"تحليل وقراءة" الانتخابات الإسرائيليّة: النتائج والتوقّعات إعداد: رازي نابلسي
تاريخ النشر : 2019-04-30
قراءة في الانتخابات الإسرائيليّة: النتائج والتوقّعات

أصدرت لجنة السياسات في مركز مسارات هذه الورقة من إعداد الباحث رازي نابلسي.

مقدمة

جاءت نتائج الانتخابات الإسرائيليّة الحادية والعشرين، لتؤكّد وتجدّد أولًا وقبل كُل شيء، حكم بنيامين نتنياهو، ولتثبّته وتمنحه الدعم في معركته القضائيّة على استمرار حكمه أمام ثلاث قضايا فساد وخيانة الأمانة. هذا من جهة، أمّا من الجهة الأخرى، ومن وجهة نظر فلسطينيّة، فإن سير الانتخابات وحملاتها الانتخابيّة وصولًا إلى نتائجها، أكدت حقيقة أن المُجتمع الإسرائيليّ ونُخبه السياسيّة، وخارطته السياسية وصولًا إلى الإعلام، باتوا بالنسبة إلى الفلسطينيين، رؤية واحدة تنطلق من مبدأ واحد، هو إلغاء كافة الحقوق الشرعيّة والقوميّة للشعب الفلسطينيّ.

كان الدليل الأكبر على ذلك، غياب أي نقاش من قبل أي طرف من المعسكرَين حول قانون القوميّة الذي ينزع حق تقرير المصير عن الشعب الفلسطينيّ، ويعتبر هذا الحق حصريًّا لليهود على أرض فلسطين التاريخيّة، التي اعتبرها القانون "أرض إسرائيل"، بالإضافة إلى غياب أي طرح سياسيّ جدّي يتعارض، أو يتناقض، مع ما يقوم به نتنياهو وحزب الليكود يوميًا، كسياسات ناظمة، في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة والأراضيّ المُحتلة العام 1948.

وعلى الرغم من أنّ الانتخابات لم تأتِ بالجديد فعليًا بكُل ما يخص الحالة الفلسطينيّة، بل تشكّل امتدادًا للقديم، من حيث السياسات والاستهداف الخطير جدًا للشعب الفلسطينيّ وقضيته، إلّا أنّها تجدّد الثقة بحزب "الليكود" وائتلافه، في ظرف زمنيّ من المتوقّع أن يكون عاصفًا على الصعيد السياسيّ: إمكانية الإعلان رسميًا عن "صفقة القرن" أو "خارطة" القرن الأميركيّة بعد شهر رمضان حسب تصريحات مسؤولين أميركيين؛ مُحاكمة نتنياهو والحصانة الائتلافيّة، وما يترتّب عليها من سياسات داعمة للائتلاف الاستيطانيّ في الضفّة الغربيّة؛ إيران وحزب الله والجبهة الشماليّة؛ قطاع غزّة؛ إلى جانب أزمة قانون التجنيد التي لا تزال تهدّد الائتلاف الذي لم يتشكّل بعد، وتعصف بالمفاوضات الائتلافيّة إثر خلاف بين حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرلمان وأحزاب الحريديم التي ترفض القانون.

ومن هذه المنطلقات، ستعمل هذه الورقة على قراءة الانتخابات، ونتائجها، والتحدّيات المُقبلة بخصوص القضيّة الفلسطينيّة، في مُحاولة لإجراء قراءة شاملة لمرحلة ما بعد الانتخابات.

نتائج الانتخابات: تجديد ثقة رغم خيانة أمانة

كانت نتائج الانتخابات بمنزلة تجديد الثقة لنتنياهو كرئيس حكومة، رغم وجود ثلاثة ملفّات قضائيّة ضدّه تتهّمه بخيانة الأمانة وتلقّي رشاوى. وهذا لم يكن عفويًا، إذ قام نتنياهو طيلة الحملة الانتخابيّة التي قادها بنفسه، ببناء الرأي العام الإسرائيليّ ليكون منقسمًا إلى اثنين: نتنياهو وشخصه كرئيس حكومة رغم تهم الفساد أم لا؛ حكومة يمين قويّة ومستقرّة برئاسة نتنياهو، أم حكومة "يسار" برئاسة يائير لابيد، رغم عدم وجود أي يسار فعليّ في إسرائيل.

وذهب نتنياهو أبعد من ذلك، إلى شق الساحة الإسرائيليّة كليًا إلى مُعسكرين. ففي خطابه الذي ألقاه في سوق "محانيه يهودا" مثلًا في مدينة القدس المُحتلة، استنفر اليمين الإسرائيليّ للتصويت لصالح الليكود، مشيرًا إلى الخطر الداهم في حال عدم حصول الليكود على أكبر عدد ممكن من المقاعد تحت شعار "سنقوم بعد الانتخابات على حكومة يسار يرأسها يائير لابيد". ولم يكن اختيار السوق، أو التهديد، إلّا دلالة أولًا على تحريض الطبقات الشعبيّة الشرقيّة التي تشكّل أساس قاعدة الليكود الانتخابيّة، وعلى نيّته تكديس مُعسكر اليمين في يديّ الليكود رغم ما يشكّله ذلك من خطورة على أحزاب اليمين الصغيرة عمومًا. وليخلق بهذا استقطابًا حادًا دفعت ثمنه فعليًا الأحزاب الصغيرة من معسكره.

تشير بعض التحليلات إلى أن هذا الاستقطاب الحاد، الذي أجّجه نتنياهو بين حزبين كبيرين، هو الأكبر تاريخيًا في الانتخابات الإسرائيليّة. من الجانب الآخر، دفع هذا الاستقطاب الحاد بقيادة حزب "أبيض أزرق" إلى تأجيج الاستقطاب داخل مُعسكره أيضًا ليلحق بالليكود ونتنياهو سعيًا للفوز بتشكيل الحكومة. أمّا النتيجة، فكانت تحطيم كلّي للمُعسكر، فحصل على الأصوات من حزب "العمل" و"ميرتس" وليس من مُعسكر نتنياهو، ما جعل "أبيض أزرق" غير قادر على تشكيل حكومة رغم عدد المقاعد المُرتفع الذي حاز عليه التحالف. في المقابل، كان معسكر نتنياهو ذاته متوازنًا رغم سقوط قائمة "اليمين الجديد" التي راحت ضحيّة حرب نتنياهو الشعواء في مُعسكر اليمين واستقطابه الجميع للتصويت لحزب "الليكود".

نجح نتنياهو في المحصّلة بالحصول على 35 مقعدًا لليكود، وهو انتصار تاريخيّ للحزب، الذي ارتفع 5 مقاعد مقارنة بالانتخابات السابقة، وهو العدد الأكبر منذ 5 دورات انتخابيّة يحققه الحزب، ما يدل فعليًا على دعم جارف، وعلى نجاح إستراتيجيّة نتنياهو الانتخابيّة التي يُمكن تركيزها في عاملين مهمّين: اصطناع "يسار" غير موجود فعليًا، والبدء بالتهويل والتخويف منه؛ تحويل العملية الانتخابية إلى اقتراع على حكمه الشخصيّ. وطبعًا، هذا يأتي بعد سنوات طويلة من الهجوم على الإعلام ومؤسسات الدولة، خاصة القضائيّة والتنفيذيّة، واعتبارها متآمرة على حكمه، ما يجعل من حملة انتخابيّة ترتكز على حكم نتنياهو منطقيّة في ظل هجوم قضائيّ إعلامي نخبويّ على ذاته وعائلته.

من جهة أخرى، نجح نتنياهو رغم الاستقطاب الحاد، بالحفاظ على معسكره. فمن جهة، هو يضمن أحزاب الحاريديم التي تُعاديّ لابيد، ووصلت إلى حد الدعاء عليه "الموت ليائير لابيد"، لما يُشكّله من خطر على ميزانياتها وعداء للحاريديم الذين يدّعي أنهم لا يقدّمون شيئًا للدولة ويعيشون على حسابها، ما استنفر قياداتها الروحانيّة للدعوة للتصويت خوفًا من وصول لابيد إلى الحكم. وهو ما يفسّر النجاح الكبير الذي حقّقته الأحزاب الحاريديّة بنجاح القائمتين سويًا بالحصول على 16 مقعدًا، أي بارتفاع 3 مقاعد كاملة عن الدورة السابقة. كما نجح نتنياهو في توحيد أحزاب اليمين الكاهانيّ المتطرّف التي كان من الممكن لولا وحدتها ألا تعبر جميعها نسبة الحسم، ما كان سيفتّت المُعسكر الذي يعتمد عليه نتنياهو. وليس اعتباطًا، رفع الحاريديم خلال احتفالاتهم بعد نتائج الانتخابات دمية لنتنياهو العلمانيّ.

المُفاجأة الأخرى في هذه الانتخابات، كانت حصول حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة ليبرمان، على 5 مقاعد، الذي تنبأت الاستطلاعات بعدم اجتيازه نسبة الحسم. هذه المفاجأة عمليًا، جعلت من ليبرمان ميزان الحكومة، وجعلت من وجوده في الحكومة شرط وجود الحكومة ذاتها. فمن دون ليبرمان لا يملك نتنياهو 61 عضو كنيست، وهو ما سيُفضيّ إلى إحدى الخيارات الآتية: إمّا حكومة وحدة وطنيّة مع "أزرق أبيض" وهو ما يرفضه "الليكود" بزعم أن الشعب اختار اليمين، وبالتاليّ يتوجب بناء حكومة يمين؛ وإمّا إعادة الانتخابات من جديد بسبب عدم قدرة أي من الكتل الأساسيّة على تشكيل حكومة؛ وإمّا تفكيك "أزرق أبيض" وضم بيني غانتس إلى الحكومة بعد انفصاله عن يائير لابيد وموشيه يعالون، اللذين صرّحا بعدم نيّتهما الجلوس مع نتنياهو في ذات الحكومة تحت لائحة اتهام.

في ضوء ذلك، يُصبح ليبرمان عمليًا، الكرت الأصعب والأكثر أهميّة في المفاوضات الائتلافيّة الجارية. وهنا تكمن أزمة ائتلاف نتنياهو التي بدأت حتى قبل تشكيله، حول قانون التجنيد. وهو القانون الذي يصر ليبرمان على تمريره، وترفض أحزاب الحاريديم تمريره بصيغته الحاليّة. ويهدف القانون إلى رفع نسبة وجود أبناء الحاريديم، وطلّاب المدارس الدينيّة في المؤسسة العسكريّة: إمّا من خلال التجنيد الفعليّ في الجيش، أو من خلال الانخراط في الخدمة الوطنيّة. وينص القانون على أنّه يتوجّب على المدارس الدينيّة إرسال طلّابها إلى الخدمة العسكريّة، ويحدّد السقف الأدنى من المتجندين للجيش بـ 3648 مجنّدًا تزداد تدريجيًا حتّى يصل العدد في العام 2027 إلى 6844 مجنّدًا. وفي حال لم تقم المدارس الدينيّة بتوفير العدد الوارد في القانون، تقوم الدولة بفرض عقوبات اقتصاديّة على المدرسة التوراتيّة. وهو ما ترفضه الأحزاب الحاريديّة، ويتمسّك به ليبرمان الذي صاغه وقدّمه أصلًا للكنيست خلال وجوده في منصب وزير الأمن.

على الرغم من هذا الخلاف المرشح للتصاعد خلال المفاوضات الائتلافيّة لتشكيل الحكومة، فإن التوقّعات تشير إلى أن الأحزاب الحاريديّة، رغم تصريحاتها بأنّها جاهزة للانتخابات، بما فيها تصريح زعيم حزب "يهادوت هتوراة" بأنه أوعز بعدم تفكيك المقارّ الانتخابيّة، ستوافق على صيغة مخفّفة من القانون يتم من خلالها إلغاء العقوبات الاقتصاديّة. وهذا يعود أساسًا إلى القوة التي اكتسبتها الأحزاب الحاريديّة وليبرمان سويًا خلال الانتخابات الحاليّة، ولن يكون من السهل التنازل عنها والذهاب إلى انتخابات جديدة. لذلك، من المرجح أن يوفّر نتنياهو و"الليكود" من خلفه، المعادلة اللازمة لنزول كل من الطرفين عن الشجرة وتشكيل حكومة "يمين مستقرّة" كما يصفها نتنياهو.

أمّا الأزمة الأخرى التي تخيّم على المفاوضات الائتلافيّة، ولا تزال تشغل الإعلام والنخب الإسرائيليّة عمومًا، ملف "وزارة القضاء"، الذي بات محل اهتمام خاص، بعد أن بدأت الوزيرة السابقة أييلت شاكيد، بإجراء تغييرات جذريّة في الجهاز كجزء من خطّة اليمين الاستيطانيّ للسيطرة على المحكمة العليا التي باتت تشكّل عائقًا أمام مشروعه الاستيطانيّ في الضفّة الغربيّة، ويحتاج إلى تغييرات في بنية القضاء لتشريع الاستيطان "غير الشرعيّ" من خلال القانون. هذا طبعًا، بالإضافة إلى ملفّات نتنياهو التي ستكون في أروقة المحاكم ذاتها. وبالتاليّ، فإن وزارة القضاء، وهويّة الوزير، وموقفه من المؤسسة القضائيّة، بمنزلة الملف الأهم والسؤال الأكثر أهميّة، لما سيشكّله ذلك من دلالة على نوايا نتنياهو تجاه المؤسسة القضائيّة.

الحكومة المُقبلة: أكثر استقرارًا وأكثر عدوانيّة

من المتوقّع أن تتشكّل حكومة نتنياهو المُقبلة من كُل من: الليكود (35)؛ الأحزاب الحاريديّة (16)؛ كولانو (4)؛ ائتلاف أحزاب اليمين (5)؛ إسرائيل بيتنا (5). ويشكّلون سويًا 65 عضو كنيست، وهو ائتلاف مستقر نسبيًا. أمّا السيناريو الآخر الذي لا تستبعده الورقة، خاصة على المدى البعيد، أي بعد تشكيل الحكومة، فهو سيناريو تفكيك ائتلاف "أبيض أزرق"، وانضمام أطراف بداخله لحكومة نتنياهو، وهو ما يذكّرنا بما قام به نتنياهو مع ائتلاف "المعسكر الصهيونيّ"، إذ أدار طيلة أشهر مفاوضات مع إسحاق هرتسوغ لضمّه إلى الائتلاف الحكوميّ دون أن تُفضيّ المفاوضات إلى أي خطوة جديّة، باستثناء تفكيك المعسكر الذي طرح ذاته بديلًا لنتنياهو، وفاوض على الانضمام إلى حكومة نتنياهو ذاته.

ومن المهم الإشارة إلى أن هذه المفاوضات كانت بذريعة خطّة قدّمها الرئيس المصريّ عبد الفتاح السيسيّ، لإحياء المسار السياسيّ مع الفلسطينيين. وهو ما يلتقيّ مع نيّة الإدارة الأمريكيّة طرح رؤيتها في المرحلة المُقبلة، ما من شأنه أن يدفع نتنياهو إلى القيام بذات السيناريو وإجراء مفاوضات مع غانتس تحت ذريعة رفض أحزاب اليمين ونيّته السير في المسار السياسيّ وعدم رفض خطّة ترامب، وحاجته إلى حلفاء يدعمون هذا التوجّه في ظل رفض أحزاب اليمين للخطة الأمريكيّةK وأي مُفاوضات مع الفلسطينيين. وعلى الرغم من أن هذا السيناريو غير مستبعد كليًا، إلّا أن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو توجّه نتنياهو بداية إلى تشكيل الحكومة بالائتلاف القائم، ومن ثم قد يسعى إلى توسيعها خلال الدورة الانتخابيّة ذاتها.

لا يمكن قياس الانتخابات بنتائجها فقط، إذ إنها عبارة عن مسيرة من الدعاية وبث المضامين السياسيّة والاجتماعيّة، كما أنّها التفاعل الأوضح والأكثر اشتباكًا بين النُخب والقاعدة. لذلك، من الضروريّ جدًا قراءة نتائج الانتخابات ضمن سياق مجمل العملية ذاتها: مُعسكر واحد سياسيّ يرفض الاعتراف بحق الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره وبناء وطنه وسيادته على أرضه، ومصيره السياسيّ. هذا فعليًا ما كان واضحًا للغاية خلال الانتخابات الأخيرة. وهو ما يضع استنتاج فوز اليمين أو "حكومة اليمين" أو "أكثر يمينيّة" أصلًا في محل سؤال. فالنظر إلى احتمالات وسيناريوهات نتائج مُختلفة عن النتائج الحقيقيّة، كان سيكون أيضًا حكومة يمين، في خارطة سياسيّة بات اليمين فيها هو الطرف الوحيد، وكُل ما يجري من خلافات وصراعات هي صراعات داخليّة تحت سقف أيديولوجيا اليمين وفي غرفته الداخليّة وفلكه السياسيّ.

بكلمات أخرى: بات جدار جابوتنسكي الحديدي جدارَ الخارطة السياسيّة الإسرائيليّة ومحل إجماعها، وكُل ما خلفه يتبدّد تدريجيًا. لذلك، فإن نتائج الانتخابات تعبّر فعليًا عن مُعسكر مُتماسك يملك رؤية وطرحًا سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًا أمام أطراف منافسة مفكّكة، أكثر من كونها تعكس اختلافات أو توجّهات مُختلفة أيديولوجيًا: مُعسكر واضح متماسك يتشكّل من الحاريديم والليكود واليمين الدينيّ. ومع التماسك، تأتي العدوانيّة الصهيونيّة تجاه ما تبقّى من الضفّة الغربيّة تحديدًا، حيث المشروع في أوجه، والسياسات تتراوح ما بين الضم الرسمي والضم التدريجيّ الذي يجريّ أصلًا ماديًا على الأرض.

على الصعيد الأيديولوجيّ، يُمكن القول إن الحكومة الحاليّة التي ينوي نتنياهو تشكيلها تتراوح ما بين جابوتنسكي واليمين القوميّ، الذي يرى في القوّة المُفرطة الأساس الذي يبني عليه سيطرته على الفلسطينيين والعرب عمومًا؛ وبين اليمين الكهانيّ الذي يرى في أرض إسرائيل الكُبرى التوراتيّة أساس الحكم، ويرى كُل من يسكنها من غير اليهود خدمًا لليهود وأغيارًا. فيشكّل حزب "إسرائيل بيتنا" وما يُعادل نصف "الليكود" الشق اليمينيّ القوميّ في الحكومة، ويُمثّل "ائتلاف أحزاب اليمين" الشق الكهانيّ، وما بينهما "الحاريديم" الذي تحالف مع اليمين القوميّ إستراتيجيًا للحفاظ على ميزانيّاته ومواقعه التي يهدّدها اليمين العلمانيّ الاجتماعيّ الذي يمثّله لابيد وغانتس.

أمّا المُثير للاهتمام أكثر، فهو تحوّل الحزب الموازن للحكومة، من حزب "كولانو" الذي حاز في الانتخابات السابقة على 8 أعضاء كنيست، إلى حزب "إسرائيل بيتنا". إذ على الرغم من أن كليهما يمين قوميّ، إلّا أن رؤية كحلون الذي أطلق حملته الانتخابيّة تحت شعار "يمين عاقل"، للعلاقة ما بين القضاء والتشريع تختلف كليًا عن رؤية ليبرمان الذي يهتم بملف الأمن على حساب الملفّات الأخرى، ويُعاديّ القضاء لأسباب عدّة أهمها الملفّات الجنائيّة التي أطاحت بالعديد من المقرّبين منه، ما يرجّح أن تكون الحكومة المُقبلة أكثر عسكريّة وأمنيّة وعدوانيّة تجاه الفلسطينيّين وقضيّتهم السياسيّة.

على الرغم من سقوط حزب "اليمين الجديد" في الانتخابات، إلّا أن من استبدل بنفتاليّ بينيت وأييلت شاكيد، هما: الحاخام رافي بيرتس، وبتسلئيل سموترتش، وهو المُبادر لخطّة الحسم التي بموجبها يوجد أمام الفلسطينيّين ثلاثة خيارات: إمّا خدمة اليهود؛ أو الهجرة من "أرض إسرائيل"؛ أو المُقاومة والموت على يد الجيش. أمّا أسباب هذا الاستبدال، فتعود أولًا إلى الخطوة التي اتخذها كُل من بينيت وشاكيد بالانفصال عن "البيت اليهوديّ" وتشكيل حزب "اليمين الجديد"، وهو ما اعتبرته الصهيونيّة المتديّنة طعنة في الظهر. وثانيًا، إلى الائتلاف الذي شكّله نتنياهو في أحزاب اليمين، ما وحّد الصهيونيّة الدينيّة. وثالثًا والأهم، الاستقطاب السياسيّ الحاد، الذي قاده نتنياهو أيضًا، ما حوّل الانتخابات إلى انتخابات بين معسكرين، دفعت ثمنها الأحزاب الصغيرة بين "الليكود" و"أبيض أزرق".

التحدّيات أمام الحكومة: صفقة وخطّة وغزّة

من المتوقّع أن تواجه الحكومة المُقبلة ثلاثة ملفّات أساسيّة ومحوريّة: أولًا "صفقة القرن" المتوقّع عرضها بعد نهاية شهر رمضان؛ وثانيًا ملف غزّة والتهدئة مع "حماس" أو الحرب؛ وثالثًا الجبهة الشماليّة، وتتمثّل في "حزب الله" وسوريا وإيران.

وعلى الرغم من أنّ هناك إجماعًا إسرائيليًّا داخليًّا على دعم سياسة نتنياهو بكُل ما يخص الجبهة الشماليّة، حيث يُوافقه الجميع، بلا استثناء في الخارطة السياسيّة، على أهميّة الاستمرار في قصف موارد حزب الله وإيران في سوريا، إلّا أن الملفّين الآخرين يعدّان إشكاليّين: مُعارضة ليبرمان العلنيّة لسياسة نتنياهو تجاه القطاع؛ ومُعارضة أحزاب اليمين المتطرّف العلنيّة لصفقة القرن وأي مُفاوضات من شأنها أن تحقّق نوعًا من التجميد لمشروع استيطان وضم الضفّة الغربيّة. هذا طبعًا، بالإضافة إلى استقالة ليبرمان من منصب وزير الأمن، بسبب سياسات نتنياهو وتحويل الأموال إلى القطاع مُقابل تهدئة أمنيّة طويلة الأمد، الأمر الذي يُنذر بنيّته الاستمرار في مُعارضة التهدئة بالشكل الحاليّ الذي يقوده نتنياهو. وهو ما أعلنه الحزب قبيل إعلان بدء المُفاوضات الائتلافيّة مع الليكود، بأنّه سيكون أكثر حزمًا بخصوص قطاع غزّة، وسيضمن الهدوء لمستوطنات الجنوب. وبالتاليّ، ستكون أمام الحكومة عمليًا ملفّات يجب اتخاذ قرارات بشأنها، وهي الملفّات السياسيّة- الأمنيّة التي تهم الحالة الفلسطينيّة بالدرجة الأولى.

أولًا: بالنسبة إلى صفقة القرن، فإن غالبيّة التحليلات الإسرائيليّة تُشير إلى حقيقة أن نتنياهو لن يستطيع رفض الصفقة بشكل كامل، خاصة بعد أن قدّم له الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب الكثير، بدءًا من اعتبار القدس المُحتلة عاصمة إسرائيليّة، مرورًا بالاعتراف بالسيادة الإسرائيليّة على مرتفعات الجولان، حتّى استقباله استقبال النجوم في البيت الأبيض، وصولًا إلى استغلاله العلاقة الثنائيّة بين الرئيسين في الحملة الانتخابيّة. وبالتاليّ، تُشير ذات التحليلات والتسريبات إلى أن الرد الإسرائيليّ على الصفقة سيكون ما بين التعويل على رفض الفلسطينيّين للصفقة وما بين قبولها، ولكن! وهو ما يعنيّ قبول الصفقة، مع المُطالبة بإدخال تعديلات ومُفاوضات وسياسات لا تنتهيّ حتّى نهاية الصفقة ذاتها.

وفي هذه الحالة، أي إذا قبل الفلسطينيون الصفقة أو التفاوض بشأنها أو اعتبارها أساسًا للمُفاوضات، فمن شأن ذلك أن يكون الأساس الذي سينطلق منه نتنياهو لبناء تحالفات علنيّة وعلاقات تطبيعيّة مع العالم العربيّ، تحقيقًا لرؤيته التي تنص على أن العرب أولًا، ومن ثم يلحق الفلسطينيّون بعد العرب بالاتفاقيّات. وهو ما يعني تطبيعًا مُقابل تفاوض دون أفق نهائيّ أو حل نهائيّ أو اتفاقيّة نهايّة.

أمّا في حال رفض الفلسطينيّين الصفقة كليًا، فتُشير التحليلات إلى أن نتنياهو سيعتمد على الرفض الفلسطينيّ ليطرح ذاته كرجل سلام أمام رفض الفلسطينيّين للسلام والتفاوض، ما سيعزّز من علاقته بالإدارة الأميركيّة، ويضر أكثر بالعلاقة المتضرّرة أصلًا بين الولايات المتحدة والقيادة الفلسطينيّة.

بحسب التسريبات، والسياسات الماديّة على الأض، وتصريحات الرئيس الأميركيّ حول الاستيطان، وبأنه لا يشكّل عقبة أمام "السلام"،  إلى جانب الهجوم الذي شنّته الإدارة الأمريكيّة على وكالة غوث اللاجئين، وصولًا إلى الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيليّة بهدف إسقاطها من قضايا الحل النهائيّ، فإن "صفقة القرن" لن تكون أكثر من إعادة مأسسة لواقع المعازل التي يعيش فيها الفلسطينيّون في الضفّة، ويُحيطها الاستيطان. وبكلمات أخرى: لم يعد أصلًا من أمل أن تكون الصفقة أكثر من تكريس القائم، بدءًا من الاستيطان الذي نهش الأرض الفلسطينيّة وتواصلها الجغرافيّ، وصولًا إلى الاستهداف اليوميّ للإنسان الفلسطينيّ عبر الحواجز ومنظومات السيطرة الإسرائيليّة والجيش، وعبر المستوطنين كجيش من المسلّحين المنفلتين في الضفّة.

الأخطر، أن القبول بالصفقة، أو مجرّد التفاوض انطلاقًا منها، من الممكن أن يكون الذريعة الأساسيّة لبعض الدول العربيّة التي تسعى للتطبيع مع إسرائيل، ما من شأنه أن يشكّل ضربة قاسمة للقضيّة الفلسطينيّة وبعدها العربيّ لمواجهة المشروع الاستعماريّ. ومن هذا الباب، فإن الصفقة تُعد بالنسبة إلى إسرائيل، فرصة للتطبيع مع جزء مهم من العالم العربيّ الذي لا يزال يرفض علنيًا على الأقل، الاعتراف بشرعيّة المشروع الصهيونيّ والتعامل معه. ولذلك فقط، ترى الورقة أن نتنياهو سيعمل جاهدًا على تحويل الصفقة من صفقة فلسطينيّة- إسرائيليّة إلى صفقة إسرائيليّة- عربيّة في مواجهة المد الإيرانيّ الذي يرى فيه عدوًا مشتركًا وذريعة للتطبيع. وهنا تحديدًا، تكمن خطورة الصفقة في أن تتحوّل إلى صفقة إقليميّة دون فلسطين، وهي رؤية نتنياهو الأساسيّة للسلام مع العالم العربيّ على أساس نديّة دون تقديم تنازلات.

أمّا بالنسبة إلى غزّة، فعلى الرغم من خلافات ليبرمان- نتنياهو، يتوقّع أن تستمر سياسة التهدئة والتسهيلات الاقتصاديّة في حال استمر الهدوء الأمنيّ على الشريط الحدوديّ. ولكن هذه الفرص الاقتصاديّة من شأنها أن تكون كارثيّة على القضيّة الفلسطينيّة إذا ما وُضعت ضمن السياق السياسيّ- المادّي الذي تعيشه القضيّة الفلسطينيّة: التهدئة الأحاديّة مع "حماس" من شأنها أن تعمّق حالة الانقسام السياسيّ، وتكرّس وتمأسس ثنائيّة الضفّة- غزّة من حيث المصير السياسيّ، خاصة أن الضفّة تواجه في ذات الوقت وذات المرحلة أسفل مُخطّطات ضمّها وتصفية الوجود الفلسطينيّ فيها؛ اتفاقيّات اقتصاديّة- أمنيّة دون بُعد سياسيّ من شأنها أن تكون تدريجيًا الأساس الذي تبني عليه إسرائيل روايتها بأن القضيّة في غزّة ليست قضيّة سياسيّة، وإنّما قضيّة إنسانيّة؛ ثالثًا والأهم، الإسقاطات الكارثيّة للاستمرار بالتعامل مع القضيّة وفق منطق الخصوصيّات بدلًا من إعادة بناء مشروع وطنيّ جامع يُعالج كافة الملفّات، ويدرسها ضمن منطق الكُل الفلسطينيّ.

وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن صحيفة "هآرتس" نشرت في وقت سابق، مسودّة تفاهمات بين "إسرائيل "و"حماس" برعاية مصريّة تنص على توسيع دائرة الصيد البحريّ، وتوفير وظائف، بالإضافة إلى محطّة تحلية مياه بحر ومحطّة توليد كهرباء. وهو ما يدل على أن المُفاوضات ما قبل الانتخابات، ستستمر إلى ما بعد الانتخابات مع حكومة أكثر استقرارًا. أمّا على الأمد الطويل، فإنّه من الواضح أن إسرائيل تسعى عمليًا لإدخال "حماس" في مربّع التفاوض على طريق تغييرها جوهريًا وفق سياسة المقايضة الاقتصاديّة بالأهداف السياسيّة- الإستراتيجيّة، ما يضعنا أمام سيناريو شبيه إلى حد بعيد بالتجربة التي خاضتها منظّمة التحرير الفلسطينيّة مع الاحتلال، وأفضت إلى سُلطة مرتبطة بنيويًا بالنظام الاستعماريّ عبر اتفاقيّات وتعاون اقتصاديّ إداريّ أمنيّ.

الضفّة الغربيّة: ضم وتصفية

تنتهي الانتخابات الإسرائيليّة ليفتتح مع نهايتها مسار تصفية نهائيّ للضفّة الغربيّة عبر بداية مسار الضم القانونيّ والسياسيّ، وهو ما يتضمّن أيضًا الوجود السياسيّ والجغرافيّ الفلسطينيّ فيها، ما له إسقاطات تصفويّة أيضًا على القضيّة الفلسطينيّة ككُل والبرنامج السياسيّ الذي يتبنّى الدولة عل حدود العام 1967. وهو ما أشارت إليه القناة الإسرائيليّة "كان"، إذ أشارت أن الضفّة الغربيّة وضمّها أو ضم أجزاء منها، لا يزال مطروحًا ضمن المفاوضات الائتلافيّة. فالحكومة الإسرائيليّة المُتوقّعة، ورئيسها، صرّحوا مرارًا، وفي المرة الأخيرة كانت خلال الدعاية الانتخابيّة، بنيّتهم ضم أجزاء من الضفّة الغربيّة. وما تجديد شرعيّة حكم نتنياهو وائتلافه الحكوميّ السابق والحاليّ، بكُل ما يمثّله، إلّا تجديدًا للخطاب السياسيّ والخطّة الاستعماريّة بضم الضفّة الغربيّة، ولو تدريجيًا دون السكّان كما يطرح الليكود واليمين القوميّ عمومًا في إسرائيل . فبعد سنوات طويلة من الاستيطان والبناء والتهديد والوعيد بالضم، تؤكد التجربة أن نتنياهو يتعامل وفق إستراتيجيّة واضحة، يطرح الموضوع، ويُعيد طرحه مرّة أخرى، ويُعيد الطرح مرّة تلو المرّة حتّى يغدو محل إجماع سياسيّ، ثم يُعلن عن تطبيقه. هذا ما حصل مع اقتطاع أموال المقاصّة، وهذا ما حصل أيضًا مع ضم القدس، وهذا ما يتوقّع أن يحصل مع الضفّة الغربيّة أيضًا، ولو بصورة تدريجية تبدأ بالمستوطنات الكبيرة والمناطق المُحيطة بها.

يضاف إلى ما سبق، عامل مهم جدًا، وهو حاجة نتنياهو إلى البقاء في الحكم. والبقاء في الحكم يحتاج إلى قانون حصانة أو "قانون فرنسيّ" يضمن عدم محاكمة رئيس حكومة خلال فترة ولايته. ولتحقيق ذلك، فإنّه بحاجة إلى ائتلاف قويّ جاهز لدعمه في قوانين تضرب صلب المؤسسة القضائيّة والتشريعيّة الإسرائيليّة. ويستبعد المحلّلون الإسرائيليّون، ومنهم الأكثر يمينيّة كعاميت سيغيل المحلّل في "القناة الثانيّة"، ورافيف دروكر في قناة "الأخبار"، أن يكون لدى نتنياهو ائتلاف أقوى ممّا لديه الآن، وعلى جاهزيّة لضرب مؤسسات الدولة مُقابل تحقيق مكاسب سياسيّة: الحاريديم على جاهزيّة تامّة لدعمه ودعم بقاء سُلطته مُقابل ميزانيّات وقانون تجنيد؛ ليبرمان يُعاديّ الأجهزة التنفيديّة التي حقّقت في قضايا فساد بحزبه؛ وائتلاف أحزاب اليمين اقترح من ذاته قانون الحصانة مُقابل ضم مناطق في الضفّة الغربيّة.

وبحسب تسريبات إسرائيليّة، فإن نتنياهو جاهز لضم الضفّة الغربيّة مقابل البقاء في السُلطة. وهنا تحديدًا، تكمن الخطورة على الضفّة ومستقبلها إن كان الجغرافيّ أو السياسيّ بوصفها أساس النظام السياسيّ الفلسطينيّ والهدف السياسيّ في إطار "حل الدولتين".

ومن هذا المبدأ، يمكن النظر فعلًا إلى الدورة الانتخابيّة المقبلة على أنّها دورة بداية ضم أجزاء من الضفة الغربيّة إلى القانون المدنيّ الاستعماريّ الإسرائيليّ. أمّا بخصوص الطريقة، فإن التسريبات والرؤى تشير إلى نيّة إسرائيل البدء بضم المناطق المحيطة بالقدس، وخاصة مناطق (ج)، على طريق ربط المستوطنات المُحيطة بالقدس في مركز المدينة ذاتها، والبدء في المستوطنات الكبيرة كـ"معاليه أدوميم" و"غيلو" وغيرهما من المستوطنات المُقاومة بين القدس وامتدادها في الضفّة؛ وذلك بهدف ربط القدس الإسرائيليّة بمحيطها الاستيطانيّ وعزل القدس الفلسطينيّة عن امتدادها في الضفّة، وخاصة رام الله وبيت لحم.

هذا بالإضافة إلى سلّة من القوانين الاستيطانيّة التي من الممكن أن تُمرر خلال الدورة الانتخابيّة المقبلة بهدف إضعاف المؤسسة القضائيّة لصالح المؤسسة التشريعيّة، الأكثر تطرفًا وأقل اهتمامًا بالرأي العام الدوليّ والعالم والقانون الإنسانيّ، وخاصة حين يتم الحديث عن حكومة يتنازع فيها كُل من يريف لفين، وهو رئيس الكنيست السابق وأحد أكثر الشخصيّات أيديولوجيّة في الليكود، وبتسلئيل سموتريتش الذي رفض أن تلد زوجته في غرفة واحدة مع عربيّة، على ملف "وزارة القضاء"، وهو ما يدلّل مرّة أخرى على أهميّة هذا الملف بالنسبة إلى الحكومة المُقبلة. وبالتاليّ، ترى الورقة أن الضفة ستكون عنوان  الدورة الانتخابيّة المُقبلة، وعلى الفلسطينيين التجهز لمثل هذا السيناريو الوارد جدًا، والتدريجيّ، الذي يهدف إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة كليًا، وتحويلها إلى قضايا معازل وخصوصيّات اقتصاديّة إداريّة دون أي بعد سياسيّ وقوميّ.

الخُلاصة: تحدّيات تصفويّة وحالة هشّة

أمام هذه التحدّيات التصفويّة للقضيّة الفلسطينيّة، والمخطّطات الهادفة أولًا لتفتيتها إلى قضايا متفرّقة والاستفراد بكُل منها على حدا: تهدئة اقتصاديّة في غزّة؛ ضم الضفّة؛ وقانون قوميّة للداخل، إضافة إلى الخطر الداهم على البعد العربيّ، وما يعانيه الإقليم من تفتّت وهرولة نحو التطبيع مع إسرائيل؛ تعيش الحالة السياسيّة الفلسطينيّة تفتّتًا واضحًا وانقسامًا يتكرّس وسط حالة من غياب الرؤية أو المشروع، أو حتّى الإستراتيجيّة للتعامل مع حجم التحدّيات المُقبلة. فعلى الرغم من المخاطر التي أقل ما يُقال عنها تصفويّة، لا تزال القيادات الفلسطينيّة تتمسّك بسيطرتها وانفرادها وسُلطتها وانقسامها على ذاتها، بدلًا من الجلوس على طاولة حوار لبحث سبل التصدّي لمثل هكذا مخطّطات، وتحقيق وحدة إستراتيجيّة بهدف إفشال هذه المخطّطات على طريق مُقاومة المشروع الاستعماريّ، الذي لا يزال يتماسك ويتصلّب ويتعمّق، ولا يرى منه الفلسطينيّ في الحاضر والأفق، سوى الإلغاء والمحو على طريق المحو الكلّي المادّي والرمزيّ لتحقيق دولة اليهود النقية على أرض فلسطين التاريخيّة.

من هذا المبدأ، ترى الورقة اليوم أكثر من أي وقت مضى، الحاجة إلى إعادة بناء الحالة السياسيّة الفلسطينيّة على أساس كفاحيّ يضع قضايا التجمّعات الفلسطينيّة المُختلفة ضمن إستراتيجيّة نضاليّة وكفاحيّة تعمل كالمنظومة الواحدة بهدف التصدّي وإفشال هذه المخطّطات. وهذا ممكن، في حال توفّرت الإرادة السياسيّة أولًا لبناء حالة كفاحيّة، ومن ثم إنهاء انقسام الفصائل والأحزاب والقوى على طريق إعادة بناء جسم سياسيّ فلسطينيّ قادر ومتمكّن من تمكين الشعب على الصمود في وجه المخاطر التي تهدّد وجوده ووجود البنى السياسيّة ذاتها، التي تقتل إسرائيل وتغيّر فيها جذريًا كُل يوم من جديد، وسط ركود سياسيّ وانعدام فعليّ للمبادرة السياسيّة.

كما ترى الورقة أهمية فائقة لإعادة بناء حالة موحّدة فلسطينيّة من شأنها أن تكون أولًا وقبل كُل شيء عنوانًا للحالة الفلسطينيّة بدلًا من عناوين وقضايا مفرّقة وموزّعة، ومن ثم وضع إستراتيجيّة موحّدة تجيب عن التحدّيات، وتحافظ على وجود الشعب، في ظل وجود مشروع نقيض استعماريّ يسعى بشتّى الطرق لتشتيته وتفتيته، رمزيًا من خلال استهدافه السياسيّ والاجتماعيّ، وماديًا من خلال عزله في مخيّمات كبيرة ومعازل مُحاطة بالمستوطنات، مؤقتًا، على طريق التخلّص منه كليًّا.