النباهة والبلاهة وثقافة الاستحمار بقلم : محمد زهدي شاهين
تاريخ النشر : 2019-05-08
النباهة والبلاهة وثقافة الاستحمار

بقلم : محمد زهدي شاهين

ابو صابر... كنية تطلق على الحمار لصبره اللا محدود وتحملة مشقات وقسوة الحياة؛ فالحمار ومنذ 6000 الاف عام وهو مسخر لخدمة بني البشر بتفاني واخلاص، ومن هذا المنطلق بتنا نسمع ونصفُ كل شخص كادٍ ومخلصٍ ومجتهدٍ في عمله ب(حمار شغل). لم اتحاور ذات يوم مع حِمـارٍ حِمار ، لكي اعرف بأن الحمير عملت دون كلل او ملل خلال تلك القرون الطويلة او لا! هل تذمرت الحمير يوماً ما يا ترى ! لكن ومن خلال معرفتي المتواضعة بالحمير، ومن خلال ما تناقلته الاجيال، والروايات والقصص التي كنت استمع اليها من والدي وجدي اصل الى نتيجة مفادها بان الحمير : نعم، تتذمر من ذلك؛ فالحمار اذا بلغ منه التعب وأخذ منه مأخذ يعبر عن ذلك اما بالرفس او العض احياناً اخرى، ولسان حاله يقول يا هذا لقد تعبت، وفي حال كان هذا الشخص قاسي القلب سادي مستبد ، اي ان يكون مستحمِراً بكسر الميم يعبرُ الحمار عن تعبه بالتجحيش؛ اي بالعصيان وعدم انصياعة للاوامر؛ فالحمار اذاً يقاوم الاستبداد ويرفض الظلم في هكذا مواقف.
كثيرٌ هم من انصفوا الحمير؛ فالصينيين على سبيل المثال يعتبرونه حكيماً لشدة نباهتة وفطنتة، اما المصريين القدماء واليونانيين بالغوا في ذلك الى حد التقديس، وفي فرنسا يُعتبر 6_ 10 من كل عام يومأً للحمار، اما في احدى المدن الانجليزية تم وضع قانون عمل خاص به لحماية حقوقه العمالية، وفي الادب العربي نكتفي بذكر رواية حمار الحكيم، وهناك ايضا مقال بعنوان انصافا للحمير ومقال اخر بعنوان الاستحمار ظاهرة.
على كل حال وبما ان الحمار فطنٌ وذكي ونشيط، ويتعلم من المرة الاولى ، ولا يقوم بتكرار الخطأ على خلاف بعض البشر؛ فلا احبذ اقحامه في هذا الامر. لكن وبسبب عدم وجود مصطلح او بديل عن كلمة استحمار ساقوم باستخدام هذا المصطلح الى ان يجد لنا فطاحل اللغة العربية بديلاً او مرادفاً له.
بداية لا بد لنا من الاشارة الى ان النباهة تعني الفطنة والذكاء (الوعي والادراك)، اي ادراك الفرد لدوره من خلال وضوح رؤياه ووضوح دوره في المجتمع ايضاً، وادراك المجتمع ايضاً لواقعه ولما يدور من حوله. اما البلاهة فمن مرادفاتها : الجهل، والحماقة، والغباء ، وهي بطبيعة الحال نقيض او من اضداد النباهة. اما الاستحمار فيقول عنه استاذي الراحل علي شريعتي _علماً انه استشهد في نفس العام الذي قد ولدت فيه. فَعَملُ العبد ينقطع بعد موته الا من ثلاث، احداها (علم ينتفع به) لهذا اصفه بهذه الصفة_ يقول استاذي شريعتي: (الاستحمار هو تزييف ذهن الانسان ونباهته وشعوره، وحرف مساره عن النباهة الاجتماعية فرداً كان ام جماعة. واي دافع عمل على تحريف هاتين النباهتين او فرد او جيل او مجتمع عنهما فهو دافع استحمار ، وان كان من اكثر الدوافع قدسية واقدسها إسماً. انه لمن سوء الحظ ان لا ندرك ما يراد بنا ، فيصرفوننا عما ينبغي ان نفكر فيه من مصير مجتمعنا او افكر فيه انا في مصيري كانسان الى ان نفكر في اشياء نحسبها راقية جداً وعظيمةً ومشرفة فيصيبون الهدف دون ان نشعر ! ومن اجل هذا قلت اذا لم تكن