. 

ولكنّهم هم كانوا يرون طروحاته، نصائحه، ضربا من الترف والرأسمالية والغمز من طرف ما يؤمنون به ودأبوا على السير في طريقه.

كانوا لا يتقبّلون نقده، ولا يؤمنون به، لقد كانوا في غيّيهم وخُيلائهم سائرون، يتدثّرون بريش الطاووس. مع أنهم متأخرا، وعندما بدأت أولى مظاهر إنهيار نظامهم تحبو وتسحبهم نحو واد سحيق، إنتبهوا الى حقيقة ما كان يحذّرهم منه، ومن ضرورة عدم الوقوع في الشرك. ومن ضرورة الإصلاح التدريجي بدل الإنهيار التدريجي والسريع والنهائي. 

ولكن إنتبهوا لأقواله وتحذيراته ربما بعد فوات الأوان، وبعد خراب مالطا، وبعد أن أصبحت حالتهم لا تشفى بالدواء او الإصلاح، بل كان مبضع التغيير قد إنغرس عميقا في جسدهم، رغم محاولات خجولة منهم هنا وهناك لتدارك الأمور. لكن لقد "سبق السيف العذل". محاولاتهم في الوقت الضائع "لا تُسمن ولا تغني من جوع". ولا تقوى على الوقوف في وجه السيل الهادر المنهمر الذي جرفهم، وسلخ جلودهم وغيّر سحنتهم.

وفي سياق متّصل  ومشابه، وفي أواسط الثمانينات، فقد كان إعترف فيدل كاسترو روز، زعيم كوبا، وقائد الثورة الكوبية المظفّرة، التي إنتصرت بقيادته وقيادة تشي غيفارا عام 1959 على حكم الديكتاتور فلهنسيو باتيستا زالديفار، المدعوم والمسلّح من الولايات المتحدة، حين قال:

- "إن كل المحاذير التي حذّرنا منها تشي غيفارا، قد وقعنا فيها أخطاءا، مع الأسف". 

ولكن الثورة الكوبية ونظامها الإشتراكي المطعّم بنكهة وطنية محليّة قادمة ومُستقاة من تعاليم يطلهم القومي خوسيه مارتي، الشاعر والأديب والفارس، قد صمدت أمام الأنواء والأعاصير، بفعل دعم المعسكر الإشتراكي في حينه أولا. ثم بعد إنهيار الكتلة الشرقية، بدعم من الصين.

 وفيما بعد بدعم من فنزويلا هوغو تشافيز، الذي أغدق عليهم بالنفط والمساعدات المالية. وكوبا أغدقت عليه بثلاثين ألف طبيب عام ومختص. يعملون في المستشفيات الفنزويلية وفي الجامعات والمرافق الطبيّة والصحيّة. ويغطّون الشؤون والرعاية الصحيّة حتى للمزارعين في الأرياف. كون الجزيرة الكاريبية تزخر وتزدهر بالطب والأطبّاء ودراسة الطب. ولديها جامعات وكلّيات معتبرة عالميا.

والصين إتبعت أسلوبا مميزا في سياستها، أرساه الرئيس الإصلاحي دينغ شياوبنغ، الذي إتّجه نحو إقتصاد السوق مع الحفاظ على نظام سياسي قوي: "إنفتاح إقتصادي في ظل نظام سياسي قوي ومتماسك، محافظة بقوة على ما أنجزوه في القطاع العام". إذ تعتبر الصين حاليا رقم واحد في العالم في نسبة النمو الإقتصادي والإحتفاظ  والحوز على إحتياطي العملات الصعبة. وفيها ما ينوف على 450 شركة عالمية، "ماركات" عالمية، عاملة في أراضيها الشاسعة الواسعة. وربما خلال سنوات ستبتلع الصين العالم إقتصاديا، دون حاجتها أن تُحرّك جنديّا واحدا.

وفي رحلة داخلية في البرازيل، من ساوباولو ، وعبر مدينة كوريتشيفا في الوسط، الى مدينة فوس دي غواسو، على الحدود المشتركة البرازيلية- الأرجنتينية مع البراغواي. كانت المفاجأة أنه وبعد أن نزل ركّاب كوريتشيفا من الطائرة، بقي حوالي نصف الركاب ليكملوا رحلتهم الى المدينة التي تشتهر بأغزر شلّالات في العالم، نهر الأمازون. وأن تسعين بالمئة منهم كانوا من ذوي العيون المشقوقة، والخدود المكتنزة، من الصينيين!!! وعند السؤال، جاء الجواب بأن هناك إستثمارات صينية ضخمة في منطقة شلّالات فوس دي غواسو. والحكمة الشعبية تقول: "إطلبوا العلم ولو في الصين". أمّا الحكمة العملية الصينية فتقول: "إطلبو الإستثمار ولو في غوس دي غواسو".

وليس مثل غورناتشوف، ذو "الوحمة" البنيّة المحمرّة على مقدّمة صلعته، الذي إنفتح من خلال "البريسترويكا" و"الغلاسنوست"، وأضعف النظام السياسي، فإنهار الإتحاد السوفييتي، وتاه على مدى سنين. 

حتى جاء الى سدّة الحكم الرئيس فلاديمير بوتين، القادم من صفوف إل "كي جي بي"، وأنقذ البلاد وأعاد لها بعضا من قوّتها وهيبتها وبعضا من أمجادها. وأصبحت مع الصين يشكّلان الى حدّ ما قطبا مقابلا للولايات المتحّدة، التي إنفردت كقطب وحيد، في قيادة العالم.

والصين والنمور الأربعة: تايوان وسينغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية، الى جانب اليابان وماليزيا وإندونيسيا وتايلاند والفلبين، وحتى فيتنام، كفيلة بأن تجذب مركز الثقل الإقتصادي العالمي في السنوات القادمة، إن لم تكن قد جذبته فعلا، من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، الى جنوب شرق آسيا.

ربما هم لا يعرفونه جيّدا. لا يعرفون جُبران، البداية. لا يعرفون كنهه وحقيقته. إحساسه وشعوره والمباديء التي تربّى عليها ومارسها. ربما كان يمارس "ضربا من ضروب" الإشتراكية العفوية المتقدّمة، دون أن يدري هو نفسه بها، وربما أفضل منهم. دون أن يكون قد قرأ أو سمع، في حينه، في بداياته، بكارل ماركس، أو فريديريك إنغلز أو فلاديمير لينين. 

فقد بدأ حياته النضالية في قواعد حركة فتح في إربد والشونة الشمالية وجرش عام 1968. كان الفتى لم ينهي بعد دراسته الثانوية، كان ما زال "زغب الحواصل"، لم يكسوه الريش كاملا بعد.

وبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، إلتحق بكلية الهندسة الميكانيكية، في احدى جامعات تركيا. لكنه تم تسفيره "بالبيجاما"، مع عدد من الزملاء، من قبل عناصر الامن التركي، بسبب نشاطه التنظيمي والسياسي عام 1971. وهو في السنة الثالثة.

وفي سوريا، التي أُبعد إليها، تفرّغ للعمل في جهاز التوجيه السياسي  في قدسية بالقرب من الهامة، عرين الشهيد أبي علي إياد، كمحرر في "مجلّة المسيرة"، الخاصة بقوات العاصفة لحركة فتح. 

وكان يذهب بصورة دائمة لمكتب ال 36 ، في منطقة ابو رمانة، مكتب التعبئة والتنظيم، للقاء مسؤوله التنظيمي في تركيا، المرحوم ابو العبد العكلوك. المجاور والموازي لمكتب ال 23 في منطقة السبع بحرات، مكتب القائد العام ، أين كان يعمل ثائر ومحمد ذيب، في الغرفة الصغيرة المتواضعة في الطابق الثاني. غرفة اللاسلكي العام. حيث كان صوت المرحوم محمد ذيب يلعلع باللاسلكي: " من مكتب القائد العام الى نضال... أجب".

وقد كان يتقاضى راتبا، "مُخصصا"، شهريا قدره 260 ليرة سورية. وقد إكتشف مع مرور عدة اشهر أن المخصص يزيد عن حاجته وإحتياجاته الشهرية. وأنه يكفيه مبلغ 180 ليرة فقط. فكتب رسالة الى مسؤوله يطلب منه فيها تخفيض مخصصه. 

وفي إجتماع ضمّه مع مجموعة من الكوادر والثوار، تم مناقشة موضوع طلبه. وقد تحدّث بعض الحاضرين، وقال أحدهم:

- إن طلب الأخ ما هي إلا "مزاودة"!!!

فإنتفض جبران في مقعده وأجاب:

- أنا لا أطلب "زيادة" ولكن أنا أطلب تخفيض مخصصي لأنه يكفيني وزيادة. 

لقد إلتبس على جبران الأمر. ليس متعوّدا على مثل هكذا "تعابير". ليس متعوّدا على هكذا "خندزات" أو دسائس. كان كثوب العروس في ليلة دخلتها، أبيض ناصع البياض كالقطن أو كالثلج. لم تصل إليه بقعة واحدة سوداء ولا بُنيّة.

فحصل هرج ومرج في مكان الإجتماع، مما إضطر الأخ المرحوم عثمان أبو غربيه، لأخذه جانبا من أجل إفهامه أن كلمة "مزاودة" لا تعني زيادة، وإنّما تعني شيئا آخر.......

عثمان أبو غربية، طيّب الله ثراه، من أعزّ القيادات الفلسطينية وأجودها. فإلى جانب وطنيّته وعلمه ومسيرته وسيرته الطيّبة وبراعته في التوجيه الوطني والسياسي، كان قائدا من طينة مختلفة عن معظم قيادات الصف الأول والثاني على الساحة الفلسطينية، في المنافي، في سوريا وتونس. وفي الوطن، في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية.

وأن أهم ما يميّز أبو عبد الله، طيّب الذكر، تواضعه أمام الكادر الفتحاوي بشكل خاص وكادر المنظّمة بشكل عام. بمعنى أنّه كان يفتخر بالكادر الفلسطيني، ويعطيه حقه، ويذكره بالخير ويرفع من قيمته ويضعه الى جانبه. 

في حين أن قيادات أخرى، مع الأسف الشديد، في ظل الثورة، وفي ظلّ مقولة "تدافع الأجيال، كانت لا تُطيق أن يبرز كادر في مناسبة ما، ولا أن يظهر مجرّد شعر رأسه "يُهفهف"، تُداعبه نسمة يراها الناس من وراء القائد، الذي يكاد أن يقول له في سرّه للكادر: 

- "قعمز"، "إجثم على ركبتيك"، إهبط من ورائي حتى لا يراك الناس في حضرتي. بالرغم من أن الكادر يفوق المسؤول في طوله الطبيعي ربما بنصف متر.

وعندما كنت تزور أبا عبد الله في مكتبه في التوجيه السياسي، وبالرغم من وجود عدد من الألوية والعمداء والعقداء عنده، فإنه يستقبلك ببشاشة وبكل سرور وإحترام. ويُعرّف عليك الجالسين عنده: 

    - فلان الفلاني من كوادرنا الممتازين. درس في هذه الدولة. والآن يعمل في هذه الوزارة.

كلام لطيف وإطراء يصدر عن رجل عظيم معتدّ بكادره وبقضيّته وبنفسه. رحمك الله يا أبا عبد الله، رحمة واسعة وأسكنك فسيح جنّاته.

د. جبران وبعد أن غادر وسط أوروبا، ذات الشتاء البارد القارص، والثلوج البيضاء الناصعة، حط رحاله في تونس الخضراء، ذات الصيف اللاهب والشواطيء الدافئة المنعشة، كون تونس، شبه الجزيرة، تنحصر ما بين الصحراء جنوبا وبين مياه البحر الأبيض المتوسط، التي تُزنّرها من الشمال ومن الشرق، كانت المقر الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية. 

وكان د. جبران يحمل في جعبته، وبكل فخر وإعتزاز، شهادة دكتوراه في الإقتصاد، وشهادة دكتوراه في الهندسة الميكانيكية. ولكنه يحمل أيضا تواضعا لم يتبدّل ولم يتغيّر مع الأيام، منذ أن كانت جعبته تفيض بالثمانين ليرة سورية التي زهد بها وأصّر على إرجاعها للمالية، رغم همز ولمز وغمز وضحك الكثيرين حينذاك.

تعيّن د. جبران في إحدى دوائر م. ت. ف في العاصمة التونسيّة، حيث مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بعد الخروج من بيروت، على أثر الحرب الظالمة والعدوانية لشارون على لبنان وإحتلاله لأول عاصمة عربية، بيروت، في إجتياح عام 1982. بعد قتال دامي وشرس ومقاومة وبطولة من الفدائيين الفلسطينيين لأكثر من شهرين. حيث أن الدبابات الإسرائيلية الغازية لبيروت، وأمام مقاومة أبطال ال آر بي جي، كانت تتقدّم "مترين" أو "متر ونصف" في اليوم، في جبهة "الأسواق التجارية" وسط بيروت.

وقد سُئل شاعر فلسطين والمقاومة المبدع محمود درويش في تلك الأيام:

- ماذا يفعل الشاعر في زمن الحرب؟

- لا شيء. أجاب درويش. وأضاف: "هم يفعلون"، مشيرا بيده الى المقاتلين وأبطال ال آر بي جي.

وكان درويش في ظل حصار بيروت، وإنقطاع الخدمات، ومنها إنقطاع المياه عن البنايات، يحلق ذقنه بعشرين قطرة ماء. ويغسل وجهه بثلاثين قطرة ماء. ويُنظّف أسنانه بعشرة قطرات ماء. ويصنع "دلّة" من القهوة بثمانين قطرة ماء. "صوت الماء مرايا لعروق الأرض الحيّة. صوت الماء هو الحرية. صوت الماء هو الأنسانية". وكان درويش يعشق القهوة: "القهوة لا تُشرب على عجل، القهوة أخت الوقت، تُحتسى على مهل، القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة، القهوة تأمّل وتغلغل في النفس وفي الذكريات"، كما جاء في رائعة يومياته خلال العدوان على لبنان وبيروت، بعنوان: "ذاكرة للنسيان: الزمان بيروت، المكان يوم من أيّام آب 1982". "الساعة الحادية عشرة وعشرون ألف قذيفة وثلاثون ثانية"، أردف درويش.

من أوّل يوم له تعرّف د. جُبران على مجدي، زميل أقدم منه في الدائرة، في تونس، حيث تصادف أن تشارك معه المكتب ذاته. ومنذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا ما زال الإثنان، صديقان طيّبان، على مدى ثلاثين عاما، وعلى مدى مراحل ومحطّات متعددة، في الشتات وفي الوطن. ويبدو أن تعارفهما وصداقتهما من أول لحظة، ما هو إلا موضوع كيمياء كما يقال. وكما جاء في الحديث الشريف: "الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها إئتلف، وما تعارض منها إختلف".

جبران كان ولد وترعرع في قرية في شمال الضفة الغربية، شمال جنين، جنين القسام ومخيّم جنين. تجثم على طرف بساط مرج إبن عامر. كان عامرا بالبطيخ والشمّام الشهي. بطيخ أيّام زمان. "ساق الله على أيام زمان". نترحّم على تلك الأيّام، وعلى بطيخ تلك الأيام. ونستمر في المعاناة من أكل بطيخ هذه الأيام. بطيخ الهرمونات المهجّن والبيوت البلاستيكية. يُشبه البلاستيك في طعمه ومذاقه وقضمه وبلعه وهضمه.

تعارفا وتصادقا على المودة والنزاهة والإحترام المتبادل. وهكذا تعاملا دائما فيما بينهما ومع الزملاء الآخرين ومع المسؤولين. لكن بعضهم أو العديد منهم لا يُريدوا كوادر تتمتّع بالمعرفة والإستقلالية والإحترام. يُريدوا عبيدا ولا يُريدوا شركاء. مع أن العبودبة كان قد الغاها أبراهام لينكولن قبل مئات السنين في الحرب الأهلية الأمريكية. بعد صراع دامي ما بين الشمال المنفتح والجنوب المتزمت المتمسّك بالعبيد والعبوديّة.

في مسيرتهما اعتدّا دائما بنفسيهما، والتواضع ديدنهما. وكانت بوصلتها تتجه، بصورة تلقائية أتوماتيكيّة نحو فلسطين، ومن أجل فلسطين، وليس نحو ومن أجل الأشخاص. الشخص الذي تكبر أُذناه عندما يحتل كرسيّا، يتمتّرس عليه، ويخلق "أرضا محروقة" حوله. ويقرّب الية الافواة المفتوحة والثرثارة واللسان اللعوب الفتّان. ويُبعد عنه "الأوادم"، المحترمين، الذين نعم بحترمون الهرميّة، ذوو الفكر والنزاهة والكرامة. لكن نعم أيضا، لا يقدّسون أفرادا مهما علت مناصبهم أو هكذا إعتقدوا. 

لم يتبعا لمسؤول ولم يُحسبا عليه يوما ما. ولم يقاسا بمسطرة أحد. ومن هو هذا المسؤول الذي يستحق أن "تفحّ" في أذنه "لتبشيم خازوق" لزميل في العمل؟ أو أن تقول في حقّه قصيدة شعر مدح، تختلق فيها وتخترع حفنات من المحاسن والميّزات، لا تتوفّر فيه ولا يملكها. تتزلّف له من أجل درجة أو سفرة أو إمتياز. وهم يُحبّون ذلك، فآذانهم تتبرمج على مثل هكذا كلام. والأثير الداخل إليها لا يُطيق أن يحمل كلاما آخر وحتى لو كان رصينا أو موزونا.

قصائد الشعر والنئر والمدح والغزل والحب والعشق كلّها يجب أن تكون موجّهة لفلسطين وفقط لفلسطين، ومن أجل فلسطين.

نعم كان لهما دائما مسؤول وحيد، وطريق وحيد وبوصلة وحيدة في مسيرتيها الطويلة: فلسطين وفلسطين فقط. ومن يستطيع أن يُنافس فلسطين على حبّها؟؟ شموخ جبالها المرصّعة بالزيتون والتين والعنب واللوز والزعتر والميرمية. سهولها وسواحلها المزيّنة ببيّارات البرتقال والليمون واليوسف أفندي وأبو صرّة والمندرينا والكلامنتينا والشمّوطي والجريب فروت والبوملي. سمار تربة أغوارها المنبثقة منها درر النخيل والبلح والتمر، والموز والأناناس والبابايا والزهرة والملوخيّة. لا أحد يمكنه أن يُنافس فلسطين على حبّها. فسقف فلسطين هو الأعلى، ومن يُريد أن يُناطح فلسطين، فسيبقى قزما أبد الدهر لا يصل الى أسفل هامتها.

ضحّى الرجال الرجال من أجل فلسطين. لم يُضحّوا من أجل فلان او علّان. ضحّى الرجال: أبو علي إياد ودلال المغربي وأبو جهاد وأبو عمّار وأبو المنذر والشيخ أحمد ياسين وفتحي الشقاقي وأبو شنب وأبو علي مصطفى وأبو الوليد (سعد صايل) وسناء المحيدلي وأشرف نعالوه وعمر أبو ليلى، بهي الطلّة دائما. 

من يستطيع أن يكتنز بكل هذه المزايا، حتى ننحني له إحتراما وعشقا وودّا ووفاءا وتضحية غير فلسطين؟؟!! فلسطين هي درّة التاج الذي يُزيّن رؤوس أبنائها البررة المتفانين في حبها وعشقها وخدمتها والعمل على فكّ أسرها، وتحطيم أبواب سجنها، وإطلاق سراحها كي تنعم وننعم معها بتنشّق نسيم الحريّة، نسيم بحرها وبرّها. نتذوّق طيبة دقيق سنابل قمحها، ورحيق عسل أزهارها. 

في الوطن تبوّأ د. جُبران مناصب متعددة، مناصب رفيعة. وتولى العديد من المسؤوليات والمهام. لم تُبدّله الأيام ولا المناصب. حافظ على تواضعه المعهود. 

لديه شقيق أصغر منه يعمل في ألمانيا منذ عقود، منذ أيام صباه. يحمل الجنسية الألمانية. ألماني قُح. لا يحمل الجنسية الفلسطينية. مليونير. "مش عارف وين يحط المصاري". الله منعم ومتفضّل عليه. عمل وجدّ وإجتهد كمعظم أبناء فلسطين المغتربين وما أكثرهم. في أوروبا والخليج العربي وأمريكا وكندا ودول أمريكا اللاتينية. قصة هجرة ونجاح.

أراد أن يستثمر شيئا في فلسطين. ولكنه لا يستطيع بمفرده. فهو أجنبي، ألماني. إذا ماذا يعمل؟؟ العنوان واضح ومعروف وجلي. شقيقه الطيّب د. جّبران، المستعد دائما لتقديم الخدمة حين الطلب. ومن غير د. جبران، شقيقة، إبن أمّه وأبيه، يمكن أن يفيده ويخدمه ويرعى إستثماره؟؟!!

إلتقى الشقيق مع الشقيق. على الأخوّة والخير والودّ "والمصلحة". إشترى "الألماني"، بمساعدة "الفلسطيني" أرضا في "الطيرة"، ليقيم عليها عمارة سكنية. إسكان شقق جاهزة "مفتاح" للبيع، تشطيب "ديلوكس". ربع مليون دولار ثمن الشقة الواحدة. عمارة من خمسة طوابق وتحوي عشر شقق. بربح متوقّع يفوق مليوني دولار.

إشترى الألماني الأرض بمساعدة الفلسطيني. سجلّها بإسمه كألماني بمساعدة الفلسطيني وبموافقة إستثنائية. لولا هذه المساعدة والمعارف والأصدقاء لما إستطاع تسجيلها مطلقا، لقانون فلسطيني بعدم جواز بيع وتسجيل الأراضي للأجانب. شرع في بناء العمارة. أعطى الألماني توكيلا عاما للفلسطيني بالأرض والعمارة. 

شمّر د. جبران عن ساعديه لبناء العمارة العامرة لشقيقه الغالي، إبن أمه وأبيه. حيث من المفترض أن يجري الدم ذاته في عُروقهما. لقد رضعا الحليب ذاته. ولا فرق بينهما. فقد توسّدا الوسادة ذاتها صغارا. وشربا من نفس الإبريق صبيانا. وأكلا من نفس الصحن. وتحمما أطفالا في نفس "الطشت". وربما لبسا سراويل بعضهما المتواضعة، ولعبا في التراب معا.

إستمر د. جبران خمس سنوات بالتمام والكمال، لا يزيدوا يوم ولا ينقصوا يوم. "ويوم بينطح يوم"، في بناء العمارة والإشراف عليها ساعة بساعة ويوما بيوم. وجهدا بجهد. وكدّا بكدّ. في متابعة أدّق تفاصيلها. فالعمارة لشقيقه الأصغر، مهجة روحه، إبن أمّه وأبيه. يجري في شرايينهما وأوردتهما فصيلة الدم ذاتها. ويحملان نفس إسم الأب وإسم الجدّ وإسم العائلة. 

وبالنهاية هو مهندس. صحيح أنه ليس مهندسا معماريّا ولا مدنيّا، لكنه مهندس. الهندسة ملعبه. والإقتصاد فنّه. فهو دكتوراه في الهندسة. ودكتوراه في الإقتصاد. وقد إقتصد لأخيه في بناء العمارة حوالي مليون دولار بفعل متابعته ومعرفته بدهاليز البيع والشراء والتعاملات في هذه البلاد. أي أنه "دحش" في جيب أخيه مليون دولار "إضافي"، وفّره عليه، بحثيث إهتمامه ومتابعتة الحثيثة. وقبل أن تبدأ عملية بيع الشقق.

ولكن... ودائما يوجد هناك ولكن....بعد أن جهزت العمارة. وبيعت شقتان هبط ثمنهما نصف مليون دولار على مدرج جيب الألماني. وأرجع الفلسطيني الوكالة العامة "لشقيقه". وسجّل العمارة، كما الأرض، بإسم أخيه "فريديريك". 

إنقلب الشقيق على الشقيق. إنقلب فريديريك على جُبران. بسبب "المصلحة والمصلحة والطمع"، وتبخّرت الإخوّة والخير والمودّة، وبقيت "المصلحة". ربّما دخل الحُسّاد والمغرضون بينهما. وربما لدى الألماني القابلية والرغبة. فكشّر عن أنيابه المسمومة وطرد "شقيقه"، إبن أمه وأبيه، من العمارة، تحت طائلة المسؤولية، بإقرار عدلي منفّذ من المحكمة....  وغيّر أقفال ومفاتيح شقة د.جبران في الطابق الأرضي من العمارة، التي لم يسكنها بعد. وربما لن يسكنها في حياته. من يدري؟؟!!

فموضوع الشقة بيد المحاكم اليوم. والمحاكم في بلادنا "حبالها طويلة"، و"موت يا حمار". تأجيل وتأجيل وتأجيل. ودفع رسوم. "وفريدريك في ألمانيا يتفلّى، وجُبران في فلسطين يتقلّى". على رأي المثل القائل: "العصفور بيتفلّى والصيّاد بيتقلّى".

منذ أن بدأ د.جُبران بتشطّيب العمارة. عمارة شقيقه، إبن أمّه وأبيه. وبدأت ملامحها وجمالها يتّضحان. نشّن الفلسطيني على الشقة الأرضية الأمامية، لأن أمامها ساحة واسعة. وقد وافق الألماني ضمنا على"هذا الكلام". وبدأ د. جُبران في تشطيبها على حسابه الخاص. من جيب بنطاله الخاص. فالعمارة كلها في طور التشطيب. لم يكتبا أوراقا بخصوص الشقّة، ولم يُثبّتا قصتها، بطولها وعرضها، في أوراق رسمية أو قانونية. فالموضوع يدور بين الشقيقين. يتفانى أحدهما في خدمة الآخر وفي تذليل كل العقبات التي إعترضت وتعترض إنجاز بناء العمارة وتشطيبها. بينما الآخر يرفل بأثواب العزة والسعادة والراحة والهناء في ربوع ألمانيا. 

دفع د. جُبران أكثر من 135 ألف دولار من أمواله الخاصة في تشطيب "شقته"، ومصاريف أخرى للعمارة والعمّال. كل شيء وكل ملّيم مدوّن في كرّاس يحتفظ به المهندس رجل الإقتصاد. ودفع به كدليل وبرهان للمحكمة. 

مع أن أخيه، إبن أمّه وأبيه إدّعى، سخافة، في جلسة المحكمة، نادرا ما يحضر، بأن "أخيه" كان يعمل في الإشراف على العمارة متبرّعا ليس إلّا. وليكن؟؟!! وأن الذي بنى العمارة هو شخص آخر، أحد المغرضين الطفيليين، ليس له علاقة بالموضوع. وسبق أن طرده د. جبران من العمارة بسبب جشعه وفساده. وهكذا تورّط "فريديريك" بشهادته. والآن يطالبه محامي الجشع النصّاب المغرض بأتعابه في الإشراف عن العمارة التي لم يقم بها، ولم يتواجد فيها. "الّلهم إضرب الظالمين بالظالمين".

ومع ذلك، فإن د. جُبران ليس سعيدا لخسارة أخيه، إبن أمّه وأبيه، أمام ومع المغرضين والنصابين. تمكّن واحد منهم من الإستيلاء على شقة في العمارة تحت حجة أنه من خارج رام الله، ويرغب في وضع فرشة فيها على الأرض، كي ينام فيها بعض الليالي ليس إلّا، وفقط الى حين، وحين تأخّره في عملة. ولكن ما أن حاز على مراده، بالمداهنة، من الألماني، حتى نقل إليها أثاثا كاملا وأحضر عائلته وإستوطن فيها. هكذا "عينك عينك"، و"على عينك يا تاجر".

أما د. جبران، فلا يستطيع، بأمر من المحكمة، حتى من الأقتراب من حدود العمارة. شقّته أسيرة هناك. ينتظر الفرج. ينتظر حكم المحكمة بشأن شقته المُحتجزة الأسيرة. تعبُ يديه وعرق جبينه وعمل يومه وسهر لياليه، وعلى حساب مصاريف ورفاهية أطفاله. 

ولا حول ولا قوّة إلّا بالله. فالمحاكم في بلادنا حبالها طويلة. وموضوع قضية الشقة، مع أخيه، إبن أمّه وأبيه، ما زال معلّقا.