حاضر الذهن في الموقف فكن اينما اردت . المهم انك لم تحضر الموقف ، فكن اينما شئت واقفاً للصلاة ام جالساً للخمرة ، كلاهما واحد. ان المستعمرين لا يدعونك لما تستاء منه دائماً ، فيثيرون انزجارك فتنفر منهم الى المكان الذي ينبغي ان تصير اليه. بل يختارون دعوتك حسب حاجتهم ، فيدعونك احياناً الى ما تعتقده امراً طيباً من اجل القضاء على حق كبير، حق مجتمع او انسان، واحياناً تدعى لتنشغل في حق اخر فيقضون هم على حق أخر هو اولى)، وهنا يضرب لنا شريعتي مثالاً لتقريب وايضاح الصورة فيتابع ويقول (عندما يشب حريق في بيت، ويدعوك احدهم للصلاة والتضرع الى الله ينبغي عليك ان تعلم انها دعوة خائن؛ فكيف الى عمل اخر؟ فالاهتمام بغير اطفاء الحريق والانصراف عنه الى عمل اخر ما هو الا استحمار، وان كان عملاً مقدساً او غير مقدس؛ فتنبه! حتى لو كانت مناجاة مع الله، او وقوفاً للصلاة ، او انشغالاً في مطالعة احسن الكتب العلمية والادبية، او اكبر اكتشاف علمي، او اي عمل تقوم به، او اي شيء تنشغل به، كل ذلك يدل على أن الداعي استعمرك والغى وجودك).
فالاستعمار او الاحتلال وكلاهما سيان يريدان ابدالنا الوعي والادراك الثقافي ومعرفة دورنا بالجهل والغباء والعبثية، ويمارسون ذلك بطرق شتى؛ فيقومون بنشر وبث الثقافة الاستحمارية بوسائل مختلفة، وايهامنا بوصولنا الى المعرفة او الى الحضارة الكاذبة، فيما نحن ما نزال نستهلك ما يقومون هم بانتاجه ؛ فالحضارة التي يدعي البعض منا الوصول اليها في عالمنا العربي تحديداً هي حضارة زائفة وصورية وبعيدة كل البعد عن مضمون الحضارة ، كانتاج المعرفة والعلوم والصناعات، والقوة الذاتية الى غير ذلك، واهمها الوصول الى مرحلة النباهة او الثقافة الواعية ، والتي سقفها القيم والضوابط الاخلاقية باحترام القانون والنظام.
إن الثقافة الاستعمارية الاستحمارية خطيرة جداً، والاخطر منها هي الثقافة الاستحمارية الذاتية. قد يكون الكثير منا قد مارس هذا الجانب يوماً ما، فحالة اللاوعي والثقافة العمياء يمارسها السياسي ورجل الدين من خلال الاحتكار للقرار السياسي او احتكار التمثيل الديني والغاء الاخر، وقد يمارسها المسؤول الاداري او المؤسسة باشكال مختلفة؛ فغياب وتعطيل سياسة الثواب والعقاب مثلاً تقع ضمن الثقافة العمياء . لماذا اذاً خلقت الجنة والنار يا ترى! ويا ليت الامور تقف عند المساواة بينهما بل تتخذ صورة اسوء من ذلك بكثير بتقديم المسيء على من سواه، ويحضرني هنا مثلاً شعبياً يعبر عن هذه الحالة بدقة تامة ، وبشكل واضح ، ولكونه يتضمن كلمة سوقية اترفع عن ذكره احتراماً للقراء، واترك لهم المجال للبحث عنه ، اذ يقول: المقري وال..... واحد . والثقافة العمياء يمارسها بعض ارباب العمل كأن يقوم احدهم باستغلال موظفيه او اجيريه ويبخس الناس اشيائهم (واشياء الناس قد تكون بضاعة او مهنة او مهارة)، او سائق المركبة من خلال مخالفته القانون، كالسرعة الزائدة وغير ذلك . ومن يذهب لاداء طقوس الصلاة ويغلق الطريق بمركبته يمارس الثقافة العمياء بكل تاكيد. ويمارسها بعض التجار الجشعين، او الام اثناء تعاملها مع ابنائها ،او مدرس مع تلامذته الى غير ذلك؛ فهي اصبحت ثقافة موجودة.
لقد اشار الكاتب المقدسي محمد زحايكة في مقالة له تحت عنوان (ارض الفساد والنفاق) الى احد جوانب الثقافة العمياء اوالاستحمارية التي ارمي اليها، مطلقاً عليها ثقافة الكراهية، متسائلاً من اين جائت هذه الجرثومة. وللاجابة على هذا التساؤل اقول ان هذه الجرثومة او حالة الانحطاط في عالمنا العربي والاسلامي ليست وليدة اللحظة، بل قد تكون متجذرة بعض الشيء ، لهذا لا بد من الاطلاع على كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد لعبد الرحمن الكواكبي، والذي يقول فيه بان حالة الانحطاط او الفتور في العالم العربي والاسلامي انذاك الوقت هي نتيجة للاستبداد السياسي، ويقول : (وحيث اني قد تمحص عندي ان اصلَ هذا الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية....بعد بحث ثلاثين عاماً بحثاً اظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم فيه الباحث عند النظرة الاولى ، أنه لم يظفر بشيء ، او ان ذلك فرع لاصل ، او هو نتيجة لا وسيلة . فالقائل مثلاً : إن اصل الداء التهاون في الدين ؟ والقائل إن الداء اختلاف الاراء يقف مبهوتاً عند تعليل سبب الاختلاف. فإن قال : سببه الجهل يَشكُل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة اقوى واشد). وانا هنا اخالفه الرأي فجل الامر والانحطاط المستشري في مجتمعاتنا اعزوه الى الجهل والحماقة والغباء اي الى البلاهة والثقافة العمياء العقيمة اللا واعية، اما الاختلاف بين العلماء ان لم يكن مبني على اسس علمية، يعتبر احتجاج واهي للاستدلال به بان الانحطاط غير عائد على الجهل ، اذ ان اختلاف العلماء في غير محلة، والاستبداد كذلك، ضرب من ضروب الجهل، وفرع من اصل، وهما نتيجة للجهل لا سبباً له.
إن ابشع صور الثقافة الاستحمارية الذاتية هي السخرية من ذواتنا والاستهزاء من انفسنا، وبالطبع لها نتائج كارثية كخلخلة شبكتنا الاجتماعية ، بافقادنا الثقة بانفسنا ، واحساسنا الدائم بالعجز . إن الثقافة العمياء ما هي الا فراغ وفقدان المضمون والجوهر والتمسك بالمظاهر والقشور. وبما انها اصبحت فكر يمارس من خلال السلوك وجب علينا محاربتها؛ فالفكر اذاً لا يحارب ويدحض الا بالفكر والتنوير، بمعرفة وتحديد مسؤولياتنا، ودورنا في مجتمعنا ، وفي عملية بناء الوطن.
إن جوهر الوجود هو الانسان ، لذلك تم تسخير كل شيء لخدمته، حتى الدين . وكل ثقافة او سلوك يقلل من شأن هذا الجوهر ، بقتله دون وجه حق، او ابتذال كرامته، ومحاربته برزقة ، واستغلاله على سبيل المثال هي ثقافة استحمارية عمياء مسحت وقامت بالغاء كلمة الانصاف من قاموسها. واي سلوك غير حسن او قبيح ، كتهميش الاخرين، والاستعلاء عليهم، والاستخفاف بعقولهم، لا يعدو عن كونه ضرب من ضروب الاستحمار، او الثقافة العمياء.
يقول ابن خلدون: (إن الانسان اذا طال به التهميش يصبح كالبهيمة لايهمه سوى الاكل والشرب والغريزة) . وهذا الكلام لا يعمم فاصحاب النباهة والبصيرة والمؤمنون مستثنون من ذلك, فاحذر وتنبه ايها القيم اياً كنت، مسؤولاً او سياسياً او رب اسرة من تهميش الاخرين فإن ممارستك للثقافة العمياء يتأثر بها الكثير، فالمسؤولية اذاً مضاعفة.
واختم بقضيتنا الفلسطينية؛ فان اي دعوة من بعض الدول التي تقوم بدفع الاتاوة لاسيادهم ومستحمِريهم، حتى وان بدت في مصلحتنا لمواجهة صفقة القرن والعار، لا تعدوا عن كونها دعوة وتوجيه من خائن، يدس لنا السم بالعسل يجب علينا وعلى قيادتنا الحذر والتوجس منها. إن الذي لا يستطيع التمييز بين العدو الحقيقي والفعلي والاخ والصديق لا يؤتمن . إن الذين يقومون بدفع المليارات لقيادتنا الرافضة والصامدة في وجه الطغيان والارهاب العالمي للتنازل عن القدس وقبول صفقة العار لا يريدون لنا سوى التنعم بالذل